انتهت الانتخابات الرئاسية الفرنسية بفوز مرشّح المؤسسة الحاكمة في فرنسا إيمانويل ماكرون بفارق قد يعطيه تفويضا سياسيا هاما. وهذا الفوز نقطة نوعية لتجاوز تداعيات الزلازل التي أحدثتها كل من الاستفتاء البريطاني الذي أفضى إلى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي والانتخابات الرئاسية الأميركية التي شهدت هزيمة مرشّحة الدولة العميقة لمصلحة من هو "خارج" البيئة السياسية الحاكمة. صحيح أنه تمّ ترويض دونالد ترامب بشكل سريع وفعّال ولكن ما زالت المؤسسة الحاكمة تحت رحمة اندفاع مفاجئ للرئيس ترامب في أي من الملفّات التي تعتبرها المؤسسة غير قابلة ل "الاجتهاد". ويمكن القارئ أن يسأل ما علاقة المشهد الأميركي أو الخروج البريطاني من الاتحاد الاوروبي بالانتخابات الفرنسية والإجابة بسيطة. فالدولة العميقة في الولايات المتحدة جزء من شبكة عالمية تروّج للعولمة كبديل "مقبول" للهيمنة الغربية (الاستعمار/الامبريالية سابقا). والمؤسسة الحاكمة في فرنسا لا تختلف بطبيعتها عن الدولة العميقة في الولايات المتحدة. ففيها نرى تحالف المال والاعلام والمؤسسات الأمنية التي كانت في مستوى عال من الكفاءة في درء مخاطر مرشّحة من خارج السرب.
وتحليل الانتخابات الرئاسية الفرنسية يستوجب قراءة نتائج الدورة الأولى والثانية على حد سواء لاستخلاص دلالات عدة. فالدلالة الأولى هي أن فرنسا صوّتت ضدّ التغيير. فرنسا العميقة محافظة في أفكارها وتخشى التغيير خاصة إذا ما أتى من أقصى اليمين، وقد يكون الأمر كذلك فيما لو كان المرشّح من أقصى اليسار كجان لوك ميلانشون. طبيعة الفرنسيين وسطية كمعظم الشعوب في العالم والتطرّف لا يحظى بإجماع عام بل لفئة من الأقلّية من الرافضين للوضع القائم. فانتخاب ماكرون هو استمرار لسياسات امتدت منذ حقبة فرنسوا ميتران في الثمانينات من القرن الماضي حيث أقدم الرئيس "الاشتراكي" على توحيد "اليسار"، عبر محاصرة الحزب الشيوعي الفرنسي، ثم على تفريغه من المضمون السياسي الاقتصادي الاجتماعي التقدّمي وتبنّي سردية سياسية تقترب من "الوسط". تجلّى ذلك منذ فشل الحكومة الاشتراكية الأولى بقيادة بيار موروا في تطبيق ما سُمّي آنذاك ب "البرنامج المشترك". ذلك الفشل لم يمنع إعادة انتخاب ميتران لولاية ثانية ما يؤكّد أنه كان يحظى بتأييد الدولة العميقة في فرنسا. تلازم عهد ميتران مع عهد تاتشر في بريطانيا وريغان في الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين بدأ الانزلاق التدريجي نحو اليمين بحجة الاقتراب من "الوسط". ذروة التخلّي عن مفهوم الطرح الاشتراكي التقليدي كان في عهد الرئيس فرنسوا هولاند حيث ذابت الفروقات الجوهرية مع اليمين التقليدي وخاصة في السياسة الخارجية التي أصبحت نسخة طبق الأصل عن السياسة الأميركية التقليدية بل حتى مع المزايدة عليها. ونلفت النظر أن من جهة اليمين كانت هناك يدا ممدودة لبعض عناصر "اشتراكية" للالتحاق بحكومة اليمين. كان ذلك في عهد نيقولا ساركوزي الذي ضمّ إلى وزارته على سبيل المثال برنار كوشنير، مؤسس "أطبّاء بلا حدود" والمعروف بتقاربه مع "يسارية" طوني بلير البريطاني و "تقدمية" الزوجين كلنتون!
الدلالة الثانية قد تبدو في الوهلة الأولى متناقضة مع الدلالة الأولى. فالتصويت ضد التغيير لا يعني تفويض الأحزاب التقليدية بالاستمرار. بل ضربة المعلم للدولة العميقة في فرنسا هي أنها أنهت الأحزاب التقليدية التي كانت تتحكّم بالمشهد السياسي الفرنسي سواء على صعيد اليمين، إي القضاء على الإرث الديغولي، أو على صعيد اليسار أي القضاء على الحزب الاشتراكي بعد التأكد من هامشية الحزب الشيوعي. صناعة ماكرون درس في صنع الرؤساء. والأكثرية التي حصل عليها في الدورة الثانية، ما يقارب ثلثي الأصوات، قد يعتبرها البعض تفويضا لإنشاء ظاهرة سياسية جديدة تدمج اليمين الوسطي مع اليسار الوسطي. فإصرار ماكرون، المستشار السابق لفرنسوا هولاند، والوزير في حكومة إيمانويل فالس الاشتراكي، أنه غير يساري وغير يميني هو تمهيد لما ينوى الإقدام عليه في بناء تيّار سياسي وسطي.
لكن هل بالفعل حصل ماكرون على ثلثي أصوات الناخبين؟ التدقيق في الأرقام يشير أن نسبة الامتناع عن التصويت في الدورة الثانية كانت الأعلى منذ أربعة عقود، وكانت بمستوى ربع الناخبين المسجلّين. فماكرون فاز بأكثرية 66 بالمائة تقريبا من أصل 75 بالمائة من الناخبين المسجلّين. ولكن عند فرز الأصوات تبيّن أن ما يقارب 9 بالمائة من الأصوات كانت بيضاء ما يعني أن نسبة فوزه الحقيقي كانت 66 بالمائة من أصل 66 بالمائة من الناخبين المسجلّين (100 ناقص 25 بالمائة ناقص 9 بالمائة، أي 66 بالمائة من المجموع العام). هذا يعني أنه فاز بحوالي أقل من 40 بالمائة من أصوات الناخبين المسجلّين. لكن هذا التدقيق لا يعني شيئا فالإعلام الفرنسي المهيمن ومعه الإعلام الأوروبي والأميركي يركّز على نسبة 66 بالمائة في فوز ماكرون وهو فوز كبير مهما اختلفت التفسيرات.
وهنا يمكننا أن نتساءل حول مستقبل الحزب السياسي كمؤسسة سياسية في المشهد العام. نجاح ماكرون دليل على أن الحزب لم يعد في تلك المرتبة الأساسية في العمل السياسي. التنظيم هو يقين العمل السياسي ولكن الحزب السياسي الذي احتكر على مدة تجاوزت القرن المشهد السياسي تراجع دوره بعد أن فقد هيبته. هكذا الأمر في الولايات المتحدة بشكل ضمني بينما كان أكثر وضوحا في فرنسا. استطاع ماكرون تجاوز التناقضات الضمنية أو الصريحة في كل بنية حزبية واستفاد من العلاقات الشبكية التي أوجدتها وسائل التواصل الاجتماعي ما ينذر بتغيير جوهري في العمل السياسي. فدور الأحزاب السياسية يتراجع سواء كان المشهد السياسي يحكمه قلّة من الأحزاب أو سواء تكاثرت الأحزاب السياسية إلى حد الشرذمة. فالفروقات لم تعد جوهرية إلاّ في حالات محدّدة بينما التوجه العام سواء في فرنسا أو في العالم هو نحو تذويب الفروقات السياسية لمصلحة كتلة واسعة وسطية مهتمة فقط بقضايا معيشية وبعيدة عن السجالات السياسية أو العقائدية ومطالبة قبل أي شيء آخر بالأمن والاستقرار. تعدّد الأحزاب في المشهد السياسي ضرورة لتذويب الدولة المركزية حيت التنافس على المناصب بين الأحزاب يضعف الدولة خلافا لما يُشاع بأنه يقوّيها. فعدم الاستقرار السياسي الداخلي يسمح للمؤسسات العابرة للدول للتحكّم بمفاصل الاقتصاد والثقافة لفرض نمط موحّد قد يلغي في آخى المطاف الدور السياسي للأحزاب وذلك لمصلحة "الاستقرار" الذي سيتحكّم به المؤسسات الأمنية.
الدلالة الثالثة هو أن مشروع ماكرون هو مشروع التوجّه العولمي الذي سيفضي إلى إضعاف دور الدولة المركزية لمصلحة مؤسسات مرتبطة بالمؤسسات الدولية التي تروّج للعولمة. ماكرون لا يخفي توجّهاته السياسية والاقتصادية في هذا الشأن، أي توجّهات نيو ليبرالية ستفضي إلى تفكيك دولة الرعاية لمصلحة الشركات الكبرى وخاصة المالية. كما أنه على الصعيد الثقافي سيحاول دمج الثقافة الفرنسية مع الثقافة المعولمة عبر إنكاره للخصوصية الفرنسية. له تصريح شهير أثار الفرنسيين وهو أنه ليس هناك من ثقافة فرنسية بل ثقافات متعدّدة في فرنسا. هذا التوجه يقلق الفرنسيين لكن بالمقابل كانت الثقة مفقودة في إمكانية مرشّحة اليمين المتطرّف مارين لوبان بإنقاذ ما تبقّى من دور الدولة والحفاظ على خصوصية الثقافة الفرنسية رغم ادعاءاتها المغايرة لذلك. لم تستطع الأخيرة تقديم رؤية متماسكة حول مستقبل فرنسا على صعيد المؤسسات والاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية. اقتصرت حملتها الانتخابية على محاكاة مخاوف الفرنسيين من الهجرة وتغذية غرائزهم والعصبيات بحجة دفاعها عن العلمنة الفرنسية، كما أنها لم تخف عدائها للاتحاد الأوروبي. ففرنسا أكبر من تلك الخصوصيات الضيّقة رغم أن الفرنسيين حريصون على خصوصيتهم. ولكنهم يعتبرون أنهم من أسس السوق الأوروبية المشتركة وبالتالي ليسوا مستعدّين عن التخلّي عن ذلك الإرث مهما كانت شوائبه.
الدلالة الرابعة هي وجود انقسام عامودي وأفقي في فرنسا. فنتائج الدورة الأولى أظهرت أن مارين لوبن حقّقت نتائج كبيرة في الجغرافيا الفرنسية في ريف الخط الممتد من شرق مدينة لوهافر (في شمال غرب فرنسا) وجنوبا إلى مارسيليا على البحر المتوسط. أما ماكرون فنجح في مناطق غرب فرنسا والمدن الكبرى. هذا على صعيد الانقسام الأفقي أو الجغرافي. أما على صعيد الانقسام العامودي فمارين لوبان حقّقت نتائج هامة عند الطبقات العمّالية التقليدية المتضرّرة من العولمة بشكل عام ومن سياسات الاتحاد الأوروبي بشكل خاص. القاعدة الثابتة والصلبة لمارين لوبان تقارب ربع الجمهور الانتخابي الفرنسي. بينما القاعدة الثابتة لماكرون لا تزيد بكثير عن قاعدة لوبان، أي أيضا حوالي ربع الناخبين. قاعدة ماكرون مكوّنة بشكل عام من الشباب ومن الفئات الأكثر تعلّما ومن الكوادر للمؤسسات الاقتصادية والتعليمية. لذلك الأكثرية التي حصل عليها ماكرون تتضمّن حوالي أربعين بالمائة من الرافضين للوبان. فالمعركة السياسية القادمة هي على ما تبقّى من الناخبين أي ما يقارب الخمسين بالمائة وهذا يعني أن كل الاحتمالات مفتوحة ولا يستطيع أحد أن يتكهّن بما ستفضي إليه الأمور.
الدلالة الخامسة هي عدم إمكانية التقليل من أهمّية الفوارق العقائدية والسياسية التي تسود بين الفرنسيين. معركة توحيد المشهد السياسي سواء على اليمين أو على اليسار ستكون في منتهى الصعوبة رغم تذويب الفروقات بين الأحزاب التقليدية في اليمين واليسار. فاليمين التقليدي بحاجة إلى مراجعة عميقة في تكوينه وبرامجه وكذلك الأمر بالنسبة لليسار. أما فيما يتعلّق بالوسط، فالاندفاع الشبابي الذي التفّ حول ماكرون قد يتوقّف إن لم يستطع الأخير تنفيذ برامج اقتصادية واجتماعية لتخفيض البطالة والفوارق الاجتماعية الصارخة وخاصة في ضواحي المدن الكبرى التي شهدت مواجهات كبيرة بين المهمّشين اقتصادية واجتماعيا وبين القوى الأمنية. الجدير بالذكر انه شريك في الفشل لحكومات هولاند وبالتالي قد يتساءل البعض إذا بإمكانه تغيير في تلك النتائج السياسية؟ هنا تبرز أهمية الاعلام الذي انحاز بشكل واضح له وتغاضى عن مساءلته ودوره في إخفاقات الحقبة الهولاندية، أي بمعنى آخر من يدعمه الإعلام بشكل كاسح يستطيع أن يهمل رأي العام. فالإعلام هو الرأي العام في ديمقراطيات الغرب!
ليس هناك من دلائل حول إمكانية إعادة تركيب اليمين التقليدي بشكل سريع. فالشخصيات التي تحكّمت بمفاصل المشهد السياسي شخصيات رديئة من ناحية الكفاءة ومن ناحية الأخلاق. الفساد وعدم المصداقية أطاح بالحزب الجمهوري الذي ورث الإرث الديغولي فأطاح به مما أفقده الزخم الشعبي لمصلحة ظاهرة لوبان أو ميلانشون أو ماكرون. وكذلك الأمر بالنسبة للحزب الاشتراكي حيث الفساد في الأداء والأخلاق دمّر الحزب الاشتراكي. قد يكون مستقبل اليسار في يد جان لوك ميلانشون الذي حقّق نتائج جيّدة في الدورة الأولى وإن كان مرشّحا لما يُسمّى باليسار المتطرّف فكاد يصل إلى الدورة الثانية لو طالت الحملة الانتخابية بضعة أسابيع أخرى. لكنه هو مدعو أيضا لمراجعة نقدية لبرنامجه وادائه السياسي.
الدلالة السادسة هي استمرار سياسة خارجية متطابقة مع توجّهات الدولة العميقة في الولايات المتحدة. فتحت يافطة مكافحة الإرهاب سيزيد التدخّل في شؤون الدول العربية سواء في المشرق العربي أو في المغرب. كما أن الدعم للكيان الصهيوني سيزداد بعد أن قامت الحكومات الاشتراكية المتتالية في عهد هولاند بتطهير الوزارة الخارجية من العناصر القريبة من العرب أو المتفهّمة لتعقيدات الصراع العربي الصهيوني وذلك لمصلحة عناصر لا تخفي دعمها للكيان الصهيوني. فالحزب الاشتراكي هو حزب صهيوني بتركيبته وتوجيهاته السياسية في المشرق. لا ننسى أن حكومة غي مولي الاشتراكية هي التي شاركت في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. كما لا ننسى أن ميتران الاشتراكي هو الذي شغّل المقصلة ضد المجاهدين الجزائريين عندما كان وزيرا للداخلية في الخمسينات من القرن الماضي. ما يشفع لإيمانويل ماكرون هو اعترافه بالدور المدمّر للحقبة الاستعمارية الفرنسية بشكل عام وبالنسبة للجزائر بشكل خاص. فهو يريد "مصالحة تاريخية" لم تقدم عليها الحكومات الفرنسية السابقة. هذا ما يثير استياء العديد من الفرنسيين المتمسكّين بإرثهم التاريخي بما فيه الحقبة الاستعمارية. بالمقابل لا يخفي دعمه المطلق للكيان الصهيوني. لا ننسى أن عام 2010 صدر قانونا في فرنسا في عهد نيقولا ساركوزي يمجّد الاستعمار! فهل يصحّح ماكرون ذلك الأمر؟ نشكّ بذلك لأنه قد يصطدم بالدولة العميقة التي أوصلته إلى الرئاسة.
كلمة أخيرة في الانتخابات الفرنسية والأميركية وحتى البريطانية. أظهرت تلك الانتخابات فقدان الثقة بالنخب التقليدية الحاكمة فكان ظهور شخصيات من خارج السرب التقليدي ولكن ليس خارج جناح الدولة العميقة. صحيح أن الأخيرة حقّقت نجاحات في كل من الولايات المتحدة وفرنسا ولكنها كانت وما زالت عاجزة عن معالجة قضايا المواطنين ما ينذر بحقبة غير مستقّرة على الصعيد السياسي والاجتماعي. المظاهرات العنيفة التي تلت انتخاب ترامب وماكرون قد تكون بداية لحقبة غير مستقرّة. والهجوم على الخصوصيات الوطنية والقومية لطمس الهوية قد يؤدّي إلى فقدان تماسك النسيج الاجتماعي فتعمّ الفوضى التي لا تستطيع أي دولة أمنية السيطرة عليها.
زياد حافظ أمين عام المؤتمر القومي العربي