الخِطاب الذي ألقاه أمس مايك بومبيو، وزير الخارجيّة الأمريكي الجديد، وحدَّد فيه ضرورة التزام إيران بـ12 شَرطًا لتَجنُّب “عُقوبات تاريخيّة” تَعتزِم بلاده فَرضها يُمثِّل التَّهديد الأخطر حتى الآن، ومُقدِّمة لحِصارٍ غير مَسبوقٍ، ربّما يَتطوَّر إلى حَربٍ شامِلة.
في هذا الخِطاب حدَّد بومبيو الاستراتيجيّة الأمريكيّة الجديدة التي قال أنّها تتكوَّن من سَبع محاوِر حول كيفيّة التَّعامل مع إيران، جميعها تَصُب في هَدفٍ رئيسي، وهو “تغيير النِّظام” في إيران على غِرار ما حدث في العِراق وليبيا، وربّما في تَوقيتٍ أسرع ممّا يَتوقَّعُه كثيرون.
الجَوهر الأساسيّ للشُّروط الـ12 التي حَدَّدها بومبيو يُمكِن اختصارها في أربعة:
ـ الأوّل: إنهاء برامِج الصواريخ الباليستيّة كمَرحلةٍ أُولى، وتدمير كل مَخازِن إيران وترسانَتها العَسكريّة مِنها لاحِقًا.
ـ الثاني: وَقف دعم إيران لـ”الإرهاب”، أي الأَذرُع المُسلَّحة التَّابعةِ لها، أو المُموَّلة مِنها، وهذه إشارة واضِحة لـ”حزب الله” في لبنان، وحركة حماس والجِهاد الإسلامي في فِلسطين، والحَشد الشعبيّ في العِراق.
ـ الثَّالث: وَقف التَّدخل في نِزاعات “الشَّرق الأوسط” وهذا يَعني قضيّة فِلسطين بالدَّرجةِ الأُولى، ولبنان وسورية والعِراق بالدَّرجةِ الثَّانِية.
ـ الرَّابِع: الانسحاب كُليًّا من سورية، وإنهاء أي تواجد عَسكري على أرضِها
***
جميع هذه الشُّروط “التَّعجيزيّة” هي إسرائيليّة، وتَخدِم الهَيمنة الإسرائيليّة على المِنطقة بِرُمَّتها، وإزالة أي تهديد لها من إيران خُصوصًا، فمن الواضِح أن بومبيو ينطق بِلسان بنيامين نتنياهو، ووزير دِفاعه إفيغدور ليبرمان.
مَضمون الرِّسالة الأمريكيّة “التَّهديديّة” التي وَردت في خِطاب بومبيو، الذي أُلقي، وفي مِثل هذا التوقيت، بهدف إيصالها لإيران وحُلفائها واضِح للغاية، وهو أنّ العُقوبات “التَّاريخيّة” التي تُريد حُكومته فَرضها تتطابق كُليًّا مع تِلك المَفروضة على كوريا الشمالية وقَبلها على العِراق، لأنّ إدارة ترامب ظَلَّت تُردِّد دائمًا أنّها لا تُريد تِكرار خطأ سابِقتها إدارة أوباما التي كانت ليِّنة مع الأخيرة، أي كوريا الشماليّة، وسَمحت لها بالوُصول إلى الرَّدع النووي وتَطوير صواريخ باليستيّة تَصِل إلى العُمق الأمريكي.
الوزير بومبيو، ومِثلما هو واضِح من فقرات الخطاب النَّاري الذي ألقاه، لن يسمح لأوروبا وشركاتِها الكُبرى بأيِّ هامِش للحركة، والمُضِي قُدمًا في التَّعامُل تِجاريًّا مع إيران، عندما قال “سَنُواصِل العمل مع الحُلفاء لمُواجهة أنشطة إيران المُزَعزِعة للاستقرار في المِنطقة، وعرقلة تمويلها للإرهاب، والتَّعامُل مع نشر صواريخ في هذا الإطار لأنّ الرِّهان على أنّ الاتِّفاق النووي مع إيران سيُساعِد على استقرار المِنطقة كان رِهانًا سيِّئًا بالنِّسبةِ إلى أمريكا وأوروبا والشَّرق الأوسَط والعالم بأسرِه”.
التهديدات الأمريكيّة للشركات الأوروبيّة الكُبرى التي تتعاطى تِجاريًّا مع إيران بَدأت تُعطِي ثِمارها وبشَكلٍ مُبكِر، ممّا يقطع الطَّريق على طُموحات إيران في المُضِي قُدمًا في بيع النِّفط والغاز لأُوروبا (20 بالمِئة من الصادرات الإيرانيّة في هذا المَيدان تذهب إلى أوروبا)، وإبقاء تعاملاتها المَصرفيّة، وفَتح الأجواء والمَوانِئ أمام طائِراتها وسُفنها، فشركة النفط الفرنسيّة العِملاقة “انجي” أعلنت أنّها ستُوقِف أعمالها في إيران في تشرين الثاني (نوفمبر) المُقبِل، وحذت شركة “توتال” النفطيّة الكُبرى حَذوها عندما قالت أنّها لن تُكمِل مشروعها في قِطاعيّ الغاز والنفط في حال عدم حُصولها على “إعفاءٍ” أمريكيّ، وهي لن تَحصُل عليه حَتمًا.
لا نَعرِف كيف ستكون الردود الأوروبيّة والروسيّة والصِّينيّة وأخيرًا الإيرانيّة على هذهِ الخَطوة التصعيديّة الأمريكيّة ضِد إيران، فأكثَر من 70 بالمِئة من الصَّادِرات النِّفطيّة الإيرانيّة (3.6 مليون برميل) تذهب إلى الصِّين، وحَجم التَّبادُل التِّجاري الصِّيني الإيراني يَبلُغ 60 مليار دولار سَنويًّا، فهل ستَلتزِم هذهِ الدُّوَل الصَّمت، وتَسمح بإلحاق الضَّرر بِمَصالِحها التِّجاريّة؟
أمّا بالنِّسبةِ إلى روسيا فإنّ رَد فِعلها ما زالَ غامِضًا، فمُطالبتها بانسحابِ جميع القِوى الأجنبيّة من الأراضي السوريّة أثناء اجتماع قِمَّة الأسد بوتين في سوتشي الأُسبوع الماضي، لم يَستثنِ القُوَّات الإيرانيّة، كما أنّ صفقة صواريخ “إس 300” الروسيّة لم تُسلَّم كلها إلى إيران حتى الآن، ولن تُسلَّم إلى سورية أيضًا تَجاوُبًا مع مَطالِب إسرائيليّة.
***
الإيرانيون يتوقَّعون مِثل هذا التَّهديد الأمريكي، مِثلما يَتوقَّعون أيضًا انضمام الاتِّحاد الأُوروبي لأي عُقوبات تَفرِضها واشنطن، والسيد محمد جواد ظريف، وزير الخارجيّة، عبَّر عن مَخاوِف بِلاده في هذا المِضمار اليوم عندما قال في تَصريحٍ صِحافيّ في خِتام لِقائِه مع المَبعوث الأوروبي للطَّاقة ميغيل أرياس كانيتي في طِهران أنّ “تَعهُّدات أوروبا بإنقاذ الاتفاق النووي غير كافِية ويجب القِيام بخَطواتٍ إضافيّة، لأن الدَّعم السِّياسي ليس كافِيًا”.
دُوَل الخليج العربيّة ستَقِف مع الخَطوات الأمريكيّة حتمًا، بِما في ذلك تغيير النِّظام في طِهران، وبادَرت فورًا وبالإجماع بتأييد العُقوبات الأمريكيّة ضِد السيد حسن نصر الله وتِسعة مَسؤولين آخرين من قِيادات “حزب الله”، وسَتكون نّقطَة انطلاق للعُقوبات ومَيدانًا للحَرب، تمامًا مِثلما لَعِبت الدَّور الأبرَز في الحَربين على العِراق وسورية.
لا نَعلم كيف سَيكون الرَّد الإيراني على هذهِ التَّهديدات الأمريكيّة الأخطَر في تاريخ العلاقات بين البَلدين، فهل ستَعود القِيادة الإيرانيّة إلى تخصيب اليورانيوم فَورًا مِثلما هَدَّد السيد علي خامنئي، المُرشد الأعلى؟، أم أنّها ستتريَّث في مُحاولةٍ من جانِبها لدراسة المَوقِف واستطلاع مَواقِف الحُلفاء في روسيا والصين وبعض أوروبا؟
لا نَملُك الإجابةَ الفَوريّة، ولكن من الواضِح أنّ خِطاب بومبيو “إعلانُ حَربٍ”، ومُؤشِّرٌ واضِح على نوايا إدارة ترامب بتَغيير النِّظام في طِهران.
إنّها رِياح الفَوضى التي قد تَسبِق عاصِفة الحَرب المُدمِّرة التي يَقرع طُبولها الرئيس ترامب، وصُقور إدارته ابتداءً من جون بولتون، ومُرورًا بجيم ماتيس، وانتهاءً ببومبيو، وجَميعهم عُنصريّون كارِهون للإسلام والمُسلمين والعَرب، ولا ننسى كبيرهم نتنياهو الحاكِم الفِعلي للبيت الأبيض هَذهِ الأيّام.. ومِن المُؤكَّد أنّ لنا عَودةً أو أكثر، إلى هذا المَوضوع فيما هُوَ قادِمٌ من أيّام.
عبد الباري عطوان