لقد اعتاد الامريكيون، ومعهم العالم كله الى حد كبير، على أن يذهبوا للنوم على خبر ما من البيت الابيض، حتى ليستفيقوا على خبر مغاير في الصباح الباكر، أسلوبا ومضمونا. هكذا كان الحال مؤخرا عندما أكد الرئيس الامريكي دونالد ترامب بعد ظهر الثالث والعشرين من أيار أن مؤتمر القمة بينه وبين رئيس كورية الشمالية، كيم يونج أون سينعقد كما هو مخطط في الثاني عشر من حزيران القادم في سنغافورا، حتى ليعود عن هذا التأكيد ويرسل رسالة قاسية الى الرئيس الكوري الشمالي صبيحة اليوم التالي، معلنا فيها الغاء مؤتمر القمة. ولم تكد تمضِ أربع وعشرون ساعة على هذه الرسالة، حتى ليعود ترامب عن موقفه الاخير، ويؤكد من جديد أن القمة سيتم عقدها في المكان والزمان المحددين مسبقا كما كان مخططا.
وكون الصراع مع كورية الشمالية يعتبر الاكثر تعقيدا حسب ما يعتقد الكثيرون من المسؤولين والمحللين الامريكيين، فانه يعتقد أن انعكاسات هذه الخضات والتقلبات في مواقف ترامب سوف يكون لها بالغ الاثر على نفسية ومعنويات المواطنين الامريكيين بشكل عام. فهم لم يعودوا قادرين على فهم ما يجول في خاطر رئيسهم، مما يبعث الكثير من البلبلة في أوساط الرأي العام ووسائل الاعلام، على حد سواء. وازاء هذه التقلبات المتسارعة، يتساءل البعض ان ما كانت هذه التقلبات تشكل تعبيرا عن قدرات فذة يتمتع بها ترامب في ابرام الصفقات، بحيث يريد أن يكثّف من أدوات الضغط على كورية الشمالية باعلانه الغاء مؤتمر القمة، أو نتيجة طبيعية لمواقف من ليس لديه خبرة ولا تجربة في السياسة الخارجية من قبل.
أيا كان الحال، لا أحد يستطيع أن يجزم يقينا أن مؤتمر القمة المزمع عقده قد أصبح أمرا حتميا. فحالة الغموض سوف تبقى تحيط بهذا الملف حتى آخر لحظة من موعد انعقاده. وحتى في حال انعقدت القمة، سوف تبقى حالة الضبابية أعظم من حيث النتائج المأمول تحقيقها لكلا الطرفين. فالمسافات جد متباعدة بين ترامب يطمح في أن يخرج بطلا فذا يستحق جائزة نوبل للسلام، كما يعتقد، من ناحية، ونظام سياسي في كورية الشمالية يسعى جاهدا لابعاد شبح الولايات المتحدة عن شبه الجزيرة الكورية، من ناحية ثانية. ان طموح ترامب بأن ينجح في تجريد كورية الشمالية من ترسانتها العسكرية ومن مشروعها النووي مقابل وعود بمساعدات خارجية، لهو وهم لا يمت للواقع الحقيقي بصلة. فواضح أن الكوريين الشماليين متنبهون لهذه الاساليب الامريكية التقليدية في السياسة الخارجية. بل والاكثر وضوحا أنهم يقودون حملة علاقات عامة تعكس مرونة واتزانا في صنع السياسة، ادراكا منهم، ربما، بحتمية المواجهة مع ادارة ترامب المتقلبة. فالحروب لا يتم خوضها على أرض المعركة، فحسب، وانما أيضا في نفوس المتابعين والمهتمين والمتضررين. فحتى الآن، أصبح جليا للمواطن الأمريكي العادي أن كورية الشمالية قد قامت بعدة مبادرات حسن نية، كاطلاق سراح ثلاثة مواطنين أمريكيين كانوا محتجزين لديها، وأيضا بتدمير مراكز اختبار للسلاح النووي، وبحضور أعلاميين من مختلف أنحاء العالم، بمن فيهم من الولايات المتحدة نفسها. وبات واضحا لدى المواطن الامريكي العادي أيضا أن المتقلب في المواقف والسياسات هو رئيسهم الذي ينام بمزاج ويصحو بمزاج آخر.
هذه المنافسة في العلاقات العامة سوف يكون لها أثرها الكبير على مجريات الامور، تبعا لما قد تتمخض عنه القمة من نتائج، هذا اذا ما تم عقدها. فلا شك أن قدرة البيت الابيض على اقناع الرأي العام الامريكي والحلفاء بضرورة شن هجمات عسكرية على كورية الشمالية سوف تكون محدودة للغاية. ومما لا شك فيه أن أصدقاء كورية الشمالية، خاصة جمهورية الصين الشعبية، لن يقفوا مكتوفي الأيدي حيال تدهور من هذا القبيل، خاصة بعد أن نجحت كورية الشمالية في ارسال رسائل قوية باستعدادها للمرونة والاخذ والعطاء. ولا شك أن روسيا سوف يكون لديها ما تقول وتفعل حيال أي اخلال ذات شأن في طبيعة النظام العالمي القائم.
تكفي الاشارة هنا الى أن أحدى النتائج المباشرة لاعلان ترامب الغاء قمته مع كيم كانت تسارع القيادتين في كورية الشمالية وكورية الجنوبية لكي تلتقيا مرة ثانية للتنسيق عند الخط الفاصل في المنطقة منزوعة السلاح. فكيف يا ترى سوف يكون التنسيق بين البلدين لو أصبحت الحرب على الابواب بالفعل؟ في الغالب، سوف يكون اخراج القوات الامريكية من كورية الجنوبية هو أحد المطالب، ولربما احدى النتائج الرئيسية التي على الولايات المتحدة التعامل معها.
فلا لعبة شد الحبل التي قام بها ترامب بتأكيد عقد القمة، ومن ثم الغائها، ومن بعد أعادة التأكيد على عقدها، سوف تنجح في ابرام صفقة أفضل. لا ولا لهاثه وراء الاضواء في قمة غير مسبوقة، اذا ما انعقدت أصلا سوف ينقذ الموقف ويخفف من حدة التوتر في واحدة من أكثر قضايا العالم تعقيدا منذ الحرب العالمية الثانية. بل على العكس! ان ما يقوم به ترامب باستمرار تقلباته في المواقف هو الدخول في لعبة شد الاعصاب، والتي قد يصبح هو شخصيا احدى ضحاياها الاوائل، وذلك بسبب عدم خبرته في السياسة الدولية. واضح أن كورية الشمالية قد درست واستوعبت مفاتيح شخصية ترامب الرئيسية. فتعبيرا عن فهم دقيق لمواطن الضعف في شخصية نرجسية تتمحور حول ذاتها، سارعت كورية الشمالية مباشرة عندما قام ترامب بالغاء مؤتمر القمة الى اطلاق المديح لترامب ووصفه بأشجع الرؤساء الأمريكيين بسبب اقدامه على عقد القمة، الامر الذي حدا بترامب مباشرة للعدول عن موقف الالغاء.
ففي لعبة شد الحبل التي سرعانما تحولت الى لعبة شد الاعصاب بسبب فهم كورية الشمالية لشخصية ترامب، في العادة ما تكون الغلبة لمن يتمتع بطول النفس ولمن يتسم بالثبات في المواقف.
د. هشام أحمد فرارجة – استاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية