هل تحسم معارك شرق أوكرانيا الصراع الروسي الأمريكي ؟.... فرضيات البداية والنهاية للنظام المالي العالمي

ثلاثاء, 2022-04-12 10:02

أخذ الإعياء يدب في آلة الإعلام الغربية الضخمة في الحملة التي تشنها من أجل ترجيح وجهة نظرها تجاه الحرب الدائرة في وسط أوروبا، فالمخزون الضخم من الأطروحات وأدوات شيطنة المعسكر الخصم يتم استهلاكها بسرعة ولم تعد تستقبل بقبول تلقائي وأعمى ليس فقط من طرف الرأي العام الدولي بل كذلك من طرف مسئولين سياسيين ومحللين محسوبين على المعسكر الغربي. عالميا يسجل الغرب بقلق ما يصفه ساسة في واشنطن ولندن بتمرد مزيد من حكومات الدول التي تحسب ضمن لائحة المدافعين عن شعارات الغرب والمناهضة لما يوصف بنظم الحكم الشمولية والمعادية للسياسات البديلة لليبرالية الاقتصادية، واتجاه هذه الحكومات إلى كسر مسلسل العقوبات والحصار الاقتصادي على روسيا. وبشكل مواز وبعد التهليل للتفسيرات المؤيدة لقدرة أوكرانيا العسكرية على الصمود بل والانتصار على العملية العسكرية الروسية التي تقترب من إكمال شهرها الثاني، انتقل الأمر إلى توسيع أسلوب المظلومية والتنديد بقتل المدنيين وتدمير البني التحتية، وفي نفس الوقت تطرح علامات استفهام كبيرة حول أهداف موسكو الخفية وأسلوبها الغامض في تسيير المعركة وعدم الزج سوى بنسبة قليلة من قواتها في المواجهة وعدم استخدامها معدات وأسلحة أكثر فعالية وكأنها تريد مد أمد الحرب. ويترقب الغربيون وخاصة في لندن وواشنطن المسار الذي ستأخذه المواجهة العسكرية في شرق أوكرانيا حيث توجد أغلبية من الناطقين بالروسية ويقدر الخبراء العسكريون خاصة في البنتاغون الأمريكي أنه على هذه الساحة ستحسم الحرب الروسية الأوكرانية عسكريا وستولد زخم المسارات السياسية والعسكرية المترتبة على نتائجها.

بعيدا عن ساحة المواجهة العسكرية، زادت الشكوك بشأن فعالية العقوبات الاقتصادية والحصار المفروضة على روسيا في أوساط قادة ومسيري أعلى المؤسسات الاقتصادية في الغرب، بل كثر الحديث عن نجاح موسكو في تجاوز أهم آثار الحصار ورفض غالبية دول العالم مسايرة مشاريع العقوبات. ويتم يوميا إبراز الأخطار المتصاعدة على النظام المالي الغربي وتقلص سيادة الدولار في المبادلات العالمية والأضرار الاقتصادية من تضخم وتوقف إنتاج وتعثر سلاسل التوريد.

حاليا بدأ النقاش في الغرب يدور حول كيفية التعامل والتعايش مع نظام عالمي جديد، أو التقوقع لدول الغرب داخل نظام غربي مشابه للقائم حاليا في مواجهة معاكس له.

 

اللغز لم يحل

 

رغم أسابيع من الحرب في أوكرانيا يبقى العديد من العسكريين يطرحون السؤال التالي:

أين طائرات سوخوي وميغ الشهيرة؟. لماذا لا يستخدم الروس طائراتهم بكثافة؟. أين هي دبابات أرماتا وتي 95 وغيرها من أفضل المدرعات؟. البعض قال أن الأمر يعود لسوء الإعداد من جانب الكرملين، ولكن كيف ذلك وموسكو تعد للعملية العسكرية الكبيرة منذ سنة 2014؟.

اللغز يظل هو: لماذا لم يزج الروس بعد بسلاح طيرانهم الجبار بأعداد أكبر إلى ساحة الحرب في أوكرانيا؟. ولماذا لم يهاجموا الجسور الإستراتيجية وشبكة السكك الحديدية الكبيرة الموروثة من عهد الاتحاد السوفيتي عندما كانت أوكرانيا وروسيا كيانا واحدا. ولماذا تبقى محطات توليد الطاقة وتزويد المدن بالماء آمنة وبعيدة عن أي تهديد.

قبل العملية العسكرية، قدر المسئولون أن روسيا قد جهزت مئات من الطائرات في سلاحها الجوي لمهاجمة أوكرانيا. 

لكن مسئولا أمريكيا كبيرا وبعد أن بدأت المعارك ذكر أن البنتاغون يقدر أن روسيا تستخدم ما يزيد قليلا على 75 طائرة في عملياتها في أوكرانيا. 

قبل سنوات كان يقال إن الطائرات الروسية تعاني من مشاكل عدة، ولكن كان يعتقد أن هذه العيوب قد تلافاها الجيش الروسي من خلال الإصلاح الذي جرى على مدار السنوات الثمانيالماضية، وخلال الحرب الدائرة في بلاد الشام أظهر الطيران الروسي على العكس قدرات أثارت خشية الغربيين.

ويقال إن أحد الأسباب هو أن الروس يدَخرون طائراتهم الأفضل لأي مواجهة محتملة مع دول الناتو، كما أن هناك تقييما بأن بوتين لا يريد إيقاع خسائر كبيرة في صفوف الأوكرانيين، لأنه لا يريد اكتساب عدائهم سواء لتسهيل ضم أجزاء من أوكرانيا إلى روسيا أو لتنصيب حكومة موالية لموسكو بعد إسقاط النظام الحالي في كييف.

ولكن بصرف النظر عن الأسباب، فالنتيجة هي أن هذا الوضع تركت القوات الجوية الأوكرانية تعمل لأيام بعد الحرب، والمجال الجوي الأوكراني مازال يجرى التنافس عليه بنشاط كل يوم.

قائد القوات الجوية الأمريكية فرانك كيندال قال إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالغ في تقدير قدرات قواته العسكرية عندما قرر الهجوم على أوكرانيا، لكن كيندال أخبر المراسلين بأن أياً من إخفاقات روسيا في أوكرانيا لم يجعلها أقل خطورة في نظره، حسبما نقل عنه موقع "مليتري" وقال: "بشكل عام، تمتلك روسيا قدرة كبيرة، فلديها الأعداد والجودة التي تجعلها نشكل تهديدا جويا واقعيا، بالتأكيد".

يذكر دليل القوات الجوية العالمية لشركة Flight Global 2022أن روسيا تمتلك 1511 طائرة مقاتلة، في حين أن أوكرانيا لديها أقل من 100 طائرة، ولكن عند المقارنة بين النوعية يظهر الفارق بشكل أكبر.

فلدى أوكرانيا عدد قليل ومتقادم من الطائرات ورثتها عن الاتحاد السوفييتي، بشكل يجعل سلاحها الجوي أضعف من معظم الدول الغربية.

ولدى روسيا أكثر من ألف من المروحيات الشهيرة متعددة المهام ميل مي 17/8، ونحو 109 مروحيات من طراز كيه إيه 52، و108 من طراز ميل مي 28، وكلتاهما تعد منافسا للمروحية الأمريكية الشهيرة أباتشي، و329 من المروحية الهجومية الشهيرة ميل مي 24 وهي قديمة نسبياً ولكن مشهود لها بالكفاءة.

بعد الهجمات الأولى للحرب في 24 فبراير 2022، توقع المحللون أن يحاول الجيش الروسي تدمير القوات الجوية والدفاعات الجوية الأوكرانية على الفور.

كان من الممكن أن تكون هذه هي "الخطوة التالية المنطقية والمتوقعة على نطاق واسع، كما يرى في كل صراع عسكري تقريبا منذ عام 1938″، كما كتب مركز الأبحاث RUSI بلندن، في مقال بعنوان "الحالة الغامضة لسلاح الجو الروسي".

 

مختلفة وحاسمة

 

يوم الاثنين 11 أبريل 2022 جاء في تحليل نشره موقع الحرة التابع للحكومة الأمريكية:

معركة دونباس المرتقبة ستخاض على مساحات واسعة وبقوات كبيرة ويترقب خبراء عسكريون المعركة الكبيرة المقبلة، في شرق البلاد.

تستمر الحرب في منطقة دونباس منذ ثماني أعوام، وقتل أكثر من 90 جنديا أوكرانيا في عام 2021 على خط التماس بين القوات الأوكرانية والقوات الانفصالية المدعومة من روسيا.

ومنذ أواخر فبراير تعرضت المواقع الأوكرانية لنيران مدفعية منتظمة مع دفع الانفصاليين إلى شن هجمات على الخنادق الأوكرانية.

وتقول صحيفة الغارديان البريطانية إن الهدف من هذه الهجمات كان تحييد 40 ألف جندي أوكراني في منطقة عمليات القوات المشتركة (JFO)، ومنعهم من التأثير على معارك ماريوبول أو خاركيف أو كييف.

وتستعد القوات الروسية للتوجه شمالا لقطع خطوط الإمداد إلى دونيتسك، فيما تتشكل وحدات روسية أخرى بعضها تم تشكيله حديثا وبعضها أعيد هيكلته للتقدم جنوبا حول لوهانسك من خاركيف لاستكمال التطويق.

وتقول الصحيفة إن المعركة ستكون مختلفة تماما عن التقدم في كييف، حيث لم تكن الوحدات الروسية في بداية الحرب جاهزة أو مجهزة للقتال العنيف بين وحدات مشاة وفي مناطق سكنية، كما أن قرب منطقة القتال من روسيا يجعل موسكو قادرة على تلافي مشاكل الإمدادات، وتمتلك الدفاعات الجوية الروسية تغطية جيدة فوق دونباس.

في المقابل، تضم القوات الأوكرانية في JFO بعضا من الوحدات الأكثر احترافية والأفضل معنويات في البلاد، كما إن أعدادهم كبيرة تكاد تكون مساوية لأعداد الروس.

وتقول صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية إن الهدف الرئيسي لروسيا الآن هو الاستيلاء على الأجزاء من منطقة دونباس الشرقية التي لم تسيطر عليها موسكو بعد.

وقبل الهجوم عينت موسكو الجنرال، ألكسندر دفورنيكوف، الذي يقود المنطقة العسكرية الجنوبية المسئولة عن العمليات في دونباس للإشراف على الحملة حسبما قال مسئول أمريكي للصحيفة.

وعلى عكس المرحلة الأولى من الصراع المستمر منذ ستة أسابيع فإن هذا التحول يجبر أوكرانيا على خوض معارك تقليدية تشارك فيها دبابات ومدفعية وطائرات على تضاريس مستوية وقاحلة في كثير من الأحيان تسمح لروسيا بالاستفادة من تفوقها في المعدات العسكرية.

ويعتقد أن روسيا ستبدأ هجومها من مناطق شمال مدينة إيزيوم الأوكرانية.

وبدأت أوكرانيا أيضا في تحريك وحدات نحو دونباس من مناطق شمال أوكرانيا التي استعادتها بعد انسحاب القوات الروسية.

ودعا الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى تقديم مساعدة عاجلة قبل هذه الجولة الجديدة من الصراع، محذرا من أن موسكو لم تتخلى عن تطلعاتها لإخضاع أوكرانيا.

وفي محاولة لتعطيل إعادة الانتشار الأوكرانية، قالت روسيا إن قواتها نفذت سلسلة من الغارات الجوية على مراكز السكك الحديدية الأوكرانية.

وذكرت الإدارة الأوكرانية في دونباس إن روسيا شنت عدة ضربات صاروخية إضافية على منطقة دنيبروبتروفسك غرب الإقليم، يوم الأحد 10 ابريل، مما أدى إلى تدمير مبنى المطار ومنشأة أخرى للبنية التحتية في المنطقة ومنشأة صناعية في مدينة بافلوهراد.

وتقول صحيفة وول ستريت جورنال إن هذا النوع المختلف من الحروب، حيث تواجه التشكيلات الكبيرة بعضها البعض بدلا من ضربات الوحدات الصغيرة، هو سبب رئيسي وراء قول كييف إنها بحاجة ماسة إلى أسلحة ثقيلة، مثل المدفعية والدبابات والبطاريات المضادة للطائرات التي كان معظم الحلفاء الغربيين مترددين في توفيرها حتى الآن.

وذكر وزير الخارجية الأوكرانية ديميترو كوليبا "ستذكرك معركة دونباس بالحرب العالمية الثانية، بعملياتها ومناوراتها الكبيرة، ومشاركة الآلاف من الدبابات والعربات المدرعة والطائرات والمدفعية، ولن تكون هذه عملية محلية، بناء على ما نراه في استعدادات روسيا". وقال كوليبا بعد اجتماعه مع وزراء منظمة حلف شمال الأطلسي. "إما أن تساعدونا الآن - وأنا أتحدث أياما وليس أسابيع - أو أن مساعدتكم ستأتي بعد فوات الأوان وسيموت الكثير من الناس".

وقبل أن يبدأ الهجوم الروسي الشامل في فبراير كانت أوكرانيا تسيطر على نحو ثلثي منطقتي دونيتسك ولوهانسك اللتين تشكلان دونباس. أما البقية فهي تحت حكم جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين، وهما دولتان تم إنشاؤهما في عام 2014، عندما استعادت موسكو أيضا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.

ويقول مسئولون أوكرانيون إن أهداف موسكو تتجاوز على الأرجح الاستيلاء على هذه المناطق، وإن بوتين يسعى إلى تدمير أفضل الوحدات الأوكرانية في معركة دونباس.

صحيفة وول ستريت ذكرت إنه خلافا لما حدث في المناطق الشمالية من كييف وتشيرنهيف وسومي، يتعاطف جزء من السكان في دونباس مع روسيا. وفي منطقة لوهانسك، غير أربعة من رؤساء بلديات المدن مواقفهم بالفعل وبدأوا في التعاون مع الجيش الروسي، بما في ذلك عمدة مدينة روبيغن الواقعة على خط المواجهة، وفقا للإدارة الإقليمية.

وفي ماريوبول المحاصرة، حيث تستمر المعارك الشرسة في أجزاء من المدينة، وتربط قوة روسية كبيرة، تولى عضو في مجلس المدينة من حزب سياسي موال لروسيا مهام رئيس البلدية، وقالت أوكرانيا إنها بدأت إجراءات محاكمته بتهمة الخيانة.

 

التضليل

 

أفادت شبكة NBC الأمريكية بأن الولايات المتحدة غيرت إستراتيجيتها في حربها الإعلامية مع روسيا على خلفية النزاع في أوكرانيا وشرعت في استخدام بيانات إستخباراتية لم تثبت مصداقيتها. 

وذكرت الشبكة التلفزيونية في تقرير نشرته يوم الخميس 7 أبريل 2022 بتصريحات مسئولين أمريكيين تحدثوا لوسائل إعلام مؤخرا عن وجود مؤشرات على تحضير روسيا لشن "هجمات كيميائية" في أوكرانيا، وجاءت هذه الادعاءات لاحقا على لسان الرئيس جو بايدن.ونقلت الشبكة عن ثلاثة مسئولين أمريكيين إقرارهم بغياب أي أدلة على نقل روسيا أي مواد كيميائية باتجاه أوكرانيا، موضحين أن هذه التصريحات جاءت بهدف "ردع روسيا عن استخدام الأسلحة الكيمياوية".

وأفاد مسئولون للصحيفة إن الإدارة الأمريكية تخلت عن إستراتيجيتها السابقة وشرعت في نشر بيانات إستراتيجية ترفع السرية عنها "حتى في وقت لم تثبت مصداقيتها بالضبط"، وهذا بهدف "إبقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حالة عدم التوازن".

وتابعوا أن نشر هذه البيانات الاستخباراتية تحت إشراف مجلس الأمن القومي يأتي على نطاق غير مسبوق، ما دفع أجهزة الاستخبارات الأمريكية إلى تخصيص المزيد من الموظفين للعمل على رفع السرية عنها وتحريرها لمنع تسريب أي معلومات عن المصادر والأساليب الاستخباراتية.

ونقلت الشبكة عن مسئول حكومي غربي مطلع على استراتيجية البيت الأبيض الجديدة توضيحه أن الفكرة تكمن في "تقويض استراتيجية الكرملين وتعقيد حملته العسكرية" و"نسف دعاية موسكو ومنع روسيا من تحديد ماهية رؤية العالم للحرب".

ولفت المسئول إلى أن هذه الاستراتيجية مكفوفة ببعض المخاطر، محذرا من أن نشر واشنطن بيانات خاطئة تماما سيضر بشدة بسمعتها وسيصب في مصلحة روسيا.

وأكدت الشبكة في تقريرها أن إدارة بايدن "تنشر من حين إلى آخر معطيات ذات مصداقية منخفضة أو تخص أمورا تعد محتملة وليست مرجحة في الواقع".

 

حرب من نوع آخر

 

شكلت العقوبات الاقتصادية الكبيرة التي طبقها الغرب على روسيا محط اهتمام دولي، وبرزت تساؤلات حول قدرة هذه الخطوات في التأثير على الحكومة الروسية ودفعها للتراجع عن خطواتها تجاه أوكرانيا، كما امتدت التساؤلات إلى قدرة موسكو على الصمود ومناعتها السياسية والاقتصادية تجاه هكذا ضغط، وفي نفس الوقت يشير عدد متزايد من الخبراء إلى أن العقوبات وتجميد الأرصدة من طرف الدول الغربية يمكن أن تكون بمثابة من يطلق النار على قدميه. فمصادرة أرصدة أي دولة تعتبر سرقة موصوفة وهي عملية تنبه دول العالم إلى ضرورة إبعاد الخطر عن أموالها ولا يتحقق ذلك دون الخروج من النظام المالي الذي تتحكم فيه أمريكا والقيام بمثل هذا السلوك سيدمر الدولار. الأمر المقلق بالنسبة للغرب هو أن بقية دول العالم لا تشارك في الحصار على روسيا.

كتب مؤسس شركة Alpin Macro في هونغ كونغ، وكبير استراتيجييها، تشين تشاو، في صحيفة "سوث تشاينا مورنغ بوست": “لقد زعزعت العقوبات المالية ضد روسيا المفاهيم والمبادئ الأساسية بعمق. فقد أظهرت هذه الإجراءات أن أصول خصوم الغرب المالية لم تعد آمنة، ويمكن مصادرتها أو تحويلها إلى أسلحة دمار مالي”.

ويرى تشاو أن السحب الجزئي للدولار من الولايات المتحدة إلى الذهب والعملات الأخرى، كالذي قامت به روسيا مسبقا، لا يحل المشكلة بالنسبة للصين. فقيمة كل الذهب في العالم المتاح للمعاملات المالية تبلغ فقط 4.6 تريليون دولار.

المخرج من الوضع الخطير يتجلى في السحب التدريجي للأصول من أمريكا، وزيادة الاستثمارات في البلدان الأخرى، والتخلي عن الدولار في مزيد من العمليات التجارية. ومع ذلك، يشكل اليوان اليوم 3 في المئة فقط من الاحتياطيات العالمية. فقط العمل المنسق مع روسيا والهند والبرازيل وفنزويلا والمملكة العربية السعودية وإيران والضحايا المحتملين الآخرين لسياسات المصادرة الغربية يمكن أن يكون حلا لمشكلة الأمن المالي.

ليس من المستغرب أن ينظر إلى قرار روسيا بقبول الدفع مقابل مواردها من الطاقة بالروبل في الصين بوصفه “جبهة ثانية” في مواجهة الهيمنة الأمريكية، و”عملية مالية خاصة” على نطاق عالمي. الصينيون يتمنون لنا الصلابة الروحية في عملنا العظيم الذي بدأناه.

يوم 7 أبريل أحصت مجلة الإيكونوميست البريطانية الدول التي وقفت إلى جانب روسيا وتلك التي بقيت محايدة أثناء تفاقم الوضع في أوكرانيا، معترفة بأن معظم سكان العالم يعيشون في هذه الدول.

وقسم أصحاب التقرير دول العالم إلى موالية لروسيا وموالية للغرب ومحايدة. في المجموعة الأولى أدرجت 28 دولة، وتضم مجتمعة ثلث سكان العالم. وتشمل هذه الدول الصين وسوريا وباكستان وإريتريا وإثيوبيا. 32 دولة أخرى، والتي تمثل أيضا ما يصل إلى ثلث سكان العالم، تلتزم بوضع الحياد، من بينها الهند والبرازيل وبنغلاديش، فيما وضعت 131 دولة في فئة الدول "الموالية للغرب"، ويعيش هناك 36 بالمائة فقط من سكان العالم.

وذكرت الصحيفة إن "حوالي ثلثي سكان العالم يعيشون في دول محايدة أو موالية لروسيا. توازن القوى بشكل كبير من قبل الصين والهند، فهما تمثلان ما يصل إلى ثلث سكان العالم. حكومة الهند، التي صنفت على أنها محايدة، تعزز التعاون مع الحكومة الروسية، وتقوم بشراء السلع الروسية بالروبل أو العملة الهندية والصينية.

 

تبديل النظام المالي العالمي

 

يوم 8 أبريل ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية أن العقوبات ضد روسيا وتجميد جزء من احتياطياتها النقدية في البنوك الغربية، قد تقوض الدولار وتغير النظام المالي العالمي. وأشارت الصحيفة إلى أنه "نتيجة لتصرفات واشنطن سيبرز نظام اقتصادي بديل في العالم".

وأضافت: "على الرغم من خطاب الولايات المتحدة وحلفائها، فلم يتم إدانة خطوات روسيا في أوكرانيا من قبل العالم بأسره، ولكن فقط من قبل تحالف بقيادة الغرب، وقد يكون لذلك عواقب مهمة على مستقبل التمويل الدولي".

وقالت: "يجب الانتباه إلى خطط الصين طويلة الأجل لجعل اليوان عملة أكثر أهمية في التسويات العالمية، والتي قد يتسارع تنفيذها على خلفية رد فعل الدول الغربية على الأحداث في أوكرانيا.. وكجزء من هذه الاستراتيجية، يمكن أن تسرع الصين بتقدم نظامها المصرفي (CIPS) المستخدم في أكثر من 100 دولة، وينظر إليه على أنه بديل لنظام SWIFT".

يقر جون سميث، الذي كان مسئول العقوبات الرئيس في وزارة الخزانة الأمريكية ويشارك الآن في رئاسة ممارسات الأمن القومي في شركة موريسون آند فويرستر للمحاماة، "لقد كانت العقوبات مريعة. لقد خرجت عن المألوف".

تستند قوة العقوبات المفروضة على روسيا إلى هيمنة الدولار الأمريكي، العملة الأكثر استخداما في التداول والمعاملات المالية واحتياطيات البنوك المركزية. لكن من خلال استخدام الدولار سلاحا بشكل صريح بهذه الطريقة، تخاطر الولايات المتحدة وحلفاؤها بإثارة موجة من الانتقادات التي قد تقوض العملة الأمريكية وتجزئ النظام المالي العالمي إلى كتل متنافسة قد تجعل الجميع أسوأ حالا.

يقول زولتان بوزسار، محلل في مصرف كريدي سويس، "تؤدي الحروب أيضا إلى قلب هيمنة العملات رأسا على عقب، كما أنها بمنزلة أداة مساعدة لولادة أنظمة نقدية جديدة".

لدى الصين، على وجه الخصوص، خطط طويلة الأجل لعملتها ليكون لها دور أكبر بكثير في النظام المالي الدولي. بكين تنظر إلى مركز الدولار المهيمن على أنه أحد حصون القوة الأمريكية التي ترغب في التخلص منها، الجانب الآخر لسيطرة البحرية الأمريكية على المحيطات. سيرسخ الصراع الأوكراني وجهة النظر هذه.

قالت تشانغ يانلينغ، نائبة الرئيس التنفيذي سابقا لبنك الصين، في خطاب ألقته بداية شهر أبريل إن العقوبات "ستفقد الولايات المتحدة مصداقيتها وتقوض هيمنة الدولار على المدى الطويل". اقترحت أنه ينبغي للصين أن تساعد العالم "في التخلص من هيمنة الدولار عاجلا غير آجل".

نهاية الدولار تم توقعها في حالات كثيرة من قبل، إلا أن النتيجة كانت دائما حفاظ العملة الأمريكية على مركزها. يعد القصور الذاتي قوة في التمويل العابر للحدود، بمجرد استخدام إحدى العملات على نطاق واسع، يصبح ذلك مركزا مستداما ذاتيا.

لكن إذا كان هناك تحول ثابت بعيد عن الدولار في الأعوام المقبلة، فقد لا ينظر إلى العقوبات على البنك المركزي الروسي على أنها طريقة جريئة وجديدة لممارسة الضغط على الخصم، بل اللحظة التي بدأت فيها هيمنة الدولار بالتراجع.

يشير محللون إلى أن الأمثلة السابقة على الحروب المالية كانت تتعلق في الأغلب بحظر الأموال بتهمة الإرهاب، أو أن الحروب كانت تستخدم في حالات محددة مثل برنامج إيران النووي. يجادل ميتو جولاتي، أستاذ القانون المالي في جامعة فيرجينيا، إن استهداف بلد بحجم روسيا وقوتها هو أمر غير مسبوق، وسواء أكان للأفضل أم للأسوأ فإنه يمكن أن يصبح نموذجا يتم إتباعه في المستقبل.

يقول، "إذا غيرت القواعد الخاصة بروسيا، فإنك تغير قواعد العالم بأسره. بمجرد أن تتغير هذه القواعد، فإنها تغير التمويل الدولي إلى الأبد".

 

وضع حد للعولمة

 

يخشى بعض من أن تكون الحرب بداية تحول عميق في الاقتصادالعالمي. جادل لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك، أكبرمجموعة استثمارية في العالم بأصول تحت الإدارة تبلغ قيمتهاعشرة تريليونات دولار، في رسالته السنوية إلى المساهمين أن"الحرب وضعت حدا للعولمة التي شهدناها خلال العقود الثلاثةالماضية". قال إن إحدى النتائج قد تكون زيادة استخدام العملاتالرقمية – مجال قامت فيه السلطات الصينية باستعدادات مهمة. 

حتى صندوق النقد الدولي يعتقد أن هيمنة الدولار يمكن أنتتضاءل بسبب "تجزئة" النظام، على الرغم من أنه من المرجح أنيظل العملة العالمية الأساسية. تقول جيتا جوبيناث، النائبة الأولىلمديرة صندوق النقد الدولي، "إننا نشهد ذلك بالفعل مع إعادةتفاوض بعض الدول بشأن العملة التي يتقاضونها مقابلالتجارة".

يمكن للعقوبات أيضا تسريع التغييرات في البنية التحتية للتمويلالدولي. كجزء من مساعيها لتقليل الاعتماد على الأنظمة التيتسيطر عليها الولايات المتحدة، أمضت الصين أعواما في تطويرنظام مدفوعات بين البنوك عابر للحدود وقائم على الرنمينبي، الذييضم الآن 1200 مؤسسة عضوة في 100 دولة.

لا يزال نظام المدفوعات العابر للحدود بين البنوك صغيرا مقارنةبنظام سويفت، نظام الدفع في أوروبا، الذي يعد جزءا مهما مننظام العقوبات ضد روسيا. لكن حقيقة أن أكبر البنوك الروسية قدتم استبعادها من نظام سويفت قدمت فرصة نمو محتملة للمنافسالصيني.

يقول إسوار براساد، مسؤول كبير سابق في صندوق النقدالدولي يعمل الآن في معهد بروكينغز، "لدى نظام المدفوعات عبرالحدود بين البنوك القدرة على تغيير القواعد. تنشئ الصين بنيةتحتية للمدفوعات والتراسل المالي التي يمكن أن تكون يوما مابديلة للنظام المالي الدولي الذي يهيمن عليه الغرب ولا سيما نظامسويفت".

حتى قبل الحرب، كانت هناك أيضا مؤشرات أولية على حدوثتحول كبير بالفعل في تكوين احتياطيات البنوك المركزية – إحدىالركائز الرئيسة للنظام المالي الدولي.

كانت سندات الحكومة الأمريكية طوال معظم القرن الماضيالمكان المفضل للبنوك المركزية لتخزين الأموال لساعة الشدة، نظرالحجم وقوة الولايات المتحدة، وسلامة ديونها وقابليتها للتداول،والدور المهيمن للدولار في التجارة والتمويل الدوليين. فيالستينيات، أشار الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكارديستان، إلى هذا الأمر "الامتياز الأمريكي الباهظ". لكن هذاالامتياز تآكل في العقود الأخيرة.

من بين 12 تريليون دولار من احتياطيات العملات الأجنبية التيتحتفظ بها البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم في نهاية2021، يمثل الدولار نحو 59 في المائة، وفقا لأحدث بياناتصندوق النقد الدولي. وهذا أقل من 71 في المائة في 1999،عندما تم إطلاق اليورو.

العملة الأوروبية المشتركة هي البديل الرئيس للدولار – فهي تمثل20 في المائة من احتياطيات البنوك المركزية – لكن كان هناكأيضا تحول ملحوظ نحو العملات الأصغر مثل الدولار الأسترالي،والوون الكوري وفي المقام الأول الرنمينبي الصيني، وفقا لباريإيتشنغرين، أستاذ الاقتصاد في جامعة بيركلي وعميد دراساتالنظام النقدي الدولي.

 

توجهان متضاربان

 

في تقرير حديث شارك في تأليفه مع صندوق النقد الدولي، أطلقعلى هذا التحول "التآكل الخفي لهيمنة الدولار"، وجادل بأنالمصطلح "يلمح إلى كيفية تطور النظام الدولي في المستقبل". وأخبر "فاينانشيال تايمز" أن استخدام عقوبات البنوك المركزيةمن شأنه أن يسرع العملية على الأرجح.

"إنه أمر مهم للغاية. لقد كان تجميد أصول البنك المركزي الروسيمفاجأة بالنسبة لي بالتأكيد، ويبدو أن الأمر كان كذلك لبوتينأيضا. لطالما ظهرت هذه القضايا في الماضي كلما تم نطقالكلمتين "تسليح" و"الدولار". دائما ما كان القلق هو أن هذاسيعمل ضد صالح البنوك الأمريكية، ويتجه إلى حد ما نحو تآكلالامتياز الباهظ للدولار".

قال يو يونغدينغ، الاقتصادي البارز في الأكاديمية الصينية للعلومالاجتماعية، في خطاب ألقاه بداية شهر أبريل 2022 إن العقوبات"قوضت بشكل أساسي المصداقية الوطنية في النظام النقديالدولي".

هل التحذير بنهاية الدولار الأمريكي سابق لأوانه؟.

على الرغم من كل التكهنات حول تأثير العقوبات، هناك أسبابقوية أيضا للاعتقاد بأنها لن تشجع على تحول في القاعدةالأساسية التي يقوم عليها نظام التمويل العالمي - على الأقل ليسفي المستقبل المنظور.

لكن على الرغم من الانتعاش الأخير في الروبل، إلا أنه لا توجدطريقة سهلة لروسيا للتهرب من تأثير العقوبات. تقول نتاليازوباريفيتش، مديرة البرنامج الإقليمي للمعهد المستقل للسياسةالاجتماعية، إن الناس يتوقعون نتائج "سريعة جدا" للعقوبات. تقول أيضا، "إن العقوبات لا تعمل بسرعة. بل سيكون للعقوباتالأخرى تأثير على مدى أشهر وليس أياما".

علاوة على ذلك، التهديد بفرض عقوبات أمريكية وأوروبية علىالكيانات التي تحاول مساعدة روسيا بشكل فاعل في التهرب منالحصار المالي سيكون رادعا رئيسا لها.

كما أنه ليس من السهل على المنافسين إزاحة الدولار. الإدراك غيرالمريح الذي توصلت إليه الدول التي قد تنظر الآن بقلق لتعرضهالعقوبات مشابهة هو ببساطة أن هناك نقصا في البدائل المجدية. حتى إيتشنغرين يقول إنه في الوقت الحاضر يشعر بقلق أقلبشأن مكانة الدولار مقارنة بالسابق، بعد أن نجا الدولار من رئاسةدونالد ترمب "الفوضوية".

تعد هذه المعضلة حادة بشكل خاص بالنسبة للصين. معاحتياطيات العملات الأجنبية البالغة 3.2 تريليون دولار التي يجباستثمارها، لا تتوافر للصين أي خيارات سوى امتلاك حيازاتكبيرة من الدولارات. خارج أوروبا وربما خارج اليابان أيضا،اللتين وقفتا جنبا إلى جنب مع أمريكا في هذه المرحلة، لا توجدبكل بساطة أصول مالية سائلة كافية بعملات أخرى لتلبية هذاالطلب.

"لدينا سياسة نقدية تيسيرية للغاية، ونحن منفتحون للغاية فيأسواقنا، والأشياء قابلة للتحويل بسهولة، ونحن آمنون كاقتصاد. إلى أن تتغير هذه الأشياء، فلن يتغير شيء آخر"، كما يقولبرايان أوتول، خبير العقوبات في مؤسسة أتلانتيك كاونسلالفكرية ومسؤول كبير سابقا في وزارة الخزانة الأمريكية. قالأيضا، "إذا عملنا مع جميع شركائنا وحلفائنا في هذا الأمر،فإلى أي بلد آخر ستذهب؟ لا يوجد مكان آخر قريب من مستوىالسيولة والوصول مثل السوق الأمريكية. هذا غير موجود في أيمكان آخر".

تواجه الصين أيضا مشكلة مستعصية إذا كانت تريد من الدولالأخرى الاحتفاظ بعملتها في احتياطاتها. ضوابطها على رأسالمال ليست صارمة كما كانت في السابق، لكن ما زال الرنمينبيعملة غير قابلة للتحويل بالكامل. في العقد الذي انقضى منذ أنبدأت الصين محاولة تدويل الرنمينبي لأول مرة، أدرك الحزبالشيوعي الصيني أنه قد تصبح لديه عملة عالمية تنافس الدولارفي يوم من الأيام أو أنه يمكنه الاحتفاظ بسيطرة قوية على نظامهالمالي المحلي، لكن لا يمكنه الحصول على الأمرين.

يشير براساد إلى أنه على الرغم من الرسالة التي مفادها أنالدول لم تعد قادرة على الاعتماد بشكل كامل على "احتياطاتهاالتي بنتها بعناية في أوقات الحرب" في ضوء "التحركات المثيرةمن الاقتصادات الغربية"، توجد ببساطة ندرة في البدائل المجدية. يقول، "لكن الحقيقة المرة هي أن الرنمينبي في هذه المرحلة ليسله دور كبير بما فيه الكفاية في التمويل الدولي ليصبح بديلامجديا للدولار".

بالنظر إلى التغييرات العميقة التي حدثت في الاقتصاد العالميعلى مدى العقود الأربعة الماضية، قد تبدو مفارقة تاريخية أنالحلفاء الغربيين التقليديين لا يزالون يسيطرون على العالم المالي. لكن في الوقت الحالي، ليس هناك مفر من السيطرة التي تتمتعبها عملاتهم.

يشير سميث، مسؤول الخزانة السابق، إلى أن "ناقوس موتالدولار الأمريكي الوشيك في الاقتصاد الدولي يدق كل عام" منذ2008 تقريبا، عندما منعت واشنطن إيران لأول مرة من استخدامالدولار الأمريكي في معاملات الطاقة الدولية الخاصة بها. لكن لاشيء ملموس قد نتج عن ذلك إطلاقا.

يقول سميث، "منذ ذلك الحين، كان هناك ضجيج كثير حول فقدانالدولار الأمريكي لمكانته باعتباره عملة احتياطية وعملة مفضلة فيأسواق الطاقة والاقتصاد الدولي، لكننا لم نشهد حدوث ذلك". تابع بالقول، "لقد استمر الدولار الأمريكي في الحفاظ على قوتهباعتباره مصدرا للاستقرار في المعاملات المالية الدولية، ومنالمرجح أن يستمر ذلك حتى بعد أن ينقشع غبار الحربالأوكرانية".

 

تفاقم تكاليف الحرب

 

ذكر سايمون تيسدال محلل الشؤون الخارجية في صحيفة الغارديان البريطانية في تقرير له نشر يوم 4 أبريل إن التأثيرات الاقتصادية للحرب التي تدور رحاها بين روسيا وأوكرانيا قد تكون لها تداعيات سياسية سلبية خطيرة على الزعماء في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا.

وأضاف أن تلك التأثيرات تجلت بالفعل في معدلات التضخم المتصاعدة وارتفاع تكاليف المعيشة، وتساءل: إلى متى ستحافظ الديمقراطيات الغربية على مستويات الدعم الحالية التي تقدمها لأوكرانيا؟.

وتساءل: إذا انحسرت رغبة الجماهير في تقديم تضحيات صعبة خلال الأشهر المقبلة ولم يعد الصراع يتصدر الصفحات الأولى للصحف فهل ستواصل تلك الجماهير تضحياتها؟.

ويرى تيسدال في مقاله أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يدرك تماما أن "حب الغرب" لبلده مشروط إلى حد كبير، فالمساعدات العسكرية يقيدها الخوف من استفزاز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يسعى جاهدا "وبحماسة مفرطة" للتوصل إلى اتفاق، مع وجود مخاطر محتملة تتجاوز مصالح كييف العليا كما يزعم مسئولون بريطانيون.

واتهمت مارين لوبان رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني الفرنسي ماكرون بتجاهل مشاكل بلاده الداخلية، أما مستشار ألمانيا أولاف شولتز فيركز اهتمامه في الوقت الحالي على أمن إمدادات الطاقة في بلده لا على مستقبل أمن أوروبا.

وبحسب تيسدال، يدرك شولتز أن بوتين إذا ما أقدم على تنفيذ تهديده بقطع إمدادات الغاز من شأنه أن يحدث حالة طوارئ وطنية.

ويعتقد محلل الشؤون الخارجية في صحيفة الغارديان أن هذا الجدل سيتصاعد ليس فقط في ألمانيا كلما طال أمد الحرب، وينقل عن مركز الإصلاح الأوروبي في لندن أن على أوروبا أن تكف عن إنفاق ما يزيد على 800 مليون يورو في اليوم على شراء الغاز الروسي.

وأشار المركز إن روسيا صدرت أكثر من 49 في المئة من نفطها و74 في المئة من غازها إلى أوروبا في عام 2021، وإن إيقاف كل تلك المشتريات طواعية ربما يكون أشد العقوبات فعالية التي قد تفرضها أوروبا، ولكن استبدال المنتجات الروسية إذا أمكن سيترك أسواقا أخرى لتجارة الغاز والنفط الروسي وربما بشروط أفضل.

وبحسب المقال، فإن القمة المشتركة التي عقدت بين حلف الناتو ودول الاتحاد الأوروبي لم تسفر عن خطة طويلة الأجل لدحر روسيا أو تسليح المدافعين عن أوكرانيا بشكل أفضل "لكنها أثارت أسئلة حول قيادة" الرئيس الأمريكي جو بايدن. ويبدو أن الزخم المبكر المعادي لبوتين -بنظر تيسدال- قد توقف، بل ربما تراجع.

ويمضي الكاتب إلى القول إن الحرب إذا ما استمرت حتى فصل الخريف -كما يتوقع الكثيرون- فإن المتاعب الاقتصادية -خصوصا تلك المترتبة على أسعار الطاقة والضغوط السياسية الناجمة عنها- والملل من العقوبات ولا مبالاة الجماهير والتكاليف المالية الباهظة للمساعدات العسكرية المفتوحة وحملات الإغاثة الإنسانية وملايين اللاجئين كلها عوامل قد تتضافر لتقويض دعم الحكومات لأوكرانيا في حربها ضد روسيا.

ويخلص المقال إلى أن بوتين يراقب الموقف بانتظار بروز شروخ قاتلة.

 

كل الذهب

 

في روسيا مقترحات متعددة لمواجهة الحصار الغربي وللعمل علىالاسراع بتعديل النظام المالي الدولي القائم أساسا على الدولارواليورو. 

يقول المحلل السياسي والاقتصادي ألكسندر نازاروف يوم 6 أبريل: أعلن البنك المركزي الروسي مؤخرا عن شرائه الذهب منالبنوك التجارية الروسية في الفترة من 28 مارس وحتى 30 يونيوبسعر ثابت وقدره 5000 روبل للغرام الواحد. يعني ذلك ربطالروبل الروسي بالذهب، على الأقل بالحد الأعلى لسعر صرفه.

بلغ سعر الذهب في الأسواق العالمية، يوم الثلاثاء 5 أبريل، 1930 دولار للأونصة الواحدة، أي 62 دولار أو 5208 روبل للغرامالواحد، بمعدل 84 روبل لكل دولار.

من هذه الصيغة، وبسعر الذهب الحالي، يجب أن تكون قيمةالدولار 80.64 روبل لكل دولار واحد. حسنا، دعنا نضيف روبلينآخرين للمعاملات ومصروفات البنك الأخرى. يعني ذلك أنه إذاظل سعر الذهب مستقرا، فإن سعر الصرف الحالي للروبل عندمستوى 83-84 روبل للدولار الواحد هو سعر مناسب تماما.

فإذا ما ارتفع الروبل كثيرا، على سبيل المثال، حتى 75 روبل لكلدولار، سيصبح من المربح للبنوك شراء الذهب من الخارج ونقلهإلى روسيا لبيعه إلى البنك المركزي، وبأحجام يمكن أن تؤثر علىسعر صرف الروبل نحو انخفاضه، فينخفض سعر صرفه حتىيجعل واردات الذهب غير مربحة.

وهنا من الضروري مراعاة الظروف التالية:

فيما يتعلق بنمو الأسعار العالمية للمواد الخام، ووفقا لجميعالتوقعات، سينمو دخل روسيا من التجارة الخارجية بقوة.

وتقدر "بلومبرغ" أن عائدات الطاقة الروسية سترتفع إلى 321 مليار دولار هذا العام، بزيادة 35 في المئة عن عام 2021. فيالوقت نفسه، فقد انهارت الواردات، ما يعني أن تدفق الدولاراتواليورو إلى روسيا قد ارتفع، دون إمكانية لإنفاقها، ليظهر مرةأخرى فائض هائل من العملة.

لقد انتقدت المخطط الذي تم تقديمه لدفع ثمن الغاز بالروبل علىوجه التحديد لهذا السبب، وهو أن البنك المركزي لم يشر إلى مايجب فعله بالمبالغ الهائلة من الدولارات واليورو التي ستراكمهاروسيا في الأشهر المقبلة.

يعني ذلك أيضا إمكانية تعزيز الروبل بقوة حتى مستوى 60-70 أو حتى 50 روبل لكل دولار، وهو أمر غير مفيد لروسيا، لما يحملهمن خفض للقدرة التنافسية لبضائعها، ويحتاج البنك المركزي منعذلك.

مع ذلك، فقد حصلنا على الإجابة الآن.

في السابق، كان فائض العملات الأجنبية موجها لشراء التزاماتديون الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبريطانياوغيرها، أي إلى الاحتياطيات. الآن، أصبح ذلك محفوفا بالمخاطرأولا، وثانيا، أصبح من غير المربح، في ظل التضخم المتسارع،الاحتفاظ بالمال بالدولار أو اليورو أو الجنيه الإسترليني.

لم يعد لدى روسيا ليس فقط حاجة لبيع الذهب (الذي يعتزم الغربحظره)، وإنما يبدو أن روسيا ستبدأ في امتصاص الذهب منالأسواق العالمية مثل المكنسة الكهربائية في الأشهر المقبلة، لمنعتعزيز الروبل أكثر من اللازم في نفس الوقت.

 

نتائج عكسية

 

أي أن العقوبات الغربية ستؤدي إلى نتيجة عكسية لما توقعهالغرب. 

علاوة على ذلك، يبلغ احتياطي الذهب الأمريكي 8133.5 طنا،إذا لم يكن الاحتياطي الفدرالي بالطبع يكذب علينا، حيث جادلبعض الخبراء لعدة عقود بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد أنفقتمعظم الذهب على التلاعب بالأسعار من أجل دعم الدولار كعملةعالمية، ويرفض الاحتياطي الفدرالي أي تدقيق معلن لحيازاته منالذهب.

ولكن لنفترض أن الولايات المتحدة تمتلك هذا الكم من الذهب،والذي تبلغ قيمته الإجمالية بالأسعار الحالية حوالي 504 ملياردولار.

ووفقا لمعهد واشنطن للتمويل الدولي، سيكون لروسيا فائض فيالحساب الجاري Current account، أي فائض العملة الأجنبية،هذا العام، 240 مليار دولار.

أي أنه لشراء كل الذهب من احتياطيات الولايات المتحدةالأمريكية، ستحتاج روسيا إلى ما يقرب من عامين وشهر واحد. أعتقد أن العقوبات ستستمر لفترة أطول من ذلك، حتى لو انهارالاقتصاد العالمي في هذين العامين. سوف تستغرق روسياحوالي 7 سنوت لشراء كل الذهب في جميع أنحاء العالم.

بطبيعة الحال، فإن ذلك تشبيه نظري، أما من الناحية العملية، فإنسعر الذهب ينطلق إلى عنان السماء بمثل هذا الشراء الجماعي،ولن يرغب العقلاء في التخلي عن الذهب عشية انهيار الدولاروسوف يتدخل انهيار الاقتصاد العالمي في هذا الأمر.

لكني بصراحة لا أرى أي سبيل آخر للتصرف في المداخيلالروسية الضخمة، بخلاف الاستثمار في الذهب. أي أن مثل هذاالتطور يبدو لي وضعا لا مفر منه، وأعتقد أن هذا السيناريوسينطلق تلقائيا خلال الشهرين المقبلين، إذا لم يغير البنك المركزيقراره.

أسعار الذهب في العالم سوف تنمو بسرعة قريبا، سارعوابشرائه.

بطبيعة الحال، فإن أحد الآثار الجانبية للزيادة المضطردة وطويلةالأجل في السعر العالمي للذهب هو تشويه سمعة الدولار كوسيلةللحفاظ على رأس المال، وبدء هجرة رأس المال العالمي من الدولارواليورو وغيرهما من القمامة مثل الجنيه الإسترليني إلى الذهب. وحتى لو لم يكن نظام الدولار محكوم عليه بالفشل من قبل (وكانكذلك)، فلن يكون أمامه فرصة للنجاة من الارتفاع الحتمي فيسعر الذهب خلال العامين المقبلين.

عفوا، نسيت تقريبا أن أذكر شيئا واحدا صغيرا: بعد قرار البنكالمركزي الروسي هذا، فقد خسر الغرب فعليا حربه مع روسيا.

 

أمريكا بين نارين

 

كتب المحلل السياسي ألكسندر نازاروف يوم 7 أبريل:

تجاوز الدين القومي للولايات المتحدة الأمريكية، في فبراير 2022، مستوى 30.29 تريليون دولار، حيث ارتفع هذا العام بمقدار 2.39 تريليون دولار.

من حيث الهيكل، واستنادا إلى بيانات عام 2020، فإن 37 في المئة من الديون لها آجال استحقاق تصل إلى عام واحد، و35 في المئة ما بين عام إلى 5 أعوام، بقية الديون لا تهم في هذه الحالة.

وبمعرفة المعدل التقريبي لنمو الدين الحكومي، وحجم القروض الجديدة التي يجب أن تستدينها الولايات المتحدة لتحل محل القروض المسددة، يمكن الافتراض أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحصل على قروض جديدة ما بين 13-14 تريليون دولار. تذكروا هذا الرقم.

في الوقت نفسه، فإن التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية يستمر في التسارع بشدة، حيث بلغ التضخم السنوي لشهر فبراير 2022 حوالي 7.9 في المئة، بينما يتوقع بنك "يو بي إس" UBS أن يرتفع الضخم إلى 8.5 في المئة في شهر مارس.

يعني ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية قد دخلت بالفعل في كارثة اقتصادية لا يمكن السيطرة عليها، والتضخم المفرط أصبح مرئيا في الأفق، وعندما يتجاوز التضخم 10 في المئة، سيبدأ هروب رأس المال من الأصول الدولارية إلى الذهب وغيره من الأصول الأخرى الملموسة، ما سيؤدي إلى مزيد من التضخم المتسارع.

في الوقت نفسه، ستبدأ حكومات الدول الأخرى، التي تحتفظ الآن باحتياطياتها في ديون الولايات المتحدة الأمريكية، في الانسحاب من الأصول الدولارية.

أي أنه وفي ظرف شهرين، سيتحول التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية إلى كرة ثلج تتسارع ذاتيا، حيث يؤدي التدهور إلى هروب رأس المال إلى الخارج، ما يؤدي إلى مزيد من التدهور وهكذا دواليك نحو الدوامة. سيزداد معدل التضخم عدة مرات، من 0.6 في المئة شهريا إلى 1-2-5-10 في المئة شهريا، وسيتدهور الوضع بمرور الوقت.

سيجبر ذلك الاحتياطي الفدرالي على رفع سعر الفائدة من أجل خفض التضخم. أو بمعنى أصح، فإن خفض التضخم حقا، يتطلب رفع معدل سعر الفائدة إلى قيمة تتجاوز التضخم، أي إلى حوالي 10 في المئة.

يعني ذلك الموت الفوري للاقتصاد الأمريكي في غضون أسبوعين. لهذا، يتظاهر الاحتياطي الفدرالي بمحاربة التضخم، ويعتزم في مايو رفع المعدل بنسبة 0.5 في المئة، ثم رفع ذلك المعدل عدة مرات خلال العام. بينما كان عليه أن يرفعه فعليا إلى 10 في المئة ليس في مايو بل يوم 6 أبريل.

لكن، دعنا نتظاهر بأن 3 في المئة ستكون كافية. لنفترض جدلا أن الاحتياطي الفدرالي قد رفع المعدل إلى 3 في المئة في السنة. الآن، لنضرب 14 تريليون، قيمة القرض الجديد، في نسبة 3 في المئة، لنحصل على 420 مليار دولار، هو مقدار زيادة الإنفاق على الفوائد في عام 2023.

لقد بلغ عجز الموازنة الأمريكية عام 2021 حوالي 2.8 تريليون دولار، يضاف إلى ذلك 0.42 تريليون دولار خاصة بمدفوعات الفائدة وحدها، ويضاف إلى ذلك الزيادة الإجمالية في الإنفاق بسبب التضخم، ويضاف إلى ذلك ما يبدو عليه حال الاقتصاد الأمريكي من ركود، ويضاف إلى ذلك العقوبات ضد روسيا، والتي تقلل من دخل الشركات الأمريكية، وتؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الخام.

اسمحوا لي بتذكيركم أن إيرادات الموازنة الأمريكية خلال عام 2021 قد بلغت 4.05 تريليون دولار، وأعتقد أن عجز الموازنة خلال عام سيكون مساويا لإجمالي الدخل.

علاوة على ذلك، لا ننسى أن المستثمرين سيبدأون في الهروب من الأصول الدولارية، وسيكون من الصعب على وزارة الخزانة الأمريكية العثور على مقرضين على استعداد لإقراض الولايات المتحدة الأمريكية أموالا بنسبة 3 في المئة، بينما يعانون من خسارة 7 في المئة من مبلغ القرض بسبب التضخم الذي تبلغ نسبته 10 في المئة.

سيتعين على الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى أن تبدأ في طباعة النقود الورقية غير المغطاة لتمويل مدفوعات الفائدة وعجز الموازنة، إلا أن ذلك سيزيد التضخم أكثر.

في الوقت نفسه، سيقوم الاحتياطي الفدرالي، شهر مايو 2022، بسحب بعض الأموال المطبوعة سابقا من التداول، بمعنى أنه عندما لا يكون لديه مصدر للحصول على أموال لدفع الفوائد، يستمر في تقليل مبلغ المال الموجود في جيبه؟ أمر مستحيل.

باختصار، فقدت الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل السيطرة على التضخم، ومن المستحيل وقف تدهور الوضع إلى تضخم مفرط. هناك كارثة محققة تنضج في جميع القطاعات المالية بالولايات المتحدة الأمريكية. وأي إجراء يتخذ للنجاة من أي التهديدات بالموت يعجل الموت بتهديد آخر. فالتضخم يتسارع، وعجز الموازنة يتزايد، ومن المستحيل تمويله، ومن الضروري رفع سعر الفائدة، لكن ذلك سيؤدي إلى إفلاس جماعي للمدينين. قائمة طويلة من العوامل يمكن الاستمرار بسردها.

وليس هناك سوى خلاص واحد فقط: رفض الولايات المتحدة الأمريكية لسداد ديونها. أخشى أن يحدث ذلك خلال هذا العام، في الخريف، أو ربما حتى في الصيف. أي أن أوروبا واليابان ودول الخليج الغنية ستفقد احتياطياتها...

ولكن، هل يمكن لرفض سداد الديون أن يحفظ الدولار كعملة؟.

 

عمر نجيب

[email protected]