كان تنفيذ الحكم في 7 ديسمبر 1954 بإعدام المتهمين الستة في قضية محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر حكما بالطلاق البائن بين القائد المصري وجماعة الإخوان المسلمين، واعتبره كثيرون في الوطن العربي والعالم الإسلامي خطيئة كبرى ارتكبها نظام الرئيس المصريّ، بينما رأى فيه البعض انسجاما مع منطق الدولة اتسم ببعض المبالغة.
والواقع، فيما أرى، أنه إذا كان منطق الدولة قضى بإعدام محمود عبد اللطيف الذي أطلق الرصاصات الثمانية، فإن منطق الدولة نفسه لم يكن يتناقض مع تخفيف الحكم على قامة قانونية كبرى كالأستاذ عبد القادر عودة وعلى مجاهد القنال الشيخ فرغلي.
كان عبد القادر عودة رحمه الله يسكن أمامنا في شاعر “جاد عيد” بالدقي، وأتذكر أننا، الزميل سعد الدين نويوات وأنا، “اعتقلنا” إبنهُ “نجاتي” في شقتنا طوال اليوم خوفا من ردّة فعل مجنونة على إعدام أبيه.
وهنا يمكن القول، ببعض المبالغة، أن قيادة الإخوان المسلمين يُمكن أن تتحمل مسؤولية ما في تنفيذ أحكام الإعدام القاسية، ففي بدايات الثورة المصرية قضت محكمة عسكرية بإعدام شخصين هما خميس والبقري بتهمة إثارة إضطرابات في أهم منطقة صناعية بمصر، وهي منطقة كفر الدوار.
يومها سارت قيادة الإخوان مع منطق اتهام المعدمين بأنه شيوعيون، ولم يحدث، فيما عرفنا، أي محاولة لإقناع القيادة المصرية بتخفيف حكم الإعدام، الذي أصبح سابقة تم العمل بها فيما بعد بإعدام سيد قطب في 29 أغسطس 1966.
ولا جدال في أن من غير المنطق تجاهل قوله تعالى “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”، لأنه “من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا”، لكن منطق العمل السياسي يدرك حجم الأحقاد التي تنشأ عن تنفيذ الأحكام القاسية.
ويعرف كثيرون أن الرئيس هواري بو مدين رفض تنفيذ حكم الإعدام في من حاولوا اغتياله في أبريل 1968، وهذا يُفسّر ما تردد في منتصف الستينيات من أنه أرسل عبد العزيز بو تفليقة إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وبصورة سرية منعا للإحراج، يرجوه تخفيف الحكم على سيد قطب، وكان تمسك الرئيس المصري بمنطق الدولة سببا في تزايد الفتور بين الرئيسين، والذي بدأ مع عزل الرئيس أحمد بن بله في يونيو 1965.
والمهم هنا أن هو أن الخصومة بين التيار الإسلامي وعبد الناصر تحولت إلى عداء، وتحول الكره إلى حقد، ووصل الإسفاف في الخصومة إلى حد أن هناك من رقص فرحا عندما تردد أن مياه الصرف الصحي القذرة تسربت إلى ضريح عبد الناصر، وهو أمر لا يتشفى فيه إلا جهول، ولعلي أتساءل اليوم عن موقف الراقص عندما نُشر أن نفس الشيئ حدث مع ضريح الشيخ الشعراوي، وقصته مع هزيمة يونيو 1967 معروفة.
والمهم هو أن الهجوم على ثورة يوليو، ومرحلة عبد الناصر على وجه التحديد، أصبح المضمون الرئيسي لكل المتحدثين باسم معارضة النظام، وكلهم أو جلهم لا يتطرقون إلى مرحلة الرئيس أنور السادات، الذي كان في حاجة لهم لمواجهة التيار الناصري والتوجهات اليسارية، وهو ما اعتبره كثيرون انتهازية سياسية ستقود التيار الإسلامي إلى ما هو أسوأ.
خلال كل هذه السنوات لم أعرف أن قيادات الإخوان وقفت وقفة مراجعة للنفس، أو مارست عملية نقد ذاتي تقترب مما حدث في مرحلة الـ “غلاست نوست” و”البريسترويكا” الروسية، وليس بالضرورة مرحلة المؤتمر السوفيتي العشرين، عندما تنمّر خروتشوف على ستالين.
وكان التساؤل الذي يتردد على أفواه الكثيرين: هل مازال القرار النهائي بيد الدعاة أم أصبح بيد رجال المال.
وفي محاولة لضغط الحديث سأكتفي اليوم بنقاط سريعة آمل أن يثريها الرفاق …. بغير اللعنات، وأركز هنا على الأخطاء التي ارتكبت منذ ثورة 25 يناير 2011 الرائعة، التي نجح المجلس العسكري في إجهاض نتائجها السياسية متحالفا مع أقوى القوى الشعبية آنذاك، أي التيار الإسلامي، حتى وصل الأمر اليوم إلى قول البعض هناك بدون خجل: الله لا يعيدها أيام.
كان القرار الذي أعلنه اللواء عمر سليمان باسم الرئيس حسني مبارك يوم 11 فبراير 2011 (والذي كان، بتقدير إلهي حكيم، نفس يوم انتقال الفريق سعد الدين الشاذلي إلى رحاب الله) لا يتحدث عن استقالة الرئيس وإنما عن “تخليه” عن منصب رئاسة الجمهورية، وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتسيير شؤون البلاد.
وكان واضحا أن القوة الشعبية التي كان المجلس العسكري يعتمد عليها “لتمرير”هذا القرار اللا دستوري هو التيار الإسلامي.
يومها كان على قيادة التيار الإسلامي، بالتوافق مع كل التوجهات السياسية الموجودة على الساحة، وبدون تمييز أو تفرقة، المطالبة بتطبيق الدستور، الذي كان يقضي، حسب ما أعرف، بتعيين رئيس مجلس الشعب كرئيس للدولة ، والإعداد لانتخابات رئاسية.
وكان على هذا التيار أن يرفض أي”رشوة” سياسية تنتزع مباركته لما تم.
وحسب ما سمعناه فإن قيادة الإخوان لم تستلهم ذلك التوافق الرائع الذي عرفه ميدان التحرير بين المسلم والمسيحي وبين المتدين وغير المتدين وبين اليمين واليسار، وهكذا، على ما بدا، احتكرت القيادة التحاور مع المجلس العسكري بناء على وعود لا أعرف مضمونها لكنني رأيت نتائجها.
وتطورت الأمور بالشكل الذي يعرفه الجميع، وجاءت الصدمة الأولى بحرمان الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وهوَ من هوَ، من التقدم لمنصب رئاسة الجمهورية، وبدا واضحا ان قوةً ما داخل التيار الإسلامي (لعلها قوة المال) تريد فرض الدكتور محمد مرسي (وهو جامعي فاضل ومناضل نظيف ووطني صادق) وكانت الخلفية التي تصورها كثيرون أنها كانت تريد من يمكن التأثير عليه، بنفس أسلوب اختيار الدكتور حسن الهضيبي.
وكانت البدايات نذير شؤم يحذر من النهايات.
كان ما يسمى بالحرس القديم عنصرا فاعلا في توجيه الأمور، فكان هناك التحالف مع ما أصبح يُسمّى “حزب الزور”، وكانت تعبيرات الرئيس محمد مرسي صارخة في الهجوم على المرحلة الناصرية، فكانت كلماته في خطابه عن الستينيات،عندما أضاف :وما أدراك ما الستينات”، وكان تكريمه للواء حلال هريدي، الذي هاجم الرئيس عبد الناصر بشراسة معيبة من التلفزة السورية في اليوم الأول للانفصال (سبتمبر 1961)، ولا أعرف ما إذا كان تصرف مرسي بناء على اقتناع ذاتي أو بتحريض معين.
ووقع الرئيس مرسي في فخاخ استغلها خصومه، وذلك عندما وقّع خطاب اعتماد سفير مصري لإسرائيل، مخاطبا الرئيس الإسرائيلي بعبارة : صديقي العظيم أو الكبير، وكتبتُ يومها أقول أن نصوص خطب الاعتماد هي نفسها في معظم بلدان العالم، وليست هناك صداقة ولا هم يحزنون، ولعل الرئيس وقع الخطاب بدون قراءته.
لكن التوجهات المتناقضة مع الإخوان انقضت على القضية لتشويه مرسي، بإرادتها أو بمهماز نشط.
والمهم في نهاية الأمر أن قيادة الإخوان أعطت لأعدائها فرصة احتكار الرئيس عبد الناصر، فاستطاعوا المتاجرة بالرئيس المصري، في حين كانت هي أولى بذلك، بمجرد تفادي الهجوم الأحمق عليه.
واستطاعت قيادة الجيش يومها أن تخدر القيادات الفاعلة في حركة الإخوان المسلمين، وهو ما نجده اليوم في صراخ ممثلي المعارضة المصرية التي تنسب للقوات المسلحة كل ما هو سيئ وقبيح.
ونسي عباقرة الإعلام الإخواني أن الجيوش قد تكون مجرد عصًا في يد مراكز نفوذ تهدد بها من يتجرأ على المساس بمصالحها، وهي تستفيد من تنديد البعض بالجيش لتدينهم كأعداء للوطن وعملاء لأعدائه، وهكذا نجح التيار الإسلامي في استعداء الجيش بالهجومات الحمقاء على العسكر والعسكرتارية.
ونجد هنا أن دعوات كثيرة من المتحدثين باسم المعارضة أصبحت تلقى من المواطن السخرية والاستهزاء، بل والرثاء.
وأتذكر في نوفمبر الماضي دعوات متلفزة انطلقت تدعو للتظاهر في 11/11، في حين يعرف الجميع أن تجمع عشرة أشخاص يؤدي بهم إلى الاعتقال، ولو كان هناك عقل يفكر لاحتُفِظ بالدعوة إلى عشية اليوم المقرر للتظاهر، ثم دُعيَ الناس إلى عدم الخروج من بيوتهم ومقاطعة أي تظاهرة، ولن يستطيع النظام في الفترة الزمنية المحدودة حشد تجمعات شعبية بما يكذب أصحاب الدعوة، الذين يمكنهم القول بأن الشعب استجاب لهم بعدم الخروج.
والغريب في كل هذا أنه كان بيد القيادات الإخوانية دليل واضح يؤكد بأنهم ليسو إرهابيين، فقد استجابت جموع الإخوان لدعوة المرشد العام فك الله أسره ورفقاءه بصرخة :”سلميتنا أقوى من بطشهم”.
ولولا ذلك لكان بإمكان عشرة أشخاص ممن فقدوا أحبتهم في رابعة العدوية وبأسلحة خفيفة، أن يشيعوا جوا من الإرهاب لا أول له ولا آخر، باغتيال وجوه معروفة بالدفاع عن “ثورة يونيو” ومرتبطة عضويا بالتغيير الذي تم.
وكان صبر الإخوان على الأذى، وبإمكانهم مواجهته بكل عنف، صورة عميت أبصار العالم عن رؤيتها ولم تستطع القيادات الإعلامية استثمارها بذكاء، وأكثر القضايا العادلة مصيرها الخسران، إذا لم يكن محاميها في مستوى أهميتها.
ورغم أنني صدمت من دردشة لي مع الابن الأصغر للرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان منذ سنوات في زيارة للجزائر، إلا أنني تفهمت مشاعر عبد الحكيم عندما استرجعت الهجوم الأحمق المتواصل لعناصر الإخوان على أبيه، الذي يجمع العالم بأسره على أنه يمثل صورة من أروع صور النضال العربي في سبيل رفعة بلاده وإعلاء شأنه، وكانت لقيادة الإخوان فرصة إدعاء بعض الشراكة مع ما أنجزه عبد الناصر، وهو كثير، ، ولو أدركت، عمليا، أن هناك تحالفات تاكتيكية ضرورية لتحقيق الأهداف الإستراتيجية.
والعالم يعرف أكثر من صورة لذلك، من بينها تحالف تشرشل مع ستالين وتحالف دوغول مع الشيوعيين، بل وتحالف الثورة الجزائرية مع من أنكر وجود الأمة الجزائرية.
هل من وقفة نراجع فيها أنفسنا ونعيد تقييم التحالفات لنستطيع مواجهة الكارثة التي يعيشها الوطن العربي والعالم الإسلامي، والتي جعلت “ميلانشون” اليساري الفرنسي يبدو أكثر رجولة ممن تعرفون من قادتنا.
كلمات شاهد بسيط يأمل أن يثريها رجال الأمس واليوم.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ووزير اعلام جزائري سابق