كثير من الإخوة يصبّون جام غضبهم ويبالغون في اتهام اللجنة الوطنية للانتخابات (سين) لدى تناولهم سير ونتائج هذا الاستفتاء وغيره من الانتخابات. شخصيا، أعتقد أنّ العمليات الانتخابية في نواحيها الإجرائية والشكلية المتعلقة باللجنة لم تعُد عرقلة كبيرة أوعقبة كأداء على طريق التغيير. فالمشكلة الحقيقيّة، برأيي المتواضع، تكمُنُ في العقليات السائدة حتى الآن والبُنى الاجتماعية والبيئة الحاضنة والأميّة والزبونيّة والخوف والطمع، وما ينجرُّ عن ذلكـ من تشويه واختلال في ميزان القوة بين السلطة والمعارضة. فالمواطن في الدّاخل يمنحُ صوته تلقائيّا لمنْ يعتقدُ أنّه مرشح السلطة بسبب أنّهُ تعَوّد على الخضوع للسلطة ورُموزها، ولأنّه لم يعرف في حياته إلاّ العائلة والقبيلة والجهة ورُمُوز السلطة الذين يُقدّمون له مُتطلبات الحياة كما يعتقِد. يترجّى قطرة ماء أو حبّة دواء أو حجرة مدرسية أو وظيفة أو قطعة نقود أو السّلامة (باط) مقابل "نعم". هذا بالإضافة إلى حالات من التصويت تحت وطأة التهديد المباشر والابتزاز والإكراه المادّي والمعنوي. أقول حالات لأن هذا النوع من الضغوط الخشنة تراجع في كثير من المناطق مع التمدن والعصرنة والعولمة وثورة الاتصال وارتفاع نسبة الوعي وتزايد اليأس من كذب الإدارة والإحباط والملل من وعودها وزَيفها، إلخ.
أما المشكلة الثانيّة في وجه التغيير أو التناوب، فتتعلق بالمعارضة نفسها، وما تُعانيه من تشرذم وانقسام وحصار مادّي ومعنوي وضعف في الأداء وغياب في الأرياف...إنّ خطابها الرّفضوي لا يعني حتّى الآن شيئا كثيرا بالنسبة للمواطن في الدّاخل المنهكـ ماديا والمنشغل باستدرار ما تيسّر من مصالح باتباعه السلطة وإرضاء ممثليها. ولذلك، نجد أنّ المعارضة تحصدُ معظم أصواتها غالباً في المُدُن والتجمعات الكبرى. أمّا الناس في أعماق البلد، فقد تعوّدوا طاعة الدولة، وطاعة الرئيس، وحزب الرئيس، وشيخ القبيلة والإبن المُعَيّن والإبن الطامع في التعيين، وكلّ من بيده طشّة سلطة أو نفوذ أو مال. أعتقدُ، كما قلتُ آنفا، بأنّ بشائر تغييرَ هذا الواقع بدأت تلوح في الأفق، لكنّهُ يحتاج إلى مزيد من التكوين والتنوير والمثابرة والبذل، وصولاً إلى تحولات عميقة في الثقافة السّائدة. وهو ما لم تبْذُل فيه المعارضة ولا السلطة جهدا كببرا حتى الآن.
ولهذه الأسباب، أرى أنّ العقبة الحقيقيّة التي وقفت في وجه "مقاطعة" الاستفتاء وزادت في نسبة المشاركة لا تتعلق كلها بسلامة الانتخابات من عدمها إجرائيا أو شكليّا؛ بل تتعلق من حيث الأساس بالمعضلات المشار إليها أعلاه. أعتفد حقيقة أنّ عمليات التلاعب بالانتخابات من قِبَل الادارة والجماعات والأفراد، حتى ولو حصلت هنا وهناكـ، فإنها تناقصت وتراجعت مُذْ أنْ توفّرت بطاقة تعريف غير قابلة للتزوير (2001)، وبدأ نشر القوائم الانتخابية على الأنترنيت (2003)، وتأسّست لجنة وطنيّة مستقلة للانتخابات (2006) بالإجماع و(2012) إثر حوار جزئي، وتطورت الحالة المدنيّة إلى البيومترية. ونتيجة هذا كله، يصعب اليوم التلاعب بالأرقام وتشويه نتائج التصويت في أي ناحية من نواحي الوطن...وللدّلالة على ما وصلت إليه العملية الانتخابية من تحسّن وتقدّم نسبي في جوانبها الإجرائيّة، أقول جوانبها الإجرائية والشكلية ولا أقول جوانبها المتعلقة بالعدالة والانصاف، أضع الجدول أسفله بين يدي القارئ الكريم لغَرَض التحليل.
شخصيا، أعتقدُ أنّ معطيات هذا الجدول مثيرة للحيْرة بخصوص تقارب عدد المسجلين، وعدد الأصوات المعبّر عنها، والأصوات التي حصل عليها الرئيس المنتخب في كل من الاستحقاقات الثلاثة على المستوى الوطني. ولا يُعْقل أنْ تكون هذه الأرقام المتقاربة جدّا من 2003 إلى2007 إلى 2009 ناتجة عن عمليات تلاعب أو تزوير أو "فبركة" مُسبقة، نظرا لاختلاف ظروف الزمان والمكان التي جرت فيها هذه الانتخابات، واختلاف الهيئات التي أشرفت على تنظيمها. أمّا من الناحية السياسيّة، فإنّ هذه الأرقام تُظهر بجلاء الفرق بين حقبة 2006-2007 وما قبلها وبعدها. لقد بلغت نسبة المشاركة في استفتاء 2006 (76,51%)، وفازت "نعم" ب(96,97%)؛ أمّا في رئاسيّات 2007، فقد اضطر الجميع إلى خوض شوط2. والسّر الحقيقي في ذلكـ لا يتعلق بمسطرة الإجراءات المتبعة، بل يتعلق بعدم ترشح أحد من قصر الرئاسة لخلافة نفسه... وبشيء يسير من الجدية وحسن الظن بالآخر والتفاؤل والإيجابيّة لقلنا بأنّ البلاد تتجه إلى مجابهة ظروف وانتخابات مماثلة في 2018-2019.
وفي الختام، وبالنظر إلى الأرقام أسفله، فإنّ استفتاء 5/8/2017 من حيث حملته ونتائجه أقرب إلى انتخابات رئاسية منه إلى استفتاء شعبي حول دستور جامع على غرار ما شاهدناه 2006. وربّما يكون الرئيس محمد ولد عبد العزيز قد ذهب إلى ذلكـ ورمى بنفسه مضطرّا لا مخيّرا لتمرير مقترحاته. فكان لزاما عليه تحريكـ الدّولة العميقة بما تمتلك من قوة ونفوذ وإمكانات حتى صارت المسألة مسألة الرئيس أكثر مما هي مسألة تعديلات دستورية. ولكن، يبقى السؤال الأهم : ما العمل غدا عندما لم يكن الرّئيس طرفا مباشرا في اللعبة كما هو منصوص في الدّستور ومصرّح به في كلّ المحافل الدولية والدّاخلية ؟
من صفحة الوزير محمد فال بلال