هو القانون. منذ تكلم الإنسان هو مسؤولٌ عما يقول فكم من لسانٍ ساقَ صاحبه للموت وكم من قولٍ خَلَّدَ قائله. أما اليوم فإن شيوع الخبر، الجاد والتافه، الرصين والشائن، ذلك المختفي وراء شخصيةٍ غير حقيقيةٍ والبائن بوضوحٍ شجاعٍ، صار يخلق حالةً من الوباء الإعلامي الذي يتسلل للمتابع من كل اتجاه. لقد انفتح المجال لمن يريد ليرسل خبراً أو صورةً مع تعليقٍ ساخنٍ بموضوعٍ هامٍ ليرى رسالته تلف الكرة الأرضية، وقد يكون الخبر والصورة تزييفاً. يتبع الخبر دوامةً من التأويل والتفسير أما التعليقات فلقد أصبحت عند البعض خبراً بحد ذاتها. زد على هذا استخدام وسائل الذكاء الإصطناعي الذي بات يؤلف ويرسم ويصور ما يطلبه الذكاء الطبيعي بالنيةِ الحسنة والسيئة. إن أردتَ تشويهاً أو تجميلاً لأي كائن فعليك بمئات البرامج التي تطيع أمرك. كلنا شاهدنا ذلك وكلنا نستمع لعمالقة هذه الصناعة يعدوننا باكتساح الذكاء الاصطناعي حياتنا العادية في كل مجالٍ يمكن أن نتخيله وفي كل مكانٍ له في حياتنا مكانة. ولنا أن نتصور ما سيغزو العقول اليافعة و حتى الناضجة ما هو أضعاف ما نعيشه اليوم. كثيرٌ منه مفيد وكثيرٌ ضار. غير أنه حين نستمر نستورد المعلومة ووسيلة نشرها ونتعلم كيف نلوكها حلوةً وحنظلةً، ونميل على الذكاء الصناعي الوارد من الخارج لأداء أعمالنا وتلبيةِ رغباتنا فسنبقى أسرى العلم والذكاء المستورد وما يحمله من الغث والسمين. كل هذا إعلامٌ وإعلانٌ يتداخل وحياتنا في صحونا ومنامنا.
مشدودين نبقى رغماً لتتبع الخبر. من زمن سوق عكاظ والمربد نسأل عن الخبر الجديد الجاد و حتى التافه. بعد أن كنا ننتظر نشرة الأخبار بوقتها المحدد صار الخبر يأتينا دون استئذان في أي وقتٍ يروق لنا. تراجعت وسائل الإعلام الرسمية حتى و إن صدقت، وقد كانت في زماننا منضبطةً بخطوط واضحة على كل عِلاَّتها لكنها اليوم باتت هرمةً ثقيلةً وهي تحاول استباق وسائل إعلامٍ لا ترحم. فهل بقي إعلامٌ رسميٌ!؟ بل ما هو الإعلام الرسمي إن لم يكن قد استكانَ لنشرِ القوانين والمراسيم والأحداث البروتوكولية. بل هل هناك إعلامٌ ناضجٌ غير رسمي لا تصيبه آفات الرسميات أو نشر التفاهات أو استمراء الاستعباد لمن يدفع أكثر أو يُخيفَ أكثر؟ وإن وُجِدَ و كنتَ تتابعه سيقتحم الخبر التافه خلوتك مع الخبر الجاد رغماً. ولا أقصد بالخبر التافه أحوال أهل الفن الهابط بل ما يحيدُ في إعلامنا عن توعيةِ الإنسان العربي بقضاياه وتوجيهه لصونِ بلاده. وبما أن الإعلام يعتمد على مواقع التواصل و يعتاش على عدد المتابعين وهم أشكال فلا بد من الأخبار التافهة لجذب من يريدها و لا بد من الإعلان المصاحب ليجذبهم و الإعلان صار يعرض كل شيئٍ يمكن أن يُباع للمتابع، عائباً كريهاً ونافعاً غير مطلوب. والإعلان صارَ يعتمدُ على ما تتابعه وتسأل وتبحث عنه فيعرض لك الموقع المزيد من الإعلانات. وبما أنه بيعٌ، يقولون لك في المواقع المجانية إدفع فتختفي الاعلانات لكن الأخبار التافهة لا تختفي. فمن قبيل استقبل وتحدث وحث و أوعزَ واتفق و سافر وعاد والتقى وقال وافتتح ومن قبيل الحفل والمهرجان والبناء الأعلى والكرة واللاعب يأتيك هذا الخبر سطوةً. كما إنه من النادر أن ترى أحداً يتصفح صحيفةً وكتاباً حين معظمنا يستسهل المعلومة السهلة عبر الهاتف فتراجعت القراءة والكتابة أمام الشاشات الهاتفية. وإن كانوا يتكلمون عن الأطعمة السهلة السريعة وأثارها السلبية فالخبر السهل السريع لا يقل في السلبية عنها و إن أشبعَ فلقد صار إدماناً فيه من إلغاء التفكير الكثير. هكذا أصبحنا نُكَوِّنَ الرأي الشامل لقضايا مصيرية عبر قراءة سطرين وصورة!
غير أنني سأنتقلُ لموضوعٍ جادٍّ. منذ بداية الحرب بعد ٧ أكتوبر المجيد و استمرار الحرب الإبادية الصهيونية ضد الفلسطينيين واللبنانيين، وحقاً منذ ثلاثينات القرن الماضي، وتمتد لليوم بالهجوم المباشر والاغتيالات، ظهرت في الإعلام بأنواعه فئتين، واحدةً مع المقاومة والثانية ضدها. تلك التي تؤازر تفعل ذلك بمزيجٍ لا يبدو عقلانياً في عديد الأحيان بل مبالغاً في قدرة المقاومة وما تملكه. وتلك التي هي ضد المقاومة أفرزت حُثالةً من الروابط الطائفية والفئوية والكذب الصريح والتصوير الوضيع لضخ ما أمكنها من أخبارٍ مما يثبط ويهز المقاوم و الوطنيين. بينَ النوعين يلجأُ الوطني بالفطرةِ السليمة لمتابعة الإعلام المؤازر مُنتشياً بالإيجابية المبثوثة عبر الصورة الحية للمقاومة والتحليل المتفائل بالانتصار والواعد بالمفاجآت المخزونة التي تحتفظ بها. تتسلل للمواطن الوطني رغماً عن رغبتهِ نوعين من الأخبار. الواقعية والمفبركة. لا شك أن الواقع في غزة ومدن فلسطين الواقعة تحت الهجمات الصهيونية ومن ثم في لبنان و في اغتيال الرموز القائدة ما يصفعُ الإعلام المقاوم ومتابعيه فالحقيقة هي غير ما كان يقوله الإعلام المقاوم. بلى لا يزال هذا الإعلام المقاوم يعكس صورةَ مقاومةٍ ضاريةٍ شجاعةٍ أمام عدوٍّ يكتسح المواقع لكنه لم يستطع أن يتعامل مع الخسارة البشرية والمادية التي أصابتنا. ثم يأتي الخبر المفبرك و معظمه ساذجٌ في الطرح من حيث المحتوى لكنه عميقٌ في التأثير لأنه يضربُ على أوتار الهوية والطائفية ويستخدم وضيع الكلمات ويصلُ للمتابع الوطني فيزيد في غيظهِ وغضبهِ ويصلُ لمن يريد تصديقه فيزيد في وضاعة تفكيره وأوصافه للمقاوم والمقاومة. يفتقد المتابع الوطني لإعلامٍ غير مندفعٍ في التفاؤلِ بقدرات المقاومة و بالطبع غير مُحبطٍ في تناوله أسطورة الصمود لأن الفجوة كبيرة بين الآمال والوقائع. لا يمكن القبول بتفسيرٍ مغايرٍ للشعور بالفاجعة حين يسقط رموز المقاومة و تتفتت غزة و تنهار أحياءَ ببيروت ويغزو الصهيوني الجنوب اللبناني وتتقسم غزة شرائحاً تسيطر عليها الصهيونية. بلى، نحن نفخر بالمقاومة لكن علينا أن نعي أنها ليست بقوة النيران الصهيونية و أن أسلوبها في رد الاعتداء قد لا يعطينا ما يشفي الغليل الذي يصيبنا حين نرى حجم ونوع المأساة التي تنتجها الهجمة الصهيونية ضد الأحضان الفلسطينية واللبنانية والسورية واليمنية للمقاومة.
يقعُ الإعلام المقاوم في خطيئةِ التفاؤل دون توازن مع الواقع ويرتكب الإعلام العميل كبيرةَ الخيانة دون تردد حين يتبنى الصهيونية. نحن إذاً في حيرةٍ بين رغبتنا تصديق التفاؤل و رغبتنا مقاومة العمالة الإعلامية. وهي حيرةٌ تسحبنا للإحباط. فمن نُصَدِّقْ؟ مُضطراً استرجع السقطات الإعلامية التي رفعتنا للسماء ثم هَوَتْ بنا حقائق الواقع للحضيض. منذ حرب ١٩٤٨ ثم ١٩٦٧ و خيمة ١٠١ بعد ١٩٧٣ و نحن نُتَنَاولَ ضحايا إعلامٍ رسميٍّ كاذب واليوم نحن ضحايا إعلامٍ هائجٍ متنوعٍ في طروحاتهِ لا يختلف في توريتهِ للحقيقة يعيثُ بعقولنا وأفئدتنا دون رحمة. نحن في الإعلام كمالمستجيرُ من الرمضاء بالنارِ، فالمتفائلُ يحرقنا دون واقعية والعميلُ يحرقنا بالخيانة. هل من صادقٍ يصدقنا؟
علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق
الأردن