لا تكون المأمورية الثالثة للرئيس حراك الحمالة وسيناريوهات المأمورية الثالثة:
لا تكون المأمورية الثالثة للرئيس محمد ولد عبد العزيز ممكنة إلا في حالتين فقط : في حالة حدوث حراك شعبي عنيف أو حرب أهلية شاملة ذات طابع عرقي أو فئوي؛ أو في حالة وجود تهديد أمني خارجي قوي يستدعي تحمل المسؤولية وتقمص دور الإنقاذ باسم "الواجب الوطني" و"المصلحة العليا" للبلد على نحو ما يحدث دائما في بعض التمثيليات التي تقوم بها بعض الأنظمة الانقلابية حول العالم. وباستثناء هذين الاحتمالين ليس لدينا ما يدفعنا إلى التشكيك في نوايا رئيسنا وإرادة شركائنا الخارجيين.
وإذا كان السيناريو الأول هو الأقرب حاليا بفعل تضافر الظروف الموضوعية (التفاوت والتهميش والغبن وسوء أوضاع الفئات الهشة خصوصا الأرقاء السابقين وسياسة الدولة المعلنة تجاه هؤلاء )، أو بفعل التخطيط الإرادي المسبق من بعض الأطراف الفاعلة في النظام لتمرير مخططاتها جهنمية غبية بامتياز؛ فإن السيناريو الثاني ليس مستبعدا تماما بسبب حساسية الوضع الأمني على حدودنا الخارجية وتعدد الأطراف المعنية بالأمن والاستقرار في المنطقة.
وقد لا يحتاج تدبير تلك المخططات الجهنمية إلى الخبث أو سوء النية أو الجهل بمآلات الأمور بقدر ما يحتاج إلى درجة معينة من الذكاء تجعل أصحابها أنفسهم في منأى من الاكتواء بنارها.
ففي غياب شرطة وطنية مدربة وكافية من حيث العدد ومؤهلة من حيث الخبرة في قمع الاحتجاجات وإخماد نار الفتن، يتعذر الاعتماد على الجيش: فطبيعة الجيش وبنيته تمنع من اللجوء إليه في القضاء على أي نزاع داخلي :عرقي أو فئوي بل على العكس قد يكون تدخله بمثابة صب الزيت على النار واللبيب بالإشارة يفهم. ولولا واجب التحفظ والطبيعة الحساسة للجيش ومكانته في معادلة الأمن القومي في بعديها الداخلي والخارجي لبسطت القول في هذا.
وبالإضافة إلى الأوضاع الاجتماعية الهشة تجعلنا بعض التطورات التي عرفتها الساحة السياسية مؤخرا (الأخطاء التي صاحبت عملية الانتساب والتسجيل على اللوائح الانتخابية وضعف ترشيحات الحزب الحاكم للاستحقاقات القادمة وقوة مرشحي المعارضة والمستقلين...إلخ) أمام خيارين لا ثالث لهما: انقلاب ديمقراطي وتغير جذري في موازين القوى أو انقلاب دستوري (من داخل السلطة، بواسطتها أو عليها أو هما معا) بدعوى الحفاظ على الأمن والمصالح العليا للبلد.
السيناريو الأول (سيناريو الانقلاب الديمقراطي) هو الأبرز حتى الآن :ويتعلق الأمر بانقلاب أبيض وإعادة إنتاج تجربة مجلس الشيوخ في البرلمان المقبل الذي أصبح من الواضح أنه لن يعرف على الأقل تواجد تلك الأغلبية المريحة التي تعودنا عليها في البرلمانات السابقة وهو ما قد يدفع بعض الأيادي الخفية في النظام - قد لا يكون الرئيس جزءا منها حتى الآن- إلى تفعيل خيار الفوضى الخلاقة لتحقيق أهدافها.
وفي المقابل فإن الحراطين الضلع الغائب والمغيب في المأمورية الثانية للرئيس محمد ولد عبد العزيز، الذين تجتاحهم الآن موجة من الغضب والوعي الطبقي الحاد المنذر بمآلات خطيرة، قد يصبحون بالفعل مفتاح المأمورية الثالثة في مخطط جهنمي لن تتورع بعض الجهات عن تنفيذه إذا وجدت بعض الأغبياء الذين ينساقون فيه فيهلكوا ويهلكون غيرهم.
وفي الواقع فإن حراك حمالة ميناء انواكشوط وأحداث أخرى سبقته هو مجرد مظهر من مظاهر غياب العدالة في التوزيع على كافة المستويات : الثروة والمعرفة والسلطة : لكنه للأسف قد يأخذ مسارين مختلفين أحلاهما مر: فقد يؤدي - إن هو ظل بأيدي أصحابه- إلى زيادة التأزيم وتباعد الشقة بين المكونات الاجتماعية وتنامي الوعي الطبقي وثقافة الكراهية؛ كما قد يصبح في الآن نفسه وسيلة في يد جهات عليا في السلطة لتمرير مخططات جهنمية لا تعرف بالضبط مدى خطورتها، قوى الظلام قد ترى في خلط الأوراق والفوضى غير الخلاقة العصا السحرية في تحقيق مآربها: الانقلاب على الديمقراطية الناقصة أصلا والمتداعية أسا ومبنى.
ولهذا السبب لا بد من إيجاد حل سريع لهذا الحراك يضمن حقوق المهمشين ويبعد شبح الفتنة. فماذا يضر لو أقنعت السلطة العليا في البلد الذين هم أكثر حظا في المجتمع (أرباب العمل وهم في هذه الحالة أسرة واحدة تقريبا) بمراعاة حقوق الذين هم أقل حظا (الحمالة) برفع رسوم تفريغ البضائع من 80 أوقية إلى 200 أوقية أو 150(MRU) للطن الواحد دعما للقدرة الشرائية لهؤلاء الحمالة الذين يحملون أثقالا فوق أثقالهم والذين لم يستفيدوا أبدا من الصفقات العمومية المشبوهة ولا من المحاباة والفراغات القانونية الكثيرة التي بموجبها أثرى الكثيرون ولا يزالون يثرون حتى الآن على حساب هؤلاء وأضرابهم ؟!
حراك الحمالين إذا ما بقي في حدود القانون هو أبسط تعبير عن الحاجة إلى التوزيع العادل للثروة الذي يعبر عنه مبدأ "التمييز الإيجابي" عند فلاسفة السياسة القاضي بأن يكون التفاوت -الذي لا مناص منه في الدولة اللبرالية- في مصلحة الجميع وخاصة في مصلحة الذين هم أقل حظا في المجتمع مثل هؤلاء : فلا تكون استفادة الأكثر حظا الأكيدة والضرورية بحكم الطبيعة مشروعة ولا عادلة إلا عندما تُمنح للأقل حظا حقوقٌ كاملة: (كالصحة والنقل والضمان الاجتماعي واحترام الحد الأدنى للأجور..إلخ ).
ولكي لا نتوقف فقط عند الجوانب السلبية لهذه الأزمة تجدر الإشارة إلى الجهود الطيبة التي بذلتها الدولة في محاولة منها لتنظيم العمالة غير المصنفة بصفة عامة وعمال الميناء بصفة خاصة ودمجهم في قطاع الوظيفة العمومية وتعويض الراغبين منهم في ترك المهنة أو الذين لم تؤهلهم ظروفهم الصحية للعمل بها هذه جهود لا بد من ذكرها والإشادة بها رغم الثغرات العديدة الموجودة فيها.
يمكن للسلطة أن توظف هذه القوة الاجتماعية الهائلة والحاضنة الاجتماعية التي تنتمي إليها توظيفا إيجابيا إن هي ساهمت في التخفيف من معاناتها وآلامها وليس فقط توظيفا سلبيا سيرتد عاجلا أو آجلا على مصالحها هي قبل غيرها وعلى مصالح الشعب بأكمله.
ولا شك أن حماية مصالح الأغنياء والقلة الثرية في هذا المجتمع تمر حتما بضمان حقوق العمال فيه ويجب أن يكون الأكثر حظا قبل غيرهم أكثر حرصا على إنصاف الأقل حظا فالطبيعة الإنسانية أيا كانت تحتوى على هذا الدافع بحكم الفطرة :الحسد والغيرة حتى في الفروق العادية والقانونية في الثروة فما بالك إذا كانت غير طبيعية وغير قانونية.
بناء على ذلك فإن هناك ضرورة ماسة لاحتواء الموقف بسرعة وذلك من خلال القيام بالإجراءات التالية:
•التزام الطرف الحكومي باحترام تعهداته السابقة للحمالة والشروع فورا في تنفيذها
•إلغاء نظام الشركات الوسيطة لاكتتاب العمال المعمول به أيضا في قطاعات أخرى كالمعادن والأمن الخصوصي وتصدير العمالة المنزلية وغيرها والذي يمثل في الواقع شكلا من أشكال العبودية المقننة حيث لا يحصل فيه العمال إلا على أقل من ثلث الأجور التي خصصتها لهم الشركات الأجنبية وفقا للنظم الدولية المعمول بها في حين تستولي الشركات الوسيطة غالبا على الباقي دون سبب وجيه. ويتعين في هذا الصدد أن تتولى مديرية الشغل التابعة لوزارة الوظيفة العمومية بنفسها تدبير شؤون العمال لحمايتهم من جشع المتاجرين بعرقهم.
•إنشاء صندوق خاص للمعاشات والخدمات بدعم من الدولة وعن طريق خصم مبالغ رمزية من الدخول الشهرية للعمال لتوفير الضمان الاجتماعي والصحي ويجب أن يكون من مهام ذلك الصندوق أيضا تقديم القروض للعمال في حالة العجز والمرض وحوادث الشغل ..إلخ مع ضمان التسيير الشفاف لذلك الصندوق.
وفي المقابل يتعين أن تتولى إدارة الميناء توفير وسائل نقل بأسعار رمزية لنقل العمال من الميناء وإليه، وتجهيز مرفق صحي يتضمن قسما للحالات المستعجلة وسيارة للإسعاف، وتخصيص أماكن لائقة للاستراحة ومركز تجاري يوفر الخدمات المختلفة ( يجب أن ندرك أن هؤلاء بحكم عددهم وتواجدهم الدائم في هذا المكان هم عبارة عن مجتمع قائم بذاته على الدولة توفير المرافق الضرورية له كغيره من التجمعات السكانية الأخرى).
•الموافقة على تفريغ الحاويات داخل الميناء وليس خارجه وهذا الأمر في الواقع هو مصلحة عامة وضرورة أمنية قبل أن يكون مصلحة خاصة للحمالة لأن تفريغ الحاويات في الميناء يساعد في التصدي لتهريب المواد المحرمة أو الخطيرة على صحة المواطن قبل وصولها إلى أماكن تصعب مراقبتها فيها.
•منع تشغيل العمال الأجانب لتفريغ الحاويات في المخازن الخاصة داخل الأسواق في مقابل أجور زهيدة ففي ذلك انتهاك صارخ لحقوق الحمالة المرخصة وحدها بموجب القانون للقيام بهذا العمل ولما في ذلك من إرباك لحركة المرور وتهديد لأمن المواطنين.
•زيادة سعر التفريغ للطن بحيث يصل إلى حدود 150 أوقية (جديدة) للطن الواحد
•التوقف على الفور عن تسييس الملف من طرف الجميع والكف عن التلاعب بالعمال من طرف أجهزة الدولة وغيرها
•إنهاء الإضراب وتنظيم ورشات متعددة لتثقيف العمال بقوانين الشغل واحترام القانون وترسيخ الروح النقابية المجردة بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة لمختلف الأطراف.
والحال أن كل هذه الإجراءات على أهميتها تظل دون أهمية ما لم يتم التخطيط لمعالجة المشكلة من جذورها: فإذا كان هؤلاء العمال يتظاهرون من أجل قوتهم اليومي فذلك لأن وراءهم أسرا فقيرة جدا وظروفا اجتماعية مزرية ناجمة عن عوامل اجتماعية وتاريخية موضوعية ويتعلق الأمر هنا بالعبودية وانعكاساتها الاقتصادية والتربوية والاجتماعية والنفسية. وكما قلنا دائما فإن معالجة تلك الآثار لا يمكن أن تتم إلا من خلال مقاربتين تسيران جنبا إلى جنب هما: المقاربة التربوية والمقاربة الاقتصادية.
بخصوص المقاربة التربوية نجد أن مخلفات الرق وانعدام الفرص المتساوية في التعليم هي التي أنتجت هذا الكم الكبير من العمال الأميين الذين لا يعولون على شيء غير القوة العضلية لتحصيل قوتهم اليومي وجعلت ذراريهم مثلهم عرضة للتسرب المدرسي والعنف وكل الظواهر الاجتماعية السلبية التي تنعكس سلبا على الأمن.
وبالتالي فإن تفعيل البند المتعلق بالمناطق ذات الأولية التربوية (zones d’éducation prioritaires) (ZEP) من خارطة الطريق الخاصة بالقضاء على آثار الرق هو الخطوة الأولى في هذا المجال . وقد ألمحنا سابقا إلى اختفاء المشروع الذي أعلنت عنه الدولة في هذا الخصوص والميزانية المخصصة له والتي تقدر بعدة مليارات في أدراج حكومة المهندس يحيى ولد حدمين كيف حدث ذلك؟ ولماذا؟! وقد نبهنا أيضا إلى أن ذلك المشروع قد يكون هو المدخل الوحيد المتوفر حاليا لإصلاح التعليم فذلك المشروع يسمح بالقضاء على الفروق في مجال التعليم ويسمح بالحصول على حظوظ متساوية في التعليم للجميع أي ما يسمى :les mêmes enseignements dans les mêmes conditions
أما بخصوص المقاربة الاقتصادية التي لا تنفصل عن المقاربة التربوية فقد أكدنا دائما على ضرورة دعم النشاط الذي يعتاش منه السواد الأعظم من أفراد هذه الشريحة دون تمييز بين المشتغلين به منهم أو من غيرهم وهو الزراعة وخصوصا الزراعة المطرية والواحات وغيرها مثلما أن المناطق ذات الأولوية التربوية لا تميز بين المستفيدين على أساس اللون أو الأصل الاجتماعي بل على أسس موضوعية : منها الفقر والحرمان وظروف الأبوين المادية ومستواهم الثقافي وغيرها..
ولا يمكن أن ننتهي من وصف الحلول قبل الحديث عن هيئة تم إنشاؤها في الأصل لمعالجة آثار الاسترقاق في موريتانيا وهي وكالة التضامن التي فشلت في معالجة المشكلة لغياب الرؤية والتخطيط الواضح مع التذرع ببناء فصول دراسية هنا وبئر أرتوازية هناك وسد رملي في مكان آخر دون أن يكون لذلك أية أثار محسوسة على المشكلة وذلك في تنافس غير مشروع مع القطاعات الحكومية المعنية أصلا بتلك السياسات والتي تتقاضى ميزانيات مخصصة لها فأين ذهبت تلك الميزانيات؟ وأين ذهبت المليارات المخصصة لوكالة التضامن ؟ فلا القطاعات الحكومية صرفت ميزانياتها فيما يعنيها ولا وكالة التضامن أيضا.
ما يربو على عشرة مليارات أوقية كانت في وقت ما ميزانية الوكالة .هذا المبلغ كاف لتمويل المناطق ذات الأولوية التربوية ومباشرة المساعي في استئصال المشكلة من جذورها : توفير تعليم ملائم لأبناء آدوابه ومناطق الظل في العاصمة والمدن الكبيرة والأرياف بشكل يعوض الفرق في فرص التعليم بينهم وبين نظرائهم من أبناء الذين هم أكثر حظا.وبحل هذه المشكلة نكون قد تقدمنا أشواطا كبيرة في معالجة آثار الاسترقاق.
لكن تسييس الوكالة وغموض الأهداف التي أنشئت من أجلها جعلها تتحول منذ البداية إلى وكالة سياسية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمعالجة آثار الاسترقاق لتبقى مشكلة الحراطين دائما سلاحا ذو حدين وبؤرة صداع وألم لا ينتهي مع علمنا الكامل بطبيعة الداء وتوفر الدواء. ولد عبد العزيز ممكنة إلا في حالتين فقط : في حالة حدوث حراك شعبي عنيف أو حرب أهلية شاملة ذات طابع عرقي أو فئوي؛ أو في حالة وجود تهديد أمني خارجي قوي يستدعي تحمل المسؤولية وتقمص دور الإنقاذ باسم "الواجب الوطني" و"المصلحة العليا" للبلد على نحو ما يحدث دائما في بعض التمثيليات التي تقوم بها بعض الأنظمة الانقلابية حول العالم. وباستثناء هذين الاحتمالين ليس لدينا ما يدفعنا إلى التشكيك في نوايا رئيسنا وإرادة شركائنا الخارجيين.
وإذا كان السيناريو الأول هو الأقرب حاليا بفعل تضافر الظروف الموضوعية (التفاوت والتهميش والغبن وسوء أوضاع الفئات الهشة خصوصا الأرقاء السابقين وسياسة الدولة المعلنة تجاه هؤلاء )، أو بفعل التخطيط الإرادي المسبق من بعض الأطراف الفاعلة في النظام لتمرير مخططاتها جهنمية غبية بامتياز؛ فإن السيناريو الثاني ليس مستبعدا تماما بسبب حساسية الوضع الأمني على حدودنا الخارجية وتعدد الأطراف المعنية بالأمن والاستقرار في المنطقة.
وقد لا يحتاج تدبير تلك المخططات الجهنمية إلى الخبث أو سوء النية أو الجهل بمآلات الأمور بقدر ما يحتاج إلى درجة معينة من الذكاء تجعل أصحابها أنفسهم في منأى من الاكتواء بنارها.
ففي غياب شرطة وطنية مدربة وكافية من حيث العدد ومؤهلة من حيث الخبرة في قمع الاحتجاجات وإخماد نار الفتن، يتعذر الاعتماد على الجيش: فطبيعة الجيش وبنيته تمنع من اللجوء إليه في القضاء على أي نزاع داخلي :عرقي أو فئوي بل على العكس قد يكون تدخله بمثابة صب الزيت على النار واللبيب بالإشارة يفهم. ولولا واجب التحفظ والطبيعة الحساسة للجيش ومكانته في معادلة الأمن القومي في بعديها الداخلي والخارجي لبسطت القول في هذا.
وبالإضافة إلى الأوضاع الاجتماعية الهشة تجعلنا بعض التطورات التي عرفتها الساحة السياسية مؤخرا (الأخطاء التي صاحبت عملية الانتساب والتسجيل على اللوائح الانتخابية وضعف ترشيحات الحزب الحاكم للاستحقاقات القادمة وقوة مرشحي المعارضة والمستقلين...إلخ) أمام خيارين لا ثالث لهما: انقلاب ديمقراطي وتغير جذري في موازين القوى أو انقلاب دستوري (من داخل السلطة، بواسطتها أو عليها أو هما معا) بدعوى الحفاظ على الأمن والمصالح العليا للبلد.
السيناريو الأول (سيناريو الانقلاب الديمقراطي) هو الأبرز حتى الآن :ويتعلق الأمر بانقلاب أبيض وإعادة إنتاج تجربة مجلس الشيوخ في البرلمان المقبل الذي أصبح من الواضح أنه لن يعرف على الأقل تواجد تلك الأغلبية المريحة التي تعودنا عليها في البرلمانات السابقة وهو ما قد يدفع بعض الأيادي الخفية في النظام - قد لا يكون الرئيس جزءا منها حتى الآن- إلى تفعيل خيار الفوضى الخلاقة لتحقيق أهدافها.
وفي المقابل فإن الحراطين الضلع الغائب والمغيب في المأمورية الثانية للرئيس محمد ولد عبد العزيز، الذين تجتاحهم الآن موجة من الغضب والوعي الطبقي الحاد المنذر بمآلات خطيرة، قد يصبحون بالفعل مفتاح المأمورية الثالثة في مخطط جهنمي لن تتورع بعض الجهات عن تنفيذه إذا وجدت بعض الأغبياء الذين ينساقون فيه فيهلكوا ويهلكون غيرهم.
وفي الواقع فإن حراك حمالة ميناء انواكشوط وأحداث أخرى سبقته هو مجرد مظهر من مظاهر غياب العدالة في التوزيع على كافة المستويات : الثروة والمعرفة والسلطة : لكنه للأسف قد يأخذ مسارين مختلفين أحلاهما مر: فقد يؤدي - إن هو ظل بأيدي أصحابه- إلى زيادة التأزيم وتباعد الشقة بين المكونات الاجتماعية وتنامي الوعي الطبقي وثقافة الكراهية؛ كما قد يصبح في الآن نفسه وسيلة في يد جهات عليا في السلطة لتمرير مخططات جهنمية لا تعرف بالضبط مدى خطورتها، قوى الظلام قد ترى في خلط الأوراق والفوضى غير الخلاقة العصا السحرية في تحقيق مآربها: الانقلاب على الديمقراطية الناقصة أصلا والمتداعية أسا ومبنى.
ولهذا السبب لا بد من إيجاد حل سريع لهذا الحراك يضمن حقوق المهمشين ويبعد شبح الفتنة. فماذا يضر لو أقنعت السلطة العليا في البلد الذين هم أكثر حظا في المجتمع (أرباب العمل وهم في هذه الحالة أسرة واحدة تقريبا) بمراعاة حقوق الذين هم أقل حظا (الحمالة) برفع رسوم تفريغ البضائع من 80 أوقية إلى 200 أوقية أو 150(MRU) للطن الواحد دعما للقدرة الشرائية لهؤلاء الحمالة الذين يحملون أثقالا فوق أثقالهم والذين لم يستفيدوا أبدا من الصفقات العمومية المشبوهة ولا من المحاباة والفراغات القانونية الكثيرة التي بموجبها أثرى الكثيرون ولا يزالون يثرون حتى الآن على حساب هؤلاء وأضرابهم ؟!
حراك الحمالين إذا ما بقي في حدود القانون هو أبسط تعبير عن الحاجة إلى التوزيع العادل للثروة الذي يعبر عنه مبدأ "التمييز الإيجابي" عند فلاسفة السياسة القاضي بأن يكون التفاوت -الذي لا مناص منه في الدولة اللبرالية- في مصلحة الجميع وخاصة في مصلحة الذين هم أقل حظا في المجتمع مثل هؤلاء : فلا تكون استفادة الأكثر حظا الأكيدة والضرورية بحكم الطبيعة مشروعة ولا عادلة إلا عندما تُمنح للأقل حظا حقوقٌ كاملة: (كالصحة والنقل والضمان الاجتماعي واحترام الحد الأدنى للأجور..إلخ ).
ولكي لا نتوقف فقط عند الجوانب السلبية لهذه الأزمة تجدر الإشارة إلى الجهود الطيبة التي بذلتها الدولة في محاولة منها لتنظيم العمالة غير المصنفة بصفة عامة وعمال الميناء بصفة خاصة ودمجهم في قطاع الوظيفة العمومية وتعويض الراغبين منهم في ترك المهنة أو الذين لم تؤهلهم ظروفهم الصحية للعمل بها هذه جهود لا بد من ذكرها والإشادة بها رغم الثغرات العديدة الموجودة فيها.
يمكن للسلطة أن توظف هذه القوة الاجتماعية الهائلة والحاضنة الاجتماعية التي تنتمي إليها توظيفا إيجابيا إن هي ساهمت في التخفيف من معاناتها وآلامها وليس فقط توظيفا سلبيا سيرتد عاجلا أو آجلا على مصالحها هي قبل غيرها وعلى مصالح الشعب بأكمله.
ولا شك أن حماية مصالح الأغنياء والقلة الثرية في هذا المجتمع تمر حتما بضمان حقوق العمال فيه ويجب أن يكون الأكثر حظا قبل غيرهم أكثر حرصا على إنصاف الأقل حظا فالطبيعة الإنسانية أيا كانت تحتوى على هذا الدافع بحكم الفطرة :الحسد والغيرة حتى في الفروق العادية والقانونية في الثروة فما بالك إذا كانت غير طبيعية وغير قانونية.
بناء على ذلك فإن هناك ضرورة ماسة لاحتواء الموقف بسرعة وذلك من خلال القيام بالإجراءات التالية:
•التزام الطرف الحكومي باحترام تعهداته السابقة للحمالة والشروع فورا في تنفيذها
•إلغاء نظام الشركات الوسيطة لاكتتاب العمال المعمول به أيضا في قطاعات أخرى كالمعادن والأمن الخصوصي وتصدير العمالة المنزلية وغيرها والذي يمثل في الواقع شكلا من أشكال العبودية المقننة حيث لا يحصل فيه العمال إلا على أقل من ثلث الأجور التي خصصتها لهم الشركات الأجنبية وفقا للنظم الدولية المعمول بها في حين تستولي الشركات الوسيطة غالبا على الباقي دون سبب وجيه. ويتعين في هذا الصدد أن تتولى مديرية الشغل التابعة لوزارة الوظيفة العمومية بنفسها تدبير شؤون العمال لحمايتهم من جشع المتاجرين بعرقهم.
•إنشاء صندوق خاص للمعاشات والخدمات بدعم من الدولة وعن طريق خصم مبالغ رمزية من الدخول الشهرية للعمال لتوفير الضمان الاجتماعي والصحي ويجب أن يكون من مهام ذلك الصندوق أيضا تقديم القروض للعمال في حالة العجز والمرض وحوادث الشغل ..إلخ مع ضمان التسيير الشفاف لذلك الصندوق.
وفي المقابل يتعين أن تتولى إدارة الميناء توفير وسائل نقل بأسعار رمزية لنقل العمال من الميناء وإليه، وتجهيز مرفق صحي يتضمن قسما للحالات المستعجلة وسيارة للإسعاف، وتخصيص أماكن لائقة للاستراحة ومركز تجاري يوفر الخدمات المختلفة ( يجب أن ندرك أن هؤلاء بحكم عددهم وتواجدهم الدائم في هذا المكان هم عبارة عن مجتمع قائم بذاته على الدولة توفير المرافق الضرورية له كغيره من التجمعات السكانية الأخرى).
•الموافقة على تفريغ الحاويات داخل الميناء وليس خارجه وهذا الأمر في الواقع هو مصلحة عامة وضرورة أمنية قبل أن يكون مصلحة خاصة للحمالة لأن تفريغ الحاويات في الميناء يساعد في التصدي لتهريب المواد المحرمة أو الخطيرة على صحة المواطن قبل وصولها إلى أماكن تصعب مراقبتها فيها.
•منع تشغيل العمال الأجانب لتفريغ الحاويات في المخازن الخاصة داخل الأسواق في مقابل أجور زهيدة ففي ذلك انتهاك صارخ لحقوق الحمالة المرخصة وحدها بموجب القانون للقيام بهذا العمل ولما في ذلك من إرباك لحركة المرور وتهديد لأمن المواطنين.
•زيادة سعر التفريغ للطن بحيث يصل إلى حدود 150 أوقية (جديدة) للطن الواحد
•التوقف على الفور عن تسييس الملف من طرف الجميع والكف عن التلاعب بالعمال من طرف أجهزة الدولة وغيرها
•إنهاء الإضراب وتنظيم ورشات متعددة لتثقيف العمال بقوانين الشغل واحترام القانون وترسيخ الروح النقابية المجردة بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة لمختلف الأطراف.
والحال أن كل هذه الإجراءات على أهميتها تظل دون أهمية ما لم يتم التخطيط لمعالجة المشكلة من جذورها: فإذا كان هؤلاء العمال يتظاهرون من أجل قوتهم اليومي فذلك لأن وراءهم أسرا فقيرة جدا وظروفا اجتماعية مزرية ناجمة عن عوامل اجتماعية وتاريخية موضوعية ويتعلق الأمر هنا بالعبودية وانعكاساتها الاقتصادية والتربوية والاجتماعية والنفسية. وكما قلنا دائما فإن معالجة تلك الآثار لا يمكن أن تتم إلا من خلال مقاربتين تسيران جنبا إلى جنب هما: المقاربة التربوية والمقاربة الاقتصادية.
بخصوص المقاربة التربوية نجد أن مخلفات الرق وانعدام الفرص المتساوية في التعليم هي التي أنتجت هذا الكم الكبير من العمال الأميين الذين لا يعولون على شيء غير القوة العضلية لتحصيل قوتهم اليومي وجعلت ذراريهم مثلهم عرضة للتسرب المدرسي والعنف وكل الظواهر الاجتماعية السلبية التي تنعكس سلبا على الأمن.
وبالتالي فإن تفعيل البند المتعلق بالمناطق ذات الأولية التربوية (zones d’éducation prioritaires) (ZEP) من خارطة الطريق الخاصة بالقضاء على آثار الرق هو الخطوة الأولى في هذا المجال . وقد ألمحنا سابقا إلى اختفاء المشروع الذي أعلنت عنه الدولة في هذا الخصوص والميزانية المخصصة له والتي تقدر بعدة مليارات في أدراج حكومة المهندس يحيى ولد حدمين كيف حدث ذلك؟ ولماذا؟! وقد نبهنا أيضا إلى أن ذلك المشروع قد يكون هو المدخل الوحيد المتوفر حاليا لإصلاح التعليم فذلك المشروع يسمح بالقضاء على الفروق في مجال التعليم ويسمح بالحصول على حظوظ متساوية في التعليم للجميع أي ما يسمى :les mêmes enseignements dans les mêmes conditions
أما بخصوص المقاربة الاقتصادية التي لا تنفصل عن المقاربة التربوية فقد أكدنا دائما على ضرورة دعم النشاط الذي يعتاش منه السواد الأعظم من أفراد هذه الشريحة دون تمييز بين المشتغلين به منهم أو من غيرهم وهو الزراعة وخصوصا الزراعة المطرية والواحات وغيرها مثلما أن المناطق ذات الأولوية التربوية لا تميز بين المستفيدين على أساس اللون أو الأصل الاجتماعي بل على أسس موضوعية : منها الفقر والحرمان وظروف الأبوين المادية ومستواهم الثقافي وغيرها..
ولا يمكن أن ننتهي من وصف الحلول قبل الحديث عن هيئة تم إنشاؤها في الأصل لمعالجة آثار الاسترقاق في موريتانيا وهي وكالة التضامن التي فشلت في معالجة المشكلة لغياب الرؤية والتخطيط الواضح مع التذرع ببناء فصول دراسية هنا وبئر أرتوازية هناك وسد رملي في مكان آخر دون أن يكون لذلك أية أثار محسوسة على المشكلة وذلك في تنافس غير مشروع مع القطاعات الحكومية المعنية أصلا بتلك السياسات والتي تتقاضى ميزانيات مخصصة لها فأين ذهبت تلك الميزانيات؟ وأين ذهبت المليارات المخصصة لوكالة التضامن ؟ فلا القطاعات الحكومية صرفت ميزانياتها فيما يعنيها ولا وكالة التضامن أيضا.
ما يربو على عشرة مليارات أوقية كانت في وقت ما ميزانية الوكالة .هذا المبلغ كاف لتمويل المناطق ذات الأولوية التربوية ومباشرة المساعي في استئصال المشكلة من جذورها : توفير تعليم ملائم لأبناء آدوابه ومناطق الظل في العاصمة والمدن الكبيرة والأرياف بشكل يعوض الفرق في فرص التعليم بينهم وبين نظرائهم من أبناء الذين هم أكثر حظا.وبحل هذه المشكلة نكون قد تقدمنا أشواطا كبيرة في معالجة آثار الاسترقاق.
لكن تسييس الوكالة وغموض الأهداف التي أنشئت من أجلها جعلها تتحول منذ البداية إلى وكالة سياسية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمعالجة آثار الاسترقاق لتبقى مشكلة الحراطين دائما سلاحا ذو حدين وبؤرة صداع وألم لا ينتهي مع علمنا الكامل بطبيعة الداء وتوفر الدواء.
من صفحة الدكتور والوزير السابق البكاي عبد المالك