يشكل وجود مجموعة بشرية تعيش ضمن إطار قانوني مُوحد، سواء كانت هـذه المجموعة منتجة أم لا، مايسمى فى المصطلح الإقتصادى بالثروة البشرية. ويعتبر تأطير المواطنين وتأهيلهم للعب دور فى الحياة العملية أهم الإستثمارات التى يمكن للإدارة المركزية للدولة المعاصرة القيام بها. ويماثل الإستثمار فى الثروة البشرية المجهود الذى تبذله الدولة من أجل إستخراج المعادن النفيسة أو تطوير الزراعة والفلاحة فى الأقاليم الوطنية، بل تعتبر الثروة البشرية أهم الثروات على الإطلاق، حيث لا يمكن الإستفادة من أي ثروة دون إستخدام الجهد البشرى سواء كان هـذا الجهد عضليا أو فكريا. فالجـهـد البشرى ضروري من أجل الإستفادة من أي ثروة أخرى، سواء كان ذلك يتعلق بإستخراج والإستفادة من المعادن النفيسة أوتطوير ما يسمى بالثروات التقليدية مثل الثروة السمكية أوالثروة الحيوانية والزراعية . وتعتبرالثروة البشرية إحدى أهم مؤشرات النمو والتطور للدول فى عالمنا المعاصر. وعندما تنقص العمالة فى بلدما فلابد للإدارة المركزية لهذا البلد من إستراد عمالة من الخارج وذلك يعنى التنازل عن حصة من المال المستخرج لصالح البلد الذى إستجلبت منه هـذه العامالة .
وتعتبر موريتانيا من أشد دول العالم الثالث حاجة لعمالة وطنية متخصصة، فأكثر العاملين فيها فى الوقت الراهن هم من الإجانب. ومع أن موريتانيا تحتوى على ثروة طبيعية هائلة إلا أن هـذه الثروة لا ترقى إلا مستوى تشغيل كل المواطنين الموريتانيين القادرين على لعب دور فى العملية الإنتاجية، ومع هـذا فالشعب الموريتانى والإدارة الموريتانية تسـتـعينان بعمالة أجنبية فى أعمال ومهام بإمكان موريتانيين القيام بها. والغريب فى الأمر أن الفاعلين الوطنيين متفقون على وجود هـذه الظاهرة وخطورتها على الإقتصاد الوطنى إلا أن القليل منهم هم من يسعى لمعالجتها أو التخفيف من مضارها . ويختلف الفالعلون الإقتصاديون فى فهم هـذه الظاهرة وأسباب تفشيها فى المجتمع الموريتانى دون المجتمعات فى الدول المجاورة مثل السنغال والمغرب. فهـنالك من يرى أن الموريتانيين شعب كسول لا يتحمل الأعمال الشاقة ، أو التى تتطلب مجهودا عضليا، ومع ذلك يتوقع كل واحد منهم أن يقتنى كل ما يصبو إليه ولو كان ذلك يتطلب بذل أموال طائلة . فبرأي هؤلاء كأنهم الشعب الموريتانى مقـتنع بمقولة إمرء القيس حين قال: خليلي ما أرجوا من العيش بعدما — أرى حاجتى تشرى ولا تشترى ليا. فصار إذن الواحد منهم مثلا ينتظر من يوفر له المال الكافى لكي يشترى به كل إحتياجاته بل ينتظر حتى من يتسوق له لشراء أكثر حاجاته خصوصية. وهنالك من يرى أن الشعب الموريتانى شعب مظلوم لم تتح له الفرصة لكى يُـثبت وجوده ، ويعتبرون أن كل اللوم، فى تفشى هـذه الظاهرة، منصب على عاتق الإدارة الموريتانية. ويرى هـذا الفريق أنه كان من واجب الإدارة المركزية تهيئة الشباب الموريتانى خلال المراحل الأولى من الدراسة على حب العمل وإحترام كل أشكاله وتدريبهم على تحمل المشاق والإعمال التى تتطلب مجهودا عضليا حتى تمَّحى عقدة "العمل الشاق " من عقولهم. ومع أن هـذه العقدة فى إنخفاظ مستمر بسبب الظروف المادية ومتطلبات الحياة المدنية إلا أنها مازالت تشكل أخطرالعراقيل أمام تنـمية مستديمة فى موريتانيا. وحسب المعطيات الإقتصادية للبلد فإن تجربة الشباب الموريتانى الذى يعود إلى الوطن بعد سنوات من الغربة قد تساعد على القضاء الكلى على "عقدة الخوف من العمل الشاق" . فأغلب الشباب الموريتانى يغادر وطنه بدون تجربة مهنية تذكر، بل قد يكون متعودا على من يحضر له كل أغراضه من أكل وشرب إلى تنظيف ملابسه وليس بوسعه أن يقوم بأي عمل منزلى ولو كان خفيفا مثل تحضير الشاي أو غسل اليدين قبل وبعد الأكل. وعندما يسافرالواحد منهم خارج موريتانيا يتحول، بقدرة قادر، من كسول لا يقوى على شيئ إلى إنسان نشيط يتحمل كل المصاعب ويستهوى كل الأعمال بل تجده فى بعض الأحيان متفوقا حتى على من هو متعود على الأعمال الشاقة. فترى الشاب، الذى لم يكن يرضى لنفسه (ولا ذووه يرضون له) أن يعمل حتى مدير مطعم فى بلده، يَـسْـتَـمِـيتُ من أجل الحصول على عمل فى أبسط المطاعـم أو المنشآت الصناعية فى أربا أو أمريكا، وعندما تتاح له تلك الفرصة تراه يزاول أصعب المهمام داخل ذلك المطعم أو تلك المنشأة دون أن يٌـبدي أي أمتعاض ولا تذمر من طبيعة العمل الذ يزاوله. وبسبب تلك الظروف التى يمر بها المهاجر خارج وطنه فإنه عادة ما يصبح، عند عودته، أكثر جاهزية للعمل بجميع أصنافه، وأكثر إستعدادا لإحترام القانون، والإستماتة فى سبيل الوطن. و عندما تتاح لأحدهم فرصة للإستثمار أو للعمل بعد عودته للوطن فإن ,جوده يشكل ثراء للمؤسسة بل للقطاع الذي يستقطبه ويكون سببا فى إزدهاره نظرا لما يقدم من أفكار ومهارات إكتسبها من تجربته فى الخارج. فمثلا نظرا لتعود الشباب المغتربون على تطبيق النظم والقوانين المعمول بها فى الدول الى تستضيفهم ، فإنهم يحاولون وبصورة تلقائية تطبيق كل التعليمات التى تعطى لهم. وزيادة على ذلك فإن تجربة هؤلاء الشباب فى الخارج بزيد لديهم مفهوم المواطنة إلى أن يصبح موضوع المواطنة أساس كل قراراتهم و تصرفاتهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر: لن يتهرب أحدهم من دفع الضرائب، ولن يحتقر أحدهم رجل أمن أو مسؤولا فى إحدى إدارات الدولة، ولن يحاول أحدهم أن يزاول عملا يسيئ إلى سمعة وطنه أو يؤثر سلبا على إقتصاده. وقد يتمسكون بإنتمائاتهم القبلية أو الجهوىة ولكنهم قليلا ما يكونون على إستعداد لدس القبيلة ومصالحها فى الشؤون العملية أو السياسية. ولكن من الملاحظ أنه عندما يصعب على الشاب الموريتانى أن يجد نفسه فى وطنه يصبح مرغما على الإرتماء فى أحضان القيادات التقليدية أو رؤساء الأحزاب السياسية محاولة منهم للتأقلم مع مجتمعه أو لكي يجد مخرجا لأزمته التى تتمثل فى إيجاد فرصة لتحقيق ذاته. فمن الواضح أن فشل السياسات التنموية منذو الإستقلال عائد أساسا إلى أساليب تطبيق تلك السياسات، مع كفائة المشرفين عليها، لأن تحكم القبيلة والجهوية فيهم يقتل لديهم روح المواطنة ليصبحون أسرى لدى أشخاص لا علاقة لهم بالتسيير ولا بالخبرة الفنية أو الإدارية . أما سبب تحكم هـؤلاء الأخيرين ،فى مراكز القرار فى الدولة فيعود أساسا إلى نمط النهج الديموقراطى الذى أعـتُمد فى بداية التوجه الديموقراطى الذى شهدته البلاد . فالديموقراطية تعثرت فى وطننا حتى ظننا أنها هى أسوء نظاما للحكم لأنها هى من أيقظ مفهوم القبلية بعد أن كاد أن يتلاشى. فمن الأجدر بالإدارة الموريتانية إذن أن تستفيد من تجارب أبنائها كلهم بمنح كل منهم مزاولة المعمل أو المهارات التى يتقن تبعا للمقولة التى توصى بجعل الرجل (أو المرأة) المناسب فى المكان المناسب، والمحافظة عليهم من الضياع بين القبيلة وأطماع السياسيين الأنانيين، وذلك بخلق برامج تتيح لهم فرص العمل والإستثمارفى مختلف إدارات الدولة والمنشآت التابعة لها.
د. السالك السنهوري