الحراك الشعبي الذي تشهده المدن الفلسطينية يصب في بوتقة التفاعل غير المباشر مع صفقة العصر التي يلوّح بها ترامب في وجه العرب . هذا التفاعل إيجابي بالمعنى الاستراتيجي ، ايجابي للمعارضة ( المعارضة في فلسطين الان هي قوى اليسار ومؤسسات المجتمع المدني ) التي تستعيد دورها الوظيفي . وهذا الحراك إيجابي للدور الشعبي والشبابي ، وإيجابي للسلطة وفتح وطلبة الجامعات وأهلنا في قطاع غزة . حيث يمكن القول أمبدأ المشاركة في صنع القرار يترسخ أكثر .
وحتى لو إعتبر البعض أن هذا الحراك لصالح فئة وضد فئة أخرى ، لكن الحقيقة أن هذا التفاعل في صالح المشهد السياسي الفلسطيني استراتيجيا . لان جميع دول الاقليم تشتغل بالقضية الفلسطينية وتعمل عليها ، والجماهير الفلسطينية تعرف ذلك وتنتظر كل يوم المشهد القادم .
التظاهرات " متواضعة العدد " التي خرجت لم يشارك بها التنظيمين الكبيرين المسيطرين ولم تشارك بها الغالبية الصامتة ، وإنما شارك بها الاعلام العربي والدولي بكل ثقله . وفي حيت تراجع الإعلام المحلي والاعلام الحزبي عن تغطية التفاعل " العربي والدولي " الا لمصلحة طرف ضد اخر ، تقدّمت الاعلام الافتراضي بشكل كاسح عبر اليوتيوب والفيس بوك وتويتر والواتس أب .
في الصورة العامة هناك شئ جديد يحدث . ليس سببه التظاهرات التي خرجت في رام الله والدهيشة وبيت لحم وغزة ونابلس ، وانما سببه الضغط الأمريكي والاسرائيلي لخلق تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية هائلة على المجتمع الفلسطيني .
ولا نفشي سرا" إذا قلنا أن هذه الجهات تعمل خلسة على إقامة دويلة في غزة ، وعلى ضم الضفة الغربية والقدس لاسرائيل ، وعلى تحجيم دور السلطة ومنظمة التحرير ودفعها للتراجع حتى الحد الأدنى من البقاء .
وحتى إنعقاد المجلس المركزي اّخر الشهر الجاري في لرام الله ، سيبقى الرئيس هو حامل عصا قائد الاوركسترا في سيمفونية منظمة التحرير التي تشغل المسرحين الدولي والعربي . وينتظر الجمهور الفلسطيني لمعرفة أكثر حول صحة الرئيس وحول صحة رؤيته تجاه المعركة مع ترامب والتي فرضت نفسها على الجميع ومن كل القوى .
السلطة من جانبها تنتظر التنظيم لحسم الجدل الداخلي ، فيما التنظيم ينتظر السلطة للقيام بالمهام المطلوبة وهو خلل كبير ، وضبابية . في توزيع الادوار ، رافق ذلك غياب تصريحات وزير الداخلية من جهة ، وغياب مقصود من أعضاء اللجنة المركزية لفتح من جهة أخرى ، عن المشهد المحلي ما يزيد من تعقيدات حالة الانتظار " الثمينة " أمام تقدّم مؤسسة الرئاسة التي باتت تدير كل الأوضاع بشكل مباشر بدلا عن الحكومة .
حماس في وضع مشابه لأن ظهرها صار للبحر تماما ، ولم يعد أمامها الاّن سوى الدخول في حرب أخرى مع الاحتلال او قبول صفقة إقليمية ، ويبدو ان الخياران قائمان لكن الخيار الثاني هو الغالب .
المعارضة في فلسطين لا تملك البديل السياسي للسلطة ، ولا تملك البديل السياسي لحماس . فهي معارضة إعلامية صوتية تقوم بدورها الوطني من دون أن تطرح نفسها كبديل سياسي في غزة أو رام الله . فقد رفضت المشاركة في الحكومات وهي غير قادرة ولا تريد أيضا تشكيل بديل إداري سياسي للسلطات القائمة ، وبالتالي فإن سقف هذه التظاهرات السياسية هو سقف " تحريكي " شعبي فقط .
الأكثر تفاعلا مع كل المشهد هو تنظيم فتح ، ولان فتح تنظيم واسع يصل أعضاء أعضاءه الرسميين الى نصف مليون نسمة ، فان إنعاكسات التفاعل الداخلي في حركة فتح تفرض نفسها على المجتمع كله . وفي ظل السيناريو القادم والذي يقود لنقل صلاحيات المجلس الوطني للمجلس المركزي ، فان تنظيم فتح سيكون أكبر الخاسرين في لعبة توزيع الأدوار الجديدة ، فهو يدفع أثمان مضاعفة للسلطة ولا يستفيد منها بشكل مباشر .
عملية التفاعل مستمرة ، ومتواصلة . ومن المبكر الحديث عن نتائج متوقعة رغم أن اجتماع الملك الاردني مع نتانياهو ، ولقاءاته مع مبعوثي الرئيس ترامب هو المفتاح الذي يمكن أن يفسّر لسكان الضفة الغربية شكل المرحلة القادمة.
د. ناصر اللحام