
دعونا نتفق من البداية، لا مجال للإنخداع ببريق المصطلحات. حين ينهلون من مصطلحات «الحلول المؤقتة» و«مبادرات السلام» علينا أن نتذكّر أن الذئب في لباس دبلوماسي لا يبتسم بإختياره، إنما يخفي أنيابه استعدادًا للإنقضاض. هذه العبارات الناعمة ليست سوى واجهات سياسية تُستخدم لتمهيد مساحات نفوذ مؤقتة تُفضي إلى انقضاض استراتيجي على الشعوب وإراداتها.
وعندما يلتقي السلاح بالخدعة السياسية تتحول الخطط المبرمجة إلى حريق يصعب إطفاؤه، عبر موجات انتقام عبر الوكلاء، وتعطيل للملاحة والطاقة والمياه، وتورط قوى كبرى قادره على تحويل صراع محلي إلى نزاع عالمي يعيد رسم خرائط النفوذ بالقوة لا بالتوافق.
المنطقة تقف اليوم على حافة انفجار رهيب، من شرقها وغربها، ثمة تلازم مقلق بين تحريك الآلات العسكرية والاستخباراتية لتوجيه ضربة افتتاحية واستثمار خرائط سياسية زائفة، تتجسّد أخيراً في ما يُسوَّق له كخطة «غزة» على الطريقة الأميركية. هذه الخطة، التي تُقدَّم كحل دبلوماسي، ليست بريئةـ إنها غطاء لتثبيت نفوذ محدَّد وإحداث تبدلات ديموغرافية وسياسية تخدم مشروعًا إقليميًا أعرض من مجرد «ترتيب» أو «سلام». وفي الجهة المقابلة ، هنالك الضربة العسكرية المحتملة ضد إيران والتي ليست مجرّد عملية عسكرية ذات هدف تقني بتعطيل القدرات بل محاولة لإعادة هندسة التوازنات الإقليمية، تفكيك شبكات نفوذ، وخلق فراغ سياسي يمكن ملؤه ببدائل محسوبة بدقة .
قرار توجيه ضربة شاملة لإيران لم يولد من فراغ، بل هو نتيجة تقاطع حسابات أمنية إقليمية مع مخاوف غربية وإسرائيلية من استمرار برنامج نووي يُنظر إليه كعامل تهديد دائم. لكنّ المبررات المعلنة لا تكشف الصورة كاملة، فإستهداف البنية العسكرية والنووية هو فقط رأس الهرم في مشروع أوسع يتضمن أدوات غير تقليدية( حرب سيبرانية ، عمليات سرية لإستهداف قيادات، ودعم جهات داخلية وخارجية تُسهِم في توليد الفوضى السياسية والاجتماعية). هذا المزيج يقلل من التكلفة السياسية والعملياتية على المدى القصير لكنه يضاعف المخاطر الاستراتيجية في المنطقة وفقا لخططهم.
التجربة العملية تؤكد أن الضغط الجوي وحده لا يكفي لتفكيك برنامج معقد أو لنسف بنى تحميه. لذلك ستكون هنالك ضربات جوية مفاجئة على إيران تهدف الى إضعاف البنى التحتية الحيوية عبر إيقاف خدمات، تعطيل اقتصاد، وإحداث احتقان شعبي يُستغل لزرع شقاق داخل النخبة الأمنية والسياسية وفقا لما يسمى ب سياسة التفكيك المبرمج.
ومؤكد هنا أن رد طهران لن يكتفي برد فعل تقليدي، فهي تمتلك أدوات ردع متعددة الأوجه، بداية من تعطيل الممرات البحرية الحيوية في مضيق هرمز وبحر العرب والبحر الأحمر، و ضرب مصالح مباشرة لإسرائيل أو عبر وكلائها، وحرب سيبرانية قد تصيب بنيات تحتية حيوية لدول غربية وعربية متعاونة. كما أن شبكات الوكلاء في العراق ولبنان وسوريا واليمن قد تتحول فوراً إلى جبهات تصعيد، مما يزيد احتمال انتقال الصراع إلى مواجهة إقليمية متعددة الجبهات لا يتوقع نهايتها خاصة مع المنحى اليمني الأخير .
وأعتقد أن دور القوى الكبرى سيكون محوريًا وحاسمًا في تحديد مآلات الأزمة. واشنطن ربما توفّر غطاءً استخبارياً وتقنيًا وإمدادياً لإسرائيل، لكن أي تذبذب أميركي نتيجة حسابات داخلية أو انشغالات جيوسياسية سيزيد من تكلفة المواجهة ويعطي فرصة لروسيا والصين للتدخل عبر أدوات سياسية واقتصادية أو عبر تحريك أوراق النفوذ. طبعا كل منهما لن يقف متفرجًا أمام تهديد مصالحه الاستراتيجية، فالدعم قد يتخذ أشكالاً غير مباشرة عقوبات مضادة، أو تعطيل سلاسل إمداد، أو مسارات دبلوماسية تعوق أي تسوية أحادية الجانب.
و الخطر الجوهري ، يكمن في فقدان القدرة على ضبط مسار التصعيد. الرهان على فوضى متحكَّم بها هو رهان محفوف بالخطأ، فالتاريخ يعلمنا أن تفكيك مؤسسات دولة صلبة قد يفضي إلى فراغ يُستغَل من قِبل فاعلين متطرفين ويولّد نزاعات أهلية مزمنة، وتهديدًا للإستقرار الإقليمي والعالمي. وأن شراء «نصر تكتيكي» بثمن انهيار استقرار طويل الأمد هو معادلة خاسرة.
و أمام هذا الواقع قد يكون هنالك ثلاثة سيناريوهات خطيرة يجب أن نضعها أمام الأعين، الأول ، نجاح محدود، إلحاق أضرار بالقدرات الإيرانية قصيرة الأجل لكن مع بقاء الدولة قادرة على المقاومة عبر وكلائها، الثاني،فوضى جزئية، و انهيار بنيوي وملء الفراغ بقوى محلية وميليشيات ما يؤدي لسنوات من الاضطراب، الثالث ،تصعيد واسع خطير واشتباكات تمتد لتشمل مصالح روسية أو صينية أو هجمات تضرب حلفاء أساسيين فتدفع الصراع إلى مدار جيوسياسي أوسع.
وبناءا على ذلك نجد إذا كان الهدف تقليص تهديد نووي فهو مشروع يحتاج إلى أدوات متوازنة (وهي غير موجودة) ، لكن إذا كان الهدف تغيير نظام عبر ضربة عسكرية وحملة تفكيك فسيكون الثمن إنسانيًا وسياسيًا واقتصاديًا باهظًا وربما يفوق أي فائدة تكتيكية. و الإصرار على خيار عسكري قاسي سيحوّل المنطقة إلى ساحة احتدام طويل يعيد كتابة الخرائط ليس بالإتفاق بل بنار لن تبرد سريعًا.
المنطقة تتصارع على مفترق طريقٍ حارق، ليست معركة حدودية بل اشتباك سياساتٍ تحاول أن تُشعلها إسرائيل وأمريكا، و تمتد من إيران إلى سوريا ولبنان وغزة والعراق واليمن وغيرها. المخطط المبيَّت يحمل طابعاً بنيوياً،وإعادة تركيب نفوذٍ على رماد الإستقرار. النتيجة المحتملة ليست فقط دمار مادي بل احتراق جيوسياسي يفتح أبواباً لفوضى إقليمية لا يقف عند حدود دولة. من يظن أنه يشتعل موضعياً سيكتشف سريعاً أن النار لا تميّز أحدا وستُلتهم خريطة الأمن، وتكتب حقبة جديدة بدماء واختلالاتٍ قد تطول الأجيال. احذروا……
د. ميساء المصري كاتبة سياسية من الأردن