يَتوجَّه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العاصِمة الفنلنديّة هلسنكي اليوم الأحد لحُضور لِقاء القمّة الأوّل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وهو في أسوأ حالاتِه، فقد حاصَرته المُظاهَرات الصَّاخِبة في كُل بُقعَةٍ زارَها في بريطانيا احتجاجًا على سِياساتِه العُنصريّة التي تقود العالم إلى حافّة الهاوِية، بينما خَسِر في الوَقتِ نَفسِه ثِقَة مُعظَم حُلفائِه الأُوروبيين أثناء مُشارَكتِه في قِمّة حلف الناتو في بروكسل، حيت تَطاوَل عليهم، وتعاطى معهم كتلاميذ صِغار، وعايَرهم بالتَّنعُّم بالحِماية الأمريكيّة مَجّانًا.
قبل الانتقال إلى الحديث عن قِمّة هلسنكي لا يُمكِن إغفال الإهانة الكَبيرة التي وجّهها أكثر من مِئة ألف مُتظاهِر في لندن إلينا كعرب، عندما تَقدَّم مَسيراتهم شَخصًا شَبيهًا بالرئيس ترامب وهو يَجُر خَلفه زعيمين من مِنطَقة الخليج العربي، تقول اللافِتة الاحتجاجيّة المُصاحِبة لهذا المشهد “نحن لَسنا تابِعين مِثل حُلفائِك العَرب تقودنا بهَذهِ الطَّريقة”.
إذا كان الزُّعَماء الأُوروبيّون يَلتَقون ناخبيهم على أرضيّة الكراهيّة لترامب، ورفض غطرسته وتعاليه وعُنصريّته، فإنّ لقائه مع الرئيس الروسي سيكون أكثر صُعوبةً، فالرئيس بوتين يتَّسِم بالدَّهاء، وبُرودَة الأعصاب، ويتعاطَى مع غريمه الأمريكي كشَخصٍ أحمق، وسِمسار عقارات، وزير نساء، ويتطلّع لانتزاع أكبر قَدرٍ مُمكنٍ من المكاسِب في هذا اللقاء، فهو لا يُمكِن أن ينسى، أي الرئيس بوتين، أنّ ترامب وقبل أقل من شَهرين أقدَم على إبعاد حواليّ 50 دبلوماسيًّا روسيًّا تَضامُنًا مع بريطانيا التي اتّهمت جِهاز المُخابرات الروسي بتَسميم الجاسوس الروسي سيرغي سكريبال وابنته بغاز الأعصاب.
***
لا يتَّسِع هذا الحيّز لمُناقَشة جميع القضايا المَطروحة على مائِدة البحث، مِثل الخِلاف حول أوكرانيا وشِبه جزيرة القرم، والتَّدخُّل الروسي المُحتَمل في الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة، وكوريا الشماليّة، ونَجِد لِزامًا عَلينا التركيز على القَضيّة الأهَم في رأينا وهي الأزمة السوريٍة، والوُجود الإيرانيّ، والاتِّفاق النوويّ، واحتمالات الحَرب المُتوقَّعة بين أمريكا وحُلفائِها من ناحِيةٍ، وإيران وحُلفائِها في الخَندق المُقابِل.
وجود الرئيس بشار الأسد في قِمّة السُّلطة لم يَعُد موضوعًا للنِّقاش في هَذهِ القِمّة، أو غيرها، والشَّيء نفسه يُقال عن هزيمة المَشروع الأمريكي ليس في سورية وحدها إنّما في مُعظَم مِنطَقة الشرق الأوسط، فروسيا مَلأت الفراغ، وأصبح رئيسها بوتين يَملُك اليَد العُليا، وبعد سيطرة الجيش العربي السوري على المَناطِق الجنوبيّة وفتح الحُدود مع الأُردن، وقَبلها الغُوطة الشرقيّة، وتَخلِّي أمريكا عن المُعارضة السوريّة المدنيّة والمُسلَّحة، بدأت سورية جديدة مُختَلِفة تَطُل بِرأسِها بقُوّة من وَسَطِ الأنقاض.
النَّغمة السَّائِدة التي يُمكِن رصد “ذَبذَبتها” من خِلال مُتابَعة التسريبات الغربيّة، تقول بوُجود “مُقايَضة” ربٍما تحتل حيّزًا كبيرًا في المُفاوضات بين الزَّعيمين، عُنصرها الأساسي انسحاب القُوّات الأمريكيّة كُلِّيًّا من سورية (2200 جندي) مُقابِل احتواء روسيا للوُجود الإيرانيّ.
اللافت أنّ هَذهِ التَّسريبات لم تَعُد تتحدَّث عن “إخراجِ” القُوّات الإيرانيّة، وإنّما تتحدَّث عن احتوائِها، أي السَّيطرةِ عليها، والحُصول على تَعهّدات بعَدم استخدامِها للأراضي السوريّة كنُقطَةِ انطلاقٍ لأيِّ هُجومٍ ضِد دولة الاحتلال الإسرائيلي، وفي حالِ قُبولِ الرُّوس بهذهِ المُقايَضة فإنّ ترامب سَيُعلِن انسحاب جميع القُوّات الأمريكيّة من سورية، ونِهاية الحَرب فيها.
وما يَجعلنا نُرَجِّح طَرح هذا السِّيناريو، وليس نجاحه قطعًا، أنّ بنيامين نِتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي سيتّصل هاتِفيًّا بالرئيس ترامب قبل القِمّة، ربّما لتَوجيه بعض المَطالِب، وفرض لائِحة من الإملاءاتِ عليه، وهو العائِد للتَّو من موسكو.
لا نَتوقَّع فُرَص نجاح كبيرة أو صغيرة لهَذهِ المُقايَضة، لسَببٍ بسيط وهو أنّ الرئيس بوتين يذهَب إلى هَذهِ القمّة وهو أكثر قُوّة من أيِّ وَقتٍ مَضى، فقد حسم الحرب في سورية وِفق أهدافِه ومُخطَّطاتِه، وحسم مسألة ضَم شِبه جزيرة القُرم نِهائيًّا، وعَزّز وجود حُلفائِه الانفصاليين في شَرق أوكرانيا، وأخيرًا تحقيق نجاح باهِر وغير مسبوق في تنظيم نِهائيّات كأس العالم (المونديال) ودُون وُقوع حادِثةٍ واحِدةٍ لافِتَة.
القُوّات الأمريكيّة ستُجبَر على الانسحاب من سورية، ومن العِراق دون أيِّ “مُقايَضة” ليس فقط لأنّ المشروع الأمريكي تلقّى هَزيمةً قاتِلة، وإنّما لأنّ موازين القِوى لم تَعُد لصالِح واشنطن، وما حَدث في العِراق على يد المُقاومة الباسِلة سيَتكرّر حَتمًا، وقَريبًا في البَلدين، عَلاوةً على أفغانستان أيضًا.
***
حِبال الصَّبر الروسيّة في سورية والمِنطَقة طويلة، بل طويلة جِدًّا، والهَيمنة الإسرائيليّة بَدأت تتآكَل بِسُرعة، وحالة الهَلع التي تُسيطِر على نِتنياهو ورَهطِه من جرّاء التغيير على الأرض باتَ من السَّهل رصدها، دونَ عَناء، فإذا كانت الطائرات الورقيّة على حُدود غزّة بَندًا مُهِمًّا على رأسِ بُنود الهُدنة، وإذا كانت الطائرات السوريّة والإيرانيّة والحمساويّة المُسيّرة (بُدون طيّار) التي لا تُكلِّف أكثر من 300 دولار تُسقِطها صواريخ “الباتريوت”الإسرائيليّة التي قيمة كُل واحِد منها سبعة ملايين دولار، فكَيف سيستطيع رئيس الوزراء الإسرائيلي وأعضاء حُكومته الأمنيّة المُصَغَّرة النَّوم؟
لِقاء القمّة الأهَم في نَظرِنا ليس الذي سيُعقَد غدًا في هلسنكي، وإنّما الروسي التركي الإيراني الذي سيَلتَئِم في طِهران أواخِر هذا الشَّهر، وهي القِمّة الثُّلاثيّة التي سَتَرسُم خَريطة المِنطَقة الجديدة، الخالِية أو شِبه الخالِية، من الوُجود الأمريكيّ، بشقّيه السِّياسيّ والعَسكريّ، بصُورَته السَّابِقة.. والأيّام بَيْنَنَا.
عبد الباري عطوان