يكاد يكون من البداهة أن مظاهر العنف سواء تلك التي تكون بين دولة و دولة أو دول أخري أو تلك التي تأخذ شكل الحرب الأهلية و الاحتراب الداخلي أو تفشي الجريمة الفردية أو المنظمة إنما تأكل “أخضر” التنمية و “يابسها”.
و من أسف أن الاستقصاءات تجمع علي أن دولتين من دول العالم الإسلامي سوريا و أفغانستان تتصدران قائمة الثماني و سبعين دولة التي تعاني من مظاهر العنف و الإرهاب و النزاعات المسلحة الأكثر ضررا اقتصاديا و تنمويا…!!
و سأوضح بالأرقام ما سمحت الدقائق المعدودات المخصصة لهذه المداخلة انعكاسات العنف و النزاعات المسلحة علي اقتصاديات الدول مسرح النزاعات و الدول المجاورة لها من خلال مساءلة خمس مؤشرات تنموية كفيلة بتبيان العلاقة السببية بين النزاعات المسلحة و التخلف و “اللاتنمية”.
أولا: تضخم حجم الفاتورة المالية للنزاعات المسلحة:تعرف تقارير معهد الاقتصاد و السلام “المؤشر العام للسلام” “Globa Index Peace-GPI” بأنه مؤشر “يهدف إلي قياس تكلفة العنف و النزاعات المسلحة من خلال اعتماد 23 مؤشرا فرعيا قياسيا تطال تعويض الخسائر في الأرواح و الممتلكات، نفقات الهيآت الحكومية و الوكالات المتخصصة، تكاليف إعادة الإعمار،ضياع فرص العمل، تراجع الأنشطة الاقتصادية و تأثر دول الجوار…
و يبرز المؤشر العام للسلام لسنة 2014 أن الفاتورة المالية الإجمالية للنزاعات المسلحة عبر العالم بلغت 14.2 ترليون دولار(14000مليار دولار) و أن التكلفة الاقتصادية لأحداث 11 سبتمبر 2011 وحدها تقدر بمئات المليارات من الدولار!!
كما يفيد التقرير المعنون: “المليارات الضائعة بإفريقيا” “The missing billions in Africa” والمعد من طرف منظمتي OXFAM و Safeworld أن إفريقيا أضاعت منذ 1990 إلي 2014 قراية 300 مليار دولار في تمويل النزاعات المسلحة و هو ما يعادل الميزانية السنوية للدولة الموريتانية لمدة ثلاثمائة سنة!!! كما أن تكلفة العنف و النزاعات المسلحة بإفريقيا تبلغ سنويا 18 مليار دولار و هو ما يقارب مجموع الميزانية السنوية لدولة مثل موريتانيا ثمانية عشر مرة!!
ثانيا:تدهور الناتج الداخلي الخام: تظهر الإحصائيات أن متوسط كلفة النزاعات المسلحة بالنسبة للدول المتضررة يمثل سنويا 15% من “الناتج الداخلي الخام”Gross Domestic Product للدول مسرح النزاعات المسلحة.
و تسجل دول من العالم الإسلامي التي تعاني من تغول الإرهاب أعلي نسب تضرر الناتج الداخلي الخام: سوريا 42%، و أفغانستان 31% و العراق 30%،… بما يعني أن النزاعات المسلحة بهذا الدول إذا لم يتم إيجاد حل سلمي لها عاجلا فإنها قد تهدد بقاء تلك الدول و استقرار و مستقبل العالم الإسلامي بأسره!!
ثالثا: العجز عن بلوغ أهداف الألفية:أظهرت بعض المقارنات التي أجرتها مجلةThe economist منشورة في تقرير صدر سنة 2015 أن دولا نامية واقعة تحت لهيب النزاعات المسلحة لم تستطع تحقيق أحد أهداف الألفية المتعلق بتخفيض نسبة وفيات الأطفال دون سن الخامسة إلا بنسبة 19%.
في حين أن دولا مثيلة (ديمغرافيا و تنمويا) خالية من النزاعات المسلحة استطاعت تحقيق نفس الهدف بنسبة 31% كما بينت مقارنات المجلة البريطانية المذكورة أن كل الدول التي ترزح تحت النزاعات المسلحة لم تستطع تحقيق أي من أهداف التنمية في التاريخ المحدد 2015.!!
رابعا:ارتفاع نسبة الفقر: تتواتر الدراسات المتخصصة في “السلام و التنمية” أن الدول مسرح النزاعات المسلحة و خصوصا الإرهاب منها ترتفع فيها نسبة الفقر بمعدل 1 إلي 2% كل سنة من سنوات النزاعات المسلحة أو الأحداث الإرهابية.
و هو ما يعني أن خمسة ملا يين عراقي دخلوا “قفص الفقر” منذ بداية”خطيئة” احتلال العراق سنة 2003 بناء علي “بلاغ أسلحة الدمار الشمال الكاذب ” كما أن قرابة أربعة ملايين من الفقراء الجدد انضافوا إلي الأعداد الغفيرة للفقراء منذ بداية النزاع المسلح بمالي الذي أرخي سدوله علي هذا البلد الشقيق منذ سنة 1995.!!
خامسا: تطور النفقات العسكرية و الأمنية: تؤدي النزاعات المسلحة ومظاهر العنف إلي توجيه الكثير من الأموال التي كان بالإمكان استخدامها في مجالات تنموية إلي بند النفقات العسكرية و الأمنية التي تظهر تقارير معهد السلام و التنمية أنها تستوعب لوحدها قرابة 66% من مجموع الغلاف المالي المخصص عالميا للنزاعات المسلحة و العنف وقاية و علاجا و “خدمات التأهيل بعد النزاع”Services post-conflits”.
و إذا تمهدت العلاقة بين النزاعات المسلحة و التخلف عبر تراجع مؤشرات التنمية في مناطق النزاعات المسلحة فإنه من المثير للاستغراب و الاستفهام أن الدول العالمية اكبري تحرض تارة و تغض الطرف حينا و تتراخي أحيانا كثيرة في تفكيك النزاعات المسلحة و التهديدات الإرهابية رغم علمها أن العالم أصبح جسما واحدا إن أصيب أحد أطرافه الصغري و القصوي بأذي إرهابي أو نحوه فلن يسلم باقي الجسد من السهر و الأرق و “القلق” و الحمي!!
و تتأكد ضرورة تجفيف منابع النزاعات المسلحة أكثر إذا علمنا أن تخفيض الغلاف المالي العالمي للنزاعات المسلحة و الإرهاب خصوصا وقاية و علاجا بنسبة 15% فقط كفيل بتوفير الأموال اللازمة لتمويل الصندوق الأوروبي للاستقرار Fonds Européen de Stabilité و تسوية عُضْلَةِ الدين اليوناني و تعبئة الموارد اللازمة لضمان بلوغ الأهداف التنموية للألفية…!!!
كما أن تكلفة احتواء النزاعات المسلحة و العنف في إفريقيا البالغة خلال الفترة 1990-2015 ثلاثمائة مليار دولار كافية وحدها لحل مشاكل التعليم و الصحة و الولوج إلي الماء الشروب و القضاء علي مرضي نقص المناعة المكتسبة و الملاريا و غيرهما من الأوبئة التي “تَسْتَمْرِئُ” و تستوطن القارة السمراء!!!
و ختاما لهذه العجالة أعرض ثلاث اقتراحات أولها مؤسس علي ملاحظة غياب أية معلومات أو دراسات خاصة بالعلاقة بين السلم و التنمية في العالم الإسلامي رغم أن الأخير هو مسرح أكثر و أعنف و أطول النزاعات المسلحة و التهديدات الإرهابية و تأسيسا علي ذلك أقترح إنشاء “مرصد إسلامي للسلام و التنمية” يمثل “خزان أفكار” “Think Tank” مستقلا يعني بتوفير الدراسات و المعلومات حول العلاقة السببية بين السلام و التنمية و حول حقيقة أن النزاعات المسلحة مطية التخلف و اللاتنمية.
أما ثاني الاقتراحات فهو ضرورة تخصيص الدول الإسلامية الغنية لنسبة %0.5 من ناتجها الداخي الخام لتمويل الدعم الأمني للدول الإسلامية الفقيرة كي تتمكن الأخيرة من مجابهة العنف الأعمي الذي إذا ما حوصر و فشل في التمكين لمشروعه الإرهابي بدول المركز العالم الإسلامي فإنه ليس من المستبعد أن “يأكل” “الدول القاصية”.!!
و الاقتراح الأخير هو إنشاء قسم “ماستر بحثي” بجامعة لعيون الإسلامية و المعهد العالي للدراسات و البحوث الإسلامية بموريتانيا حول موضوع ” الإسلام و السلام” و ذك ابتغاء تعميق البحث حول تحييد شبهات العنف عن الإسلام و تحديث قاموس و مصطلحات الفقه الإسلامي بخصوص العلاقة مع الآخر المخالف في الدين أو الطائفة أو المذهب و تبيان حجم الفرص التنموية الضائعة بسبب ارتفاع خطر الإرهاب و غيره من أشكال الصراعات المسلحة.
السفير السابق المختار ولد داهي