ما يحدث الآن في البلاد العربية هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة قراءة
"المشروع الناصري" الذي لم يمنحه القدر الفرصة الزمنية الكافية لإثبات جدارته.
لقد توفّي جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر من عام 1970 عن عمرٍ لم يتجاوز ال52
عاماً، بعد 16 سنة من رئاسة مصر وقيادة المنطقة بأسرها، ولكنّه كان في سنوات
حياته الأخيرة في قمّة بلوغه الفكري والسياسي، خاصّةً في الأعوام التي تلت حرب
العام 1967.
إنّ التجربة الناصرية كانت عملياً مجموعة من المراحل المختلفة، ولم تكن تسير في
سياقٍ تطوّري واحد. فالمرحلة الأولى من ثورة 23 يوليو عام 1952 امتدّت لعامين
جرى فيها التحوّل من النظام الملكي إلى الجمهورية، وجرت فيها محاولات استبيان
آفاق النظام السياسي الجديد وطبيعة العلاقة بين مجموعة من "الضبّاط العسكريين"
الذين اشتركوا في صنع الانقلاب العسكري، وهو ما تحوّل فيما بعد إلى ثورة شعبية
عارمة مؤيّدة للتغيير الذي بدأه "الضبّاط الأحرار"، لكن هؤلاء "الضبّاط" لم
يشتركوا في تفاصيل الرؤية الفكرية والسياسية المرجوّة لمصر المستقبل. فقد كانت
هناك مبادئ عامّة مصرية محلّية متّفق عليها (المبادئ الستّة) لكن دون توافق في
المنظور الإستراتيجي أو العقائدي بين هؤلاء الضبّاط. وانتهت هذه المرحلة عام
1954 بتولّي جمال عبد الناصر القيادة مباشرة بعدما كان اللواء محمد نجيب في
واجهة ضبّاط الثورة. ورأى ناصر آنذاك أنّ الأولوية هي لتحرير مصر من الوجود
العسكري الأجنبي ومن القواعد البريطانية، فكانت "هيئة التحرير" هي الإطار
السياسي الشعبي الأول الذي أطلقته ثورة 23 يوليو، والذي تزامن مع فترة تأميم
قناة السويس والتصدّي للعدوان الثلاثي على مصر (إسرائيل/بريطانيا/فرنسا) عام
1956.
ثمّ انتقلت التجربة الناصرية من معركة التحرّر ضدّ الهيمنة الأجنبية على أرضها
إلى دعم ومساندة حركات التحرّر العربية ضدّ بقايا الاستعمار الأوروبي في
المنطقة (كثورة عدن ضدّ الإنجليز، وثورة الجزائر ضدّ الفرنسيين). فكانت تلك
مرحلة إطلاق الدور العربي لمصر الناصرية إضافةً إلى دورها الكبير في دول العالم
الثالث، والذي تجلّى في إعلان مجموعة "دول عدم الانحياز" ومساندة حركات تحرّر
وطنية في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
وكان إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 تتويجاً لهذه المرحلة القومية التي
قادها ناصر في النصف الثاني من عقد الخمسينات، والتي ترافقت أيضاً مع بناء إطار
سياسي داخلي أطلِق عليه اسم "الاتّحاد القومي".
وبشكلٍ معاكس للسياق التصاعدي الذي كانت عليه ثورة ناصر في الخمسينات، بدأ عقد
الستّينات حاملاً معه مواجهة حادّة مع أطراف إقليمية ودولية وفي ظلّ بناءٍ
سياسي داخلي هش، ودور فعّال لما اصطلِح على تسميته ب"مراكز القوى" خاصّةً في
المؤسّسة العسكرية والأجهزة الأمنية، والتي كانت هي أهم وسائل التواصل بين
القيادة الناصرية والكثير من المواقع الفكرية والسياسية في مصر وفي المنطقة
العربية.
أيضاً، بدأت حقبة الستّينات والتوتّر على أشدّه بين قطبي الحرب الباردة، حيث
استباحت واشنطن وموسكو كل ساحات بلدان العالم الثالث للصراع الحادّ بينهما.
فكانت مصر والأرض العربية أبرز هذه الساحات، كما حدث في حرب العام 1967 وفي
الصراع على الأحلاف العسكرية في المنطقة.
ولعلّ انهيار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا (28 أيلول/سبتمبر 1961) شكّل أفضل
مثال على مخاطر مزيج سلبيات البناء الداخلي مع حجم التحدّيات الخارجية. فلم تكن
جريمة الانفصال حصيلة مؤامرات خارجية فقط، إذ كانت هشاشة البناء الذي قامت عليه
تجربة الوحدة هي العامل الأهم في حدوث هذا الانفصال.
ستّ سنواتٍ عجاف للتجربة الناصرية (منذ الانفصال عام 1961 إلى هزيمة العام
1967) تخلّلتها صراعات عربية/عربية وحرب اليمن التي استنزفت الجيش المصري،
واتّسمت بالتركيز على "الفكر الاشتراكي" الذي تشوّه مضمونه أحياناً بأفكار
أخرى، وبعدم الحسم ضدّ "مراكز القوى" داخل جسم القيادة المصرية.
لكن هزيمة العام 1967 كانت أيضاً نقطة تحوّل إيجابية كبيرة في التجربة الناصرية
من حيث تطهير الجسم السياسي والعسكري القيادي في مصر، وإعادة البناء السليم
للمؤسّسة العسكرية، ووضع أولويات المعركة ضدّ إسرائيل على حساب أي صراعات عربية
أخرى، ثمّ بدء حرب استنزاف عسكرية على جبهة قناة السويس مهّدت عملياً لحرب
أكتوبر عام 1973.
خلاصات السنوات الستّ العجاف في عقد الستّينات كانت مزيجاً من الدروس الهامّة
لمسألتيْ الوحدة العربية والصراع مع إسرائيل. إذ تبيّن أنَّ زخم المشاعر
الشعبية لا يكفي وحده لتحقيق الوحدة، وأنَّ هناك حاجةً قصوى للبناء التدريجي
السليم قبل تحقيق الاندماج بين بلدين عربيين أو أكثر. وهذا ما حرص عليه عبد
الناصر عقب حرب 1967 حينما رفض المناشدة الليبية ثمَّ السودانية للوحدة مع مصر،
واكتفى بخطوات تنسيق معهما رافضاً تكرار سلبيات الوحدة الفورية مع سوريا.
أيضاً أدرك عبد الناصر ومعه كل أبناء الأمّة العربية أن التحرّر من الاحتلال
يقتضي أقصى درجات الوحدة الوطنية في الداخل، وأعلى درجات التضامن والتنسيق بين
الدول العربية.
كذلك، كان من دروس هزيمة 1967 وانفصال عام 1961، أنّ البناء الداخلي السليم
وتحقيق المشاركة الشعبية الفعّالة في الحياة السياسية، هما الأساس للحفاظ على
أي تجربة تكاملية بين البلاد العربية، وهما أيضاً الأرض الصلبة لقيادة حركة
التحرّر من أي احتلال أو هيمنة خارجية.
لكن هذه الدروس الهامّة لم تعش طويلاً بعد وفاة ناصر، وهاهي الأمّة العربية
تعاني منذ غياب قيادتها الناصرية التاريخية من انعدام التضامن العربي، ومن
الانقسامات والصراعات والحروب الأهلية، ومن هشاشة البناء الداخلي وهيمنة الفساد
السياسي والمالي، مما سهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها ودفع بالوضع
العربي كلّه نحو مزيدٍ من التأزّم والتفتّت والتخلّف والسيطرة الأجنبية.
إنّ التجربة الناصرية أصبحت الآن ملكاً للتاريخ، لها ما لها وعليها ما عليها،
لكن قضايا العدل السياسي والاجتماعي، وبناء مجتمع المواطنة السليمة، والتحرّر
من الهيمنة الأجنبية، والحفاظ على الوحدة الوطنية، والتمسّك بالهويّة العربية،
هي أهدافٌ مستمرّة لشعب مصر ولكل شعوب الأمّة العربية مهما تغيّر الزمن والظروف
والقيادات، وكيفما اختلفت الوسائل أو تعثّرت..
يعتبر البعض أنّ الكتابة عن ناصر هي مجرّد حنين عاطفي لمرحلةٍ ولّت ولن تعود،
بينما يتمّ الآن إغراق الأمَّة في خلافاتٍ ورواياتٍ وأحاديث عمرها أكثر من 14
قرناً، والهدف منها ليس إعادة نهضة الأمَّة العربية، بل تقسيمها إلى دويلات
طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي
بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، بحيث تكون "الدولة اليهودية" نموذجاً
لدويلات دينية وإثنية منشودة في المنطقة كلّها!.
نعم يا جمال عبد الناصر، فنحن نعيش الآن نتائج "الزمن الإسرائيلي" الذي جرى
اعتماده بعد رحيلك المفاجئ عام 1970، ثمّ بعد الانقلاب الذي حدث على "زمن
القومية العربية"، والذي كانت مصر تقوده في عقديْ الخمسينات والستّينات من
القرن الماضي. فاليوم يشهد معظم بلاد العرب "حوادث عنف تقسيمية" و"أحاديث
طائفية ومذهبية وإثنية" لتفتيت الأوطان نفسها.. لا الهويّة العربية وحدها.
هو "زمنٌ إسرائيلي" نعيشه الآن يا ناصر على مستوى العالم أيضاً. فعصر "كتلة عدم
الانحياز لأحد المعسكرين الدوليين"، الذي كانت مصر رائدته، تحّول إلى عصر صراع
"الشرق الإسلامي" مع "الغرب المسيحي"، بينما يستمرّ تهميش "الصراع
العربي/الصهيوني"، وفي هاتين الحالتين، المكاسب الإسرائيلية ضخمةٌ جدّاً!.
رحمك الله يا جمال عبد الناصر، فقد كنت تكرّر دائماً: "غزَّة والضفَّة والقدس
قبل سيناء.. والجولان قبل سيناء"، وأدركتَ أنَّ قوّة مصر هي في عروبتها، وأنَّ
أمن مصر لا ينفصل عن أمن مشرق الأمَّة العربية ومغربها ووادي نيلها الممتد في
العمق الإفريقي.
رحمك الله يا جمال عبد الناصر، فأنت رفضت إعطاء أي أفضلية لعائلتك وأبنائك، لا
في المدارس والجامعات ولا في الأعمال والحياة العامّة، فكيف بالسياسة والحكم!!
وتوفّيت يا ناصر وزوجتك لا تملك المنزل الذي كانت تعيش فيه، فكنت نموذجاً
قيادياً عظيماً، بينما ينخر الآن الفساد في معظم مؤسّسات الحكم بالعالم.
اليوم، نجد واقعاً عربياً مغايراً لما كان عليه العرب في أيامك يا ناصر.. فقد
سقطت أولويّات المعركة مع إسرائيل وحلّت مكانها "المعاهدات" والمعارك العربية
الداخلية. اليوم استبْدِلَت "الهويّة العربية" بالهويّات الطائفية والإثنية
ولصالح الحروب والانقسامات الوطنية الداخلية. اليوم تزداد الصراعات العربية
البينية بينما ينشط "التطبيع مع إسرائيل"!!.
البعض في المنطقة العربية وجد الحلَّ في العودة إلى "عصر الجاهلية" وصراعاتها
القبلية، تحت أسماء وشعارات دينية، وهو يستهزئ بالحديث الآن عن حقبة "23 يوليو"
التي ولّت!!. وبعضٌ عربيٌّ آخر رأى "نموذجه" في الحلّ بعودة البلاد العربية إلى
مرحلة ما قبل عصرك يا ناصر، أي العقود الأولى من القرن العشرين التي تميّزت
بتحكّم وهيمنة الغرب على الشرق! فهكذا هو واقع حال العرب اليوم بعد غيابك يا
عبد الناصر، ما يُقارب نصف قرن من الانحدار المتواصل!. نعم المنطقة العربية
تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد متغيّراتٍ جذرية في عموم المجالات .. لكن ما
لم يتغيّر هو طبيعة التحدّيات المستمرّة على العرب منذ مائة سنة، هي عمر
التوأمة والتزامن بين وعد بلفور وبين تفتيت المنطقة وتقسيمها لصالح القوى
الكبرى!.
نعم، نفتقدك يا ناصر في هذه الليالي العربية الطويلة الظلماء.. لكن الفجر آتٍ
ولا بدّ للّيل أن ينجلي.
أيلول/سبتمبر 2017
صبحي غندور مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن