للمَرّة الثَّانِية، وفي أقلِّ مِن شَهر، يَخرُج مَسؤولٌ كَبيرٌ في حَركة المُقاومة الإسلاميّة “حماس” على المَلأ، وبِالصَّوت والصُّورة، مُعَبِّرًا عن رَغبَة الحَركة، في إعادَة جُسور التَّحالُف مع القِيادة السُّوريّة، وطَي صَفحَة الماضي القَريب، وكل ما عَلِق فيها من شَوائِبٍ وأدران.
فبَعد حديث السيد يحيى السنوار لقناة “الميادين” ها هو السيد إسماعيل هنية، رئيس المَكتَب السِّياسيّ للحَركة يُدلِي بحَديثٍ لوكالة “سبوتنيك” الرُّوسيّة، يَنفِي فيه دعمه للثَّورة السُّوريّة، وأنّ كُل ما نُسِب إليه في هذا المِضمار لم يَكُن دَقيقًا، مُؤكِّدًا أنّ حَركته لم تَكُن يَومًا في حالِ عَداءٍ مع النظام السوري، وأنّ هذا النِّظام وَقَفَ إلى جانِب “حماس” في مَحطَّاتٍ مُهِمَّةً، وقَدَّم لها الكثير كما الشَّعب السُّوري العظيم، وشَدَّد على أنّ إيران دولة مِحوريّة في المِنطَقة، وعلاقة حماس مَعها تَكتَسِب بعدا استراتيجيًّا.
عندما يَصدُر هذا الكلام، وعَن رئيس مُنتَخب لحركة “حماس″، ومن قِطاع غزّة الذي يَشْهَد حاليًّا مسيرات العَودة وإبداعات المُقاومة السِّلميّة التي أعادت القضيّة الفِلسطينيّة إلى صَدارَة الاهتمامَين العَربيّ والدَّوليّ بِدِماء شُهدائِها وجَرحاها، فإنّ هذا يُشَكِّل “انقلابًا” داخِل الحركة، يُعيد تَصويب بَوصَلَتِها، باتِّجاه مِحور المُقاومة الحاضِنة الطبيعيّة لها، ويَجِب أن يَحظَى بالدَّعم والمُسانَدة والتَّقدير والتَّشجيع أيضًا.
***
لا نَعرِف كيف سيكون صَدى هذا “الاعتذار” الواضِح والصَّريح من قِبَل السيد هنية، وقَبلِه السيد السنوار، في أوساط القِيادة السُّوريّة التي صَدَّت الكَثير من الوُسَطاء الذين حَملوا إليها رَغبةَ حركة “حماس” في استعادِة العِلاقات مع دِمشق، وعلى رأسِهم السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحِزب الله، ومسؤولين إيرانيين من الصَّف الأوّل على رأسِهم اللواء قاسم سليماني، زعيم فَيلق القُدس في الحَرس الثوري الإيراني، وهذا غَضَبٌ سُوريٌّ مَفهوم، ومُبرَّر، وناجِم عَن جُرْحٍ كَبيرٍ، لأنّها، أي القِيادة السُّوريّة، تُمَثِّل إرْثًا نِضاليًّا سُوريًّا ضَخْمًا في نُصْرَة القضيّة الفِلسطينيّة يَرتكِز إلى خَوض أربع حُروب، وخَسارة أراضٍ سُوريّة (هضبة الجولان)، واحتضان أكثر من 400 ألف لاجِئ فِلسطيني، لم يَشْعُروا مُطلَقًا بالغُربَة، وكانوا يتَمتَّعون بالحُقوق نَفسِها التي يَتَمتَّع بِها أشقاؤهم أبناء سورية.
الأشقّاء في سورية، بَنوا هذا المَوقِف “الغاضِب” قِياسًا على مَواقِف واجتهاداتٍ خاطِئة لجَناح داخِل حركة “حماس” كانَ مُتأثِّرًا بعامِل الجُغرافيا، أي مكان إقامته، وبناءً على مَعلوماتٍ مُضَلِّلة، وتَقديراتٍ خاطِئة، وانْجِرافًا خَلف مُعَسكَرٍ عربيٍّ خليجيٍّ، كانَ وما زال، يُمَثِّل رأس حِربَة في مَشروعٍ أمريكيٍّ عَربيٍّ، يُريد تَفتيت المِنطَقة، والمَراكِز المِحوريّة فيها، والعِراق وسورية تَحديدًا، وتَصفِية القضيّة الفِلسطينيّة، ولكن ربّما لم تَنتَبِه هذه القِيادة، في ذروة انشغالِها في مُواجَهة هذا المُخَطَّط، وما تفرَّع عَنه من حُروبٍ ومُؤامراتٍ على مَدى السَّنوات السَّبع الماضِية، أنّ هُناك جَناحًا آخر، داخِل حَركة “حماس” يَتمثَّل في جَناحِها العَسكريّ، كانَ يَقِف دائِمًا، وبِقُوّة، في خَندَق مِحوَر المُقاومة، ويُؤمِن بتَعزيزِ جُسور التَّنسيق مع “حزب الله” في لُبنان، والقِيادة الإيرانيٍة في طِهران التي قدَّمت لَهُ كُل الأسْلِحة والعَتاد وتِكنولوجيا الصَّواريخ التي حقَّقت لَهُ النَّصر في ثَلاثِ حُروبٍ خاضَها ضِد دولة الاحتلال الإسرائيلي، مُتَرَفِّعًا ورافِضًا لكُل الاعتبارات والتَّوجُّهات والفِتَن الطائفيّة البَغيضة، فقَضيٍة فِلسطين، كانت وستَظل عابِرةً للطَّوائِف وتَقسيماتِها المُدَمِّرة.
***
الرئيس السوري بشار الأسد كَشَفَ في لِقاءٍ أجراهُ مع القِيادات الإعلاميّة في بِلادِه قَبل شهر، عن حُدوثِ تَحسُّنٍ في العَلاقات السُّوريّة القَطريّة في الفَترةِ الأخيرة، انعَكس في لقاءاتٍ سِريّةٍ، وحُدوث تَغييرٍ جَذْريٍّ في تَغطِية قناة “الجزيرة”، وهذا تَطوُّرٌ مُهِمٌّ، يَعْكِس مُرونَةً “سِياسيّةً” براغماتيّةً لافِتةً، الأمْر الذي يَدفَعنا للتَّساؤل عن عَدم شُمول هذهِ “البَراغماتيّة” لحَركة “حماس” أيضًا؟
سورية كانت كَبيرةً دائِمًا، وتَصرَّفت قِياداتها بالكَثير مِن رُوح الكِبر والمَسؤوليّة تُجاه من اختَلفوا معها، ونعتقد أن الوَقت قد حان لتَجاوز الكَثير من المَواقِف والأخطاء، وإعادَة جُسور التَّنسيق والتَّعاون مع حَركةٍ وَطنيّةٍ فِلسطينيّةٍ ما زالت تَتبنَّى “المُقاوَمة” كاستراتيجيّةٍ لتَحرير الأراضي الفِلسطينيّة المُغتَصَبة، من البَحر إلى النَّهر، وتُواجِه حِصارًا خانِقًا وتَجويعيًّا مُنذ عَشرِ سَنواتٍ فَشِل في تَركيعِها، وإحادَتها عن أهدافِها.
نأمَل أن نَرى السيد إسماعيل هنية وكُل رِفاقه الآخرين في دِمشق في المُستَقبل القريب، مع تَفهُّمنا لكُل التَّحفُّظات الرَّسميّة والشَّعبيّة السُّوريّة.. فَما يجمع بين حركة المُقاومة الإسلاميّة حماس والأشقَّاء في سورية أكثر بكثير جِدًّا مما يُفَرِّقهم، أو هكذا نَعتقِد.. والكَريم من عَذَرْ.. إليسَ كذلك؟
عبد الباري عطوان