على مدى حوالي ثلاثة عقود ومنذ تسعينات القرن العشرين، أصر ساسة الغرب ومنظروه والجزء الأكبر من وسائل إعلامه على التأكيد أن النظام العالمي الذي ترسخ بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة وتربع الولايات المتحدة على عرش القطب العالمي الأوحد، هو الذي سيسود لعقود قادمة إذا لم يكن أبعد من ذلك.
فرانسيس فوكوياما الكاتب والمفكر الأمريكي الجنسية، يعد من أهم مفكري المحافظين الجدد في أمريكا الذين دافعوا عن هذه النظرية وأجمعوا على ضرورة تكريس كل قدرات الغرب لفرضها. اشتهر بكتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" الذي ألفه بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي.
انطلق فوكوياما في كتابه من حيث انتهى كارل ماركس وجورج فريدريش هيغل، اللذين صورا التاريخ على أنه معركة جدلية بين النماذج والأطروحات الأيديولوجية المتناقضة.
وخلص إلى أن التاريخ يوشك أن يصل إلى نهايته بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الشيوعي واندثار حلف وارسو. وراح يبشر بميلاد عصر جديد يحصل فيه توافق عالمي واسع حول ما سماه المثل الديمقراطية.
جمع فوكوياما في مسيرته العلمية والعملية بين التنظير السياسي والتدريس الأكاديمي والجانب العملي فشغل وظائف عديدة، وكان مهتما بالبحث العملي ودراسة التطور الاقتصادي في المجتمعات البشرية، وعمل لمدة طويلة مستشارا للبنك الدولي في نيويورك والعديد من المؤسسات والأجهزة الأخرى.
وفي عام 1989 نشر في دورية "ناشونال إنترست" (National Interest) مقالة حفرت حروفها في تاريخ النظريات السياسية الحديثة، فتحت عنوان "نهاية التاريخ" كتب يقول "إن تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولى وانتهى بغير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية".
ما أجمله فوكوياما في مقاله فصله في كتاب أصدره عام 1992 بعنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، حيث أضاف وشرح نظريته المثيرة للجدل في كتابه الذي اكتسب شهرة عالمية واسعة وبلغ عدد طبعاته أكثر من عشرين طبعة مختلفة، وكان في قائمة أكثر الكتب مبيعا.
انتمى فوكوياما إلى معسكر المحافظين الجدد في أوج قوتهم فكان أحد موقعي رسالة موجهة للرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، تطالبه بإسقاط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
اعتراف متأخر
يوم الأربعاء 13 سبتمبر 2023 أعلن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، نهاية النظام العالمي الذي نشأ بعد حقبة الحرب الباردة، موضحا أن العالم يعيش حاليا الأيام الأولى من المنافسة الشرسة خلال النظام الجديد لتحديد ما سيأتي بعد ذلك.
جاء ذلك في خطاب ألقاه في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، حسبما نقل موقع وزارة الخارجية الأمريكية.
وشارك بلينكن خلال خطابه وجهة نظر إدارة الرئيس جو بايدن حول قوة الدبلوماسية الأمريكية وهدفها عند هذا المنعطف التاريخي.
رغم اعترافه بنهاية عصر وبداية آخر ظل بلينكن وككل ساسة القوى الكبرى التي تصل فيه إلى مرحلة التراجع، يتعلق بسراب معاكسة مسار التاريخ ويقدم تلك الأطروحات البالية حول عدالة الغرب ونظمه الاقتصادية والسياسية متجاهلا قرونا من سلب ثروات ومقدرات دول العالم الثالث سواء في ظل النظم الاستعمارية التقليدية القديمة أو المحدثة منها.
وذكر بلينكن أن هذه النهاية لم تحدث بين عشية وضحاها، مشيرا إلى أن العوامل التي أوصلت العالم إلى هذه اللحظة ستكون موضع دراسة ونقاش لعقود قادمة.
وأضاف "لكن هناك اعتراف متزايد بأن العديد من الافتراضات الأساسية التي شكلت نهجنا في التعامل مع حقبة ما بعد الحرب الباردة لم تعد قائمة". وأكد ـن "ما نشهده الآن هو أكثر من مجرد اختبار لنظام ما بعد الحرب الباردة. إنها نهاية الأمر".
ولفت بلينكن إلى عقود من الاستقرار الجيوسياسي النسبي خلال النظام السابق، أفسحت المجال لما وصفه بمنافسة متزايدة مع القوى الاستبدادية والقوى الرجعية.
وذكر إن "الحرب العدوانية التي تشنها روسيا في أوكرانيا تشكل التهديد الأكثر إلحاحا والأكثر خطورة للنظام الدولي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه الأساسية المتمثلة في السيادة والسلامة الإقليمية واستقلال الدول، وحقوق الإنسان العالمية غير القابلة للتجزئة للأفراد".
ومضى قائلا إنه وفي الوقت نفسه، تشكل الصين التحدي الأكثر أهمية على المدى الطويل لأنها لا تطمح إلى إعادة تشكيل النظام الدولي فحسب، بل إنها تتمتع على نحو متزايد بالقوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك على وجه التحديد.
وأوضح أن بكين وموسكو تعملان معا لجعل العالم آمنا للاستبداد من خلال "الشراكة بلا حدود".
وأشار إلى أنه مع احتدام هذه المنافسة، تقوم العديد من الدول بالتحوط في رهاناتها، موضحا أن نفوذ الجهات الفاعلة غير الحكومية آخذ في النمو ويشمل ذلك، وفقا لبينكن، الشركات التي تنافس مواردها موارد الحكومات الوطنية، والمنظمات غير الحكومية التي تقدم الخدمات لمئات الملايين من الأشخاص، وللإرهابيين الذين لديهم القدرة على إلحاق أضرار كارثية، وللمنظمات الإجرامية العابرة للحدود الوطنية التي تتاجر بالمخدرات غير المشروعة والأسلحة والبشر.
النظام العالمي الجديد
وأعترف بلينكن أنه في ظل هذا الوضع أصبح إقامة التعاون الدولي أكثر تعقيدا، ليس فقط بسبب التوترات الجيوسياسية المتزايدة، ولكن أيضا بسبب الحجم الهائل للمشاكل العالمية مثل أزمة المناخ، وانعدام الأمن الغذائي، والهجرة الجماعية والنزوح.
وزاد "بدأت البلدان والمواطنون يفقدون الثقة في النظام الاقتصادي الدولي، واهتزت ثقتهم بسبب العيوب النظامية:
وأوضح بلينكن أن رؤية إدارة الرئيس بايدن لعالم حر ومنفتح وآمن ومزدهر، تعتمد على أسس أربعة رئيسية، أولها هو تجديد وتعميق تحالفات واشنطن وشراكاتها، وإقامة تحالفات جديدة.
ويشمل ذلك حلف شمال الأطلسي الذي أصبح أكبر وأقوى وأكثر اتحادا مما كان عليه في أي وقت مضى، مع انضمام عضو جديد في فنلندا وانضمام السويد قريبا.
ويتضمن أيضا مجموعة السبع التي حولناها إلى اللجنة التوجيهية للديمقراطيات الأكثر تقدما في العالم والعلاقات الثنائية المهمة مع دول من جميع أنحاء العالم انتقلنا بها إلى المستوى التالي.
وثانيها نسج تحالفات وشراكات أمريكا بطرق مبتكرة ومعززة بشكل متبادل عبر القضايا والقارات. وكان ذلك واضحا في التحالف الذي بنيناه لدعم أوكرانيا وضمان أن يظل عدوان الرئيس الروسي بوتين فشلا استراتيجيا.
ثالثها بناء تحالفات جديدة لمواجهة أصعب التحديات في عصرنا، مشيرا إلى أنه تم تخصيص مئات المليارات من الدولارات مع مجموعة السبع لسد فجوة البنية التحتية العالمية.
كما تم حشد عشرات البلدان للاستجابة للمحركات المباشرة والطويلة الأجل لأزمة الغذاء العالمية، فيما تقوم واشنطن بصياغة قواعد الطريق للذكاء الاصطناعي، والتصدي لوباء المخدرات التركيبية العالمي.
وذكر بلينكن أن بلاده لا تعمل مع الحكومات فحسب، بل أيضا مع المجتمع المدني، والقطاع الخاص، والأوساط الأكاديمية، والمواطنين، وخاصة القادة الشباب.
ورابعها الجمع بين التحالفات القديمة والجديدة لتعزيز المؤسسات الدولية التي تشكل أهمية بالغة في التصدي للتحديات العالمية.
وذكر بلينكن أن واشنطن قدمت رؤية إيجابية للأمم المتحدة، بما في ذلك توسيع مجلس الأمن الدولي ليشمل وجهات نظر أكثر تنوعا جغرافيًا.
وأوضح أن الإدارة الأمريكية تبذل قصارى جهدها لتنشيط وإصلاح بنوك التنمية المتعددة الأطراف للتعامل مع العاصفة الكاملة لتغير المناخ، وجائحة كوفيد، والتضخم، والديون الساحقة.
وأكد أن الديمقراطيات الشقيقة ستظل دائما أول نقطة اتصال للإدارة الأمريكية، ولكن بالرغم من ذلك فواشنطن عازمة على العمل مع أي بلد – بما في ذلك تلك البلدان التي تختلف معها حول القضايا المهمة – طالما أنها ترغب في تحقيق تطلعات مواطنيها، والمساهمة في حل التحديات المشتركة، والتمسك بالمعايير الدولية التي بنيناها معا.
حرب وسط شرق أوروبا
اعتبر عدد كبير من المحللين تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن اعترافا ضمنيا جديدا بأن رهان واشنطن والناتو وبقية أقطاب ما يسمى التحالف الغربي بأن مشروعهم للحرب في وسط شرق أوروبا سيسفر عن نتائج تعزز استمرار النظام العالمي الذي يتحكم فيه البيت الأبيض وإضعاف أو تدمير القوى التي تسعى للتغيير.
كتب ماركو كارنيلوس في موقع ميدل إيست آي الأمريكية بتاريخ 19 أغسطس 2023:
تحاول الولايات المتحدة أن تفعل المستحيل وهو احتواء قوتين عظمتين في نفس الوقت، وقد فشلت فيما هو أسهل، فقد حاولت احتواء كل من إيران والعراق لمدة 3 عقود، ولم تنته أي من الحالتين بشكل جيد، فإيران لم يتم احتواؤها، أما العراق فقد تم تغيير النظام لكن الدولة نفسها ضاعت.
وحاليا، في الوقت الذي تعد فيه الولايات المتحدة في أضعف حالاتها على الصعيد الخارجي وأكثر حالاتها استقطابا على الصعيد الداخلي، فإنها تتطلع لطموحات أكبر من أي وقت سبق، حيث تهدف إلى احتواء كل من روسيا والصين.
ولخص "هنري كيسنغر" وزير الخارجية الأمريكية السابق مؤخرا مدى خطورة هذا الأمر قائلا: "نحن على حافة الحرب مع روسيا والصين نتيجة قضايا نحن السبب فيها جزئيا، ولا يوجد أي فهم لكيفية إدارة ذلك أو التداعيات المحتملة".
ومع الحرب في أوكرانيا والتوترات المتزايدة حول تايوان، نشأت تداعيات خطيرة تتمثل في أزمات الطاقة والغذاء العالمية الناجمة عن العقوبات المفروضة على روسيا، واضطرابات سلسلة التوريد، والتوترات التجارية والسباق التكنولوجي، وكلها مصحوبة بالركود والتضخم الذي يلوح في الأفق.
وتوجه الولايات المتحدة اتهامات لكل من موسكو وبكين بزعزعة النظام العالمي القائم على القواعد. ومع ذلك، فإن الأدلة ليست مقنعة. وقد تؤدي هذه المواجهة إلى إعادة اصطفاف عالمي، مما سينتج من الناحية المثالية نظاما متعدد الأقطاب، ولكن الأرجح أنه سيكون نظاما ثلاثي الأقطاب.
القطب الأول هو الكتلة الديمقراطية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة (والتي يجسدها ثلاثي دول G7 والناتو والاتحاد الأوروبي)، والثاني هو الكتلة الأوراسية بقيادة الصين وروسيا، إلى جانب إيران وبعض جمهوريات آسيا الوسطى.
وتتضمن الكتلة الثالثة أولئك الذين يريدون الابتعاد عن كليهما، أي بقية العالم الذي يطلق عليه الآن الجنوب العالمي، وسوف تبقى هذه الدول على الحياد فيما تتصارع الديمقراطية مع الاستبدادية في الحرب الباردة الثانية.
معركة على القلوب والعقول
يحاول الجنوب العالمي التخلص من عقود من الوصاية السياسية والاقتصادية والمالية الغربية. ولا يعني هذا اصطفافا تلقائيا مع الكتلة الأوراسية، لكنه يشير بالتأكيد إلى نظام دولي أكثر سيولة. وكما تشير حرب أوكرانيا، فإن نداء الغرب لحشد العالم ضد روسيا لم يكن جذابا، وستكون المواجهة القادمة ضد الصين أقل جاذبية.
ويكافح الثالوث الغربي لكسب القلوب والعقول في الجنوب العالمي، لكن معاييرهم المزدوجة والنظام العالمي القائم على القواعد الملتوية هي أمور أكثر إزعاجا من الحرب الروسية في أوكرانيا أو استعراض الصين لقوتها على طول حدودها.
حتى الآن، تبدو الأطر السياسية غير الغربية مثل "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) و"منظمة شنغهاي للتعاون" أكثر جاذبية. ولا تكسب الديمقراطيات الغربية في معسكرها سوى الدول ذات التفكير المماثل، كما يتضح من انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو.
أما اللاعبون الإقليميون الآخرون - بما في ذلك تركيا والمغرب والجزائر ومصر والسعودية والإمارات والأرجنتين والمكسيك - فهم يبحثون في أماكن أخرى.
وذكر دبلوماسي بريطاني رفيع ذات مرة: "أن تكون صديقا للولايات المتحدة أصعب بكثير من أن تكون عدوا لها". وهكذا، يمكن أن تظهر كتلتان اقتصاديتان وتجاريتان متنافستان؛ وربما لم تعد نيويورك ولندن والدولار الأمريكي هي المقرات والأدوات الحصرية للنظام المالي العالمي.
وتعمل الصين وروسيا على إيجاد بدائل للدولار الأمريكي ونظام الدفع العالمي "سويفت" وبورصتي نيويورك ولندن. وتقوم الشركات الصينية المملوكة للدولة بشطب إدراجها في البورصات الأمريكية، بينما تقوم بكين بتخفيض ملكيتها لسندات الخزانة الأمريكية.
وبينما لا تزال هذه التحركات في بداياتها، إلا أنها قد تصبح جذابة للعديد من دول الجنوب العالمي بمرور الوقت، خاصة إذا كان الغرب يثابر بحماقة على استخدام الدولار وأدواته المالية كسلاح.
يمكن أن تبدأ المزيد من الدول أيضا في البحث عن أماكن أكثر أمانًا لاحتياطياتها من الذهب والعملات الصعبة، خاصة بعد استيلاء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على الاحتياطيات الوطنية الأفغانية والفنزويلية، ناهيك عن استيلاء الدول الغربية على 300 مليار دولار من روسيا.
التحولات التكتونية
يمكن لانفصال روسيا عن الغرب اقتصاديا، وانفصال الصين القادم، أن يقدم مشهدا مختلفا تماما. فكيف سيتعامل الشرق الأوسط مع هذه التحولات التكتونية؟.
بالنظر إلى اتفاقات إبراهام التي تطلبت الكثير من الضغط على الأطراف لتحقيقها، أصبحت "باكس أمريكانا" بعيدة المنال أكثر فأكثر (مصطلح لاتيني يعني السلام الأمريكي ويشير إلى دور النفوذ الأمريكي الذي ساد من بعد الحرب العالمية الثانية في فرض الاستقرار).
وتعد هذه الصفقات، التي روجت لها إدارة "ترمب" ورحب بها "بايدن"، مهمة اقتصاديا لاسيما بالنسبة لإسرائيل، لكنها تستند إلى افتراضين: أن القضية الفلسطينية يمكن تنحيتها جانبا إلى أجل غير مسمى دون عواقب، وأن الرأي العام في العالم العربي غير ذي صلة.
سيحين قريبا وقت اتخاذ القرار بالنسبة للقوى الإقليمية الكبرى. فهل ستسمح المنطقة لنفسها مرة أخرى أن تصبح ساحة معركة للقوى العظمى، كما كانت خلال القرن العشرين؟ وما هو القالب السياسي الذي يمكن بناء الاستقرار الإقليمي حوله؟. اتفاقات إبراهام موسعة (والتي توسطت فيها الولايات المتحدة)، أم تفاهمات غير رسمية معادية للغرب مثل محور المقاومة (إيران-العراق وسوريا-حزب الله)؛ أو التكتلات غير الغربية مثل "بريكس بلس" و"منظمة شنغهاي للتعاون"؟.
وهل سيميل الإطار الاقتصادي في المنطقة أكثر نحو مبادرة الحزام والطريق الصينية، أم شراكة "G7" التي تم الإعلان عنها حديثا وتتعلق بمشاريع للبنية التحتية والاستثمار العالمي بقيمة 600 مليار دولار؟ وهل ستستمر المؤسسات المالية في الاعتماد على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، أم أنها ستجد بديلا في "بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية" في الصين؟.
الأدلة الوحيدة المتاحة حتى الآن هي أن شركاء الولايات المتحدة التقليديين في الشرق الأوسط، مثل مصر والسعودية، قرروا الانضمام إلى "بريكس". والرياض تدرس قبول اليوان بدلا من الدولار لمبيعات النفط.
النظام العالمي متعدد الأقطاب
بالرغم من تطورات المشهد العالمي، فإن المخطط الأمريكي للشرق الأوسط لم يتغير للأسف، ولم تكن رحلة "بايدن" الأخيرة إلى إسرائيل وفلسطين والسعودية استثناء، فقد أمنت لإسرائيل شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة تهدف بشكل أساسي إلى مواجهة إيران، في حين واجه الفلسطينيون المزيد من التجاهل لحقوقهم المشروعة.
لكن أهم محطة لـ"بايدن" كانت في السعودية التي وعد "بايدن" سابقا بتحويلها إلى دولة "منبوذة"، وقد أكدت هذه التطورات صعوبة إتباع سياسة خارجية قائمة حصرا على أسس معينة.
وأثبت الشرق الأوسط انهيار سردية "بايدن" الكبيرة عن الصراع العالمي بين الديمقراطية والاستبداد. لقد فرضت السياسة الواقعية نفسها، وواجه الرئيس الأمريكي معضلة صعبة: التمسك بقيمه الأخلاقية المزعومة، والتي تتطلب أن يظل نظام الرياض منبوذا دوليا، أو إعطاء الأولوية للمستهلكين الأمريكيين ومحاولة خفض أسعار النفط.
ولم يكن مفاجئا أن يختار "بايدن" الخيار الثاني، فالتضخم المتصاعد تسبب في تآكل كل من القوة الشرائية للمستهلك الأمريكي وثقته في النظام.
وأصبح من الواضح الآن أنه رغم المذلة التي تكبدها "بايدن" بلقائه مع ولي العهد السعودي الأمير "محمد بن سلمان"، إلا أن الرياض لم تلتزم بأي زيادة في إنتاج النفط، قائلة إن قدرتها الاحتياطية قريبة من الحد الأقصى. بإختصار، كانت الزيارة كارثة سياسية.
أما قمة إيران وروسيا وتركيا التي حدثت في نفس الوقت تقريبا في طهران فربما يكون لها آثار أكثر أهمية واستدامة على المنطقة. وفي حين أن الولايات المتحدة لا تزال حبيسة قواعد لعب عفا عليها الزمن فيما فقد الاتحاد الأوروبي أهميته، يمكن أن يكون لدى روسيا والصين مساحة أكبر للمناورة.
وبالرغم من محاولات الغرب لترتيب النظام الدولي على نظام يقوم على "نحن وهم" فإن الواقع الناشئ أكثر تعقيدا، حيث تتطلع دول الشرق الأوسط، بما في ذلك الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة، إلى احتمال قيام نظام عالمي جديد تماما، يمكن أن يتيح لهم الكثير من الخيارات الجديدة.
إبطاء عملية تطور العلاقات الدولية
قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف يوم 18 أغسطس 2023، إن الأشخاص ذوي النظرة العنصرية للعالم اليوم في الدول الغربية، من الصعب عليهم أن يتقبلوا ويتصالحوا مع بداية التعددية القطبية.
وصرح لافروف في مقابلة مع مجلة "ميجدونارودنيا جيزن" (الحياة الدولية) الروسية، قائلا إن "هناك قلة اليوم ينكرون أن الأمريكيين وتوابعهم، يحاولون إبطاء أو حتى عكس العملية الطبيعية لتطور العلاقات الدولية، في سياق تشكيل نظام متعدد الأقطاب".
وأضاف "في الغرب، هناك أشخاص مثل (مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الأمن والخارجية)، جوزيب بوريل، هم الآن على رأس الذين يقسمون العالم إلى حديقتهم المزهرة، وإلى أدغال، حيث في رأيهم يعيش معظم البشرية هناك.. النظرة العنصرية للعالم، بالطبع، من الصعب التصالح مع بداية التعددية القطبية".
كما أوضح لافروف أن "الولايات المتحدة وحلفاءها يرون أنه من الممكن ثني العالم كله بما يتناسب مع احتياجاتهم، بشتى الأساليب، أو حتى باستخدام القوة، وكذلك باستخدام عقوبات أحادية الجانب، لم يوافق عليها حتى مجلس الأمن الدولي، وعمليات إعلامية نفسية وأساليب أخرى غير مناسبة وغير مشروعة".
وأشار لافروف، إلى أن "المؤسسة السياسية والاقتصادية في أوروبا والولايات المتحدة، تخشى بشكل معقول من أن يكون الانتقال إلى نظام متعدد الأقطاب، مرتبطا بخسائر جيوسياسية واقتصادية خطيرة، والانهيار النهائي للعولمة في شكلها الحالي، المصمم وفقا لمصالح الغرب".
وشدد الوزير على "أنهم خائفون قبل كل شيء من احتمال ضياع فرصة التطفل على بقية العالم، وبالتالي ضمان تجاوز النمو الاقتصادي على حساب الباقي".
كما لفت لافروف، الانتباه إلى أولويات موسكو في العملية الجيوسياسية الحالية. وقال إن "روسيا الحديثة ترى أن مهمتها تتمثل في الحفاظ على توازن عالمي للمصالح، وبناء هيكل أكثر عدلا للعلاقات الدولية، ونعتقد أن الأولوية الشاملة يجب أن تكون في توفير الظروف للتطور السلمي التدريجي للبشرية على أساس أجندة موحدة".
ودعا الوزير الروسي إلى "إحياء قدرة الأمم المتحدة على لعب دور مركزي في تنسيق مصالح الدول الأعضاء، وهذا يعتبر أحد المهام الرئيسية"، معربا عن ثقته في أن روسيا "ليست وحدها في مثل هذا المسعى، وإنما المزيد والمزيد من دول جنوب وشرق العالم، بدأت حقا في تحقيق وصياغة المصالح الوطنية، وإتباع سياسة تركز على تنفيذها، بروح التعاون الدولي".
وختم لافروف بالقول: "نحن ندعم هذا الاتجاه على أساس فهم واضح إنه المستقبل".
الدولار مهدد
جاء في تحليل نشر في موقع "أوراسيا ريفيو" يوم الثلاثاء 22 أغسطس 2023:
لعبت الولايات المتحدة دورا فعالًا في قيادة النظام الاقتصادي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، والذي ساعدت في إنشائه. ومع ذلك، انخفض وزنها الاقتصادي بمرور الوقت، حيث يطالب المنافسون الاستراتيجيون في الأسواق الناشئة بالتغيير، ويشير البعض إلى أن أيام الدولار الأمريكي كعملة عالمية مركزية أصبحت معدودة.
إن الدور الذي يلعبه الدولار الأمريكي لا يزال يشكل أهمية مركزية في أداء النظام المالي الدولي. ويقدر بنك التسويات الدولية أن الدولار الأمريكي يشارك في ما يقرب من 90 في المئة من معاملات الصرف الأجنبي، ويمثل 85 في المئة من المعاملات في الأسواق الفورية والآجلة والمقايضة ونصف التجارة العالمية، وثلاثة أرباع التجارة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ مقومة بالدولار.
ويضيف أن حصة الدولار الأمريكي انخفضت كاحتياطيات رسمية من النقد الأجنبي من 61.5 في المئة في عام 2012 إلى 58.4 في المئة في عام 2022، لكن الأمر كذلك بالنسبة لليورو (من 24.1 في المئة إلى 20.5 في المئة)، ولا تزال حصة الرنمينبي الصيني أقل من 3 في المئة، فيما ظلت الديون بالعملات الأجنبية المقومة بالدولار عند نحو 70 في المئة منذ عام 2010. كما ظل مؤشر بنك الاحتياطي الفيدرالي للاستخدام الدولي للعملة ثابتاً عند نحو 68 في المئة.
البريكس تتحدى هيمنة الدولار
ويشير المقال إلى أن ذلك يظهر عدم الرضا عن الدور المهيمن للدولار بشكل دوري، وهو ما يتوافق عادة مع تحول كبير في الاقتصاد العالمي أو أزمة دولية. على سبيل المثال، عندما برزت اليابان باعتبارها "القوة الاقتصادية الطاغية" في أواخر الثمانينيات، اعتقد الكثيرون أن الين سوف يتولى، بل ينبغي له أن يضطلع بدور أكبر بكثير. ولكن لم يحدث ذلك، واليوم يشكل الين حوالي 5 في المئة فقط من احتياطيات النقد الأجنبي.
وقد نشأت توقعات أكبر عندما تم إنشاء اليورو، ولكن لم تلعب العملة دورا أكبر خارج أوروبا.
ووفقا للمقال، يصدق نفس القول على الصدمة الكبرى المتمثلة في صعود الصين غير العادي على مدى العشرية الماضية، حيث يعطي مؤشر استخدام العملات الأجنبية الرنمينبي حصة تبلغ 3 في المئة، أي نصف حصة الجنيه الاسترليني وخمسي حصة الين الياباني، وقد اتضح أنه من الصعب جدا الإطاحة بالدولار.
وفي هذا السياق، كانت انتقادات هذا الدور الضخم للدولار أكثر وضوحا في السنوات الأخيرة، وخاصة في ضوء التوترات الجيوسياسية. فمن خلال السيطرة عليه، تستطيع حكومة الولايات المتحدة أن تجني قوة من خلال منع الوصول إلى نظام "سويفت" للتحويلات بين البنوك عبر الحدود، على سبيل المثال، كما كانت الحال في الحرب الروسية على أوكرانيا.
الإجهاد الاقتصادي الأمريكي
ويرى الكاتب أنه ليس من قبيل المصادفة أن البلدان التي كانت الأعلى صوتاً بشأن تقليص دور الدولار في النظام المالي العالمي تميل إلى أن تكون منافسا جيوسياسياً للولايات المتحدة، لكن بعض الدول التي تتمتع بعلاقة أقل شائكة مع واشنطن، بما في ذلك ماليزيا والبرازيل، تضغط أيضا من أجل التنويع، حتى أن هناك خطة لإحياء فكرة صندوق النقد الآسيوي، التي اقترحتها اليابان لأول مرة أثناء الأزمة المالية الآسيوية.
ويذكر المقال أن العقوبات الأخيرة المفروضة على روسيا أدت إلى تعاملها بشكل أكبر بالرنمينبي وغيره من العملات، مما يسلط الضوء على قدرة الولايات المتحدة على ممارسة الضغوط من خلال سيطرتها على الأسواق المالية الدولية التي تترك البلدان الأخرى مكشوفة.
وفي عام 2023، أصبحت بوليفيا ثالث دولة في أمريكا اللاتينية بعد الأرجنتين والبرازيل تستخدم الرنمينبي في تسوية المعاملات التجارية، وحتى السعودية تفكر الآن في استخدامه بتجارة النفط مع الصين.
ولا يرجح المقال أن يكون هناك أي تحول كبير قريبا، حيث لا يعد الاقتصاد الأمريكي الأكبر في العالم فحسب، بل إنه أيضا متنوع وديناميكي ومبتكر ومرن نسبيا. وفي حين انخفضت حصة الولايات المتحدة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فإن هذا يرجع إلى ارتفاع حصص الأسواق الناشئة.
بواقع الأمر، ارتفعت حصة الولايات المتحدة في إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من 37 في المئة في عام 2000 إلى 43 في المئة في عام 2023.
النظام المالي الصيني
لا يزال النظام المالي الصيني مغلق نسبيا، ومن غير المرجح أن تكون الحكومة الصينية على استعداد لتحرير أسواقها المالية في الأمد القريب أو المتوسط، على الأقل ليس في ظل الإدارة الحالية، التي تتحرك أولوياتها في الاتجاه المعاكس.
وإذا كانت الدول ترغب في تجنب الدولار الأمريكي بسبب العقوبات المحتملة، فمن المحتمل أنها لن تكون مرتاحة للتعرض للصين أيضا، لأنها تطبق العقوبات أيضا وقد اتهمت بـ "دبلوماسية فخ الديون"، أو دول منظمة التعاون الاقتصاديوالتنمية الأخرى التي تتبنى نهجا للعقوبات يتوافق مع الولايات المتحدة.
ورغم أن السياسة في الولايات المتحدة لا يمكن التنبؤ بها ومشحونة على نحو متزايد، فإن الحكومة مستقرة، وعلى الرغم من تدهور توقعات السياسة المالية، فإن سمعة سلطتها النقدية راسخة، وتواصل الجهات الفاعلة الدولية اعتبارها مكانا آمنا ومأمونا للاستثمار.
وقد تمكنت حكومة الولايات المتحدة من تحمل عجز تجاري ضخم بمرور الوقت، نتيجة لفائض صافي المدخرات الوطنية في الاقتصاد العالمي وخلق ديون عامة وخاصة زائدة عن الحاجة. وقد تجد العديد من الحكومات الأخرى أن هذا الأمر لا يمثل بداية سياسية.
فالصين، على سبيل المثال، لم تشهد عجزاً في الحساب الجاري منذ توحيد نظام العملة المزدوج في عام 1994.
ويرى المقال أن النداءات الصاخبة لاستبدال الدولار تجتذب الدوائر المحلية أكثر من الجهات الفاعلة المالية الدولية، حيث يستفيد النظام العالمي من وجود عملة مقبولة دوليا كوسيلة للتبادل ووحدة حسابية ومخزن للقيمة. لكن دورها سوف يتضاءل على الهامش بسبب عوامل خارجية، مثل التغيرات في السوق الدولية، وعوامل داخلية، مثل كيفية مواجهة الولايات المتحدة لتحدياتها المالية والتجارية.
هيمنة الدولار في خطر
منتصف شهر يونيو 2023 أكدت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، في جلسة استماع في اللجنة المالية التابعة لمجلس النواب الأمريكي، أن الولايات المتحدة يجب أن تتوقع انخفاض حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية.
وردا على سؤال من النائب وارن ديفيدسون، جمهوري من ولاية أوهايو، حول ما إذا كانت العقوبات الأمريكية يمكن أن تؤثر على معاملات الدولار، أقرت يلين بأن استخدامها دفع بعض البلدان للبحث عن بدائل للعملة.
وقالت الدولار يلعب الدور الذي يلعبه في النظام المالي العالمي لأسباب وجيهة للغاية لا تستطيع أي دولة أخرى تكرارها، بما في ذلك الصين. مشيرة إلى أن ذلك يرجع إلى "أن أمريكا لديها أسواقا مالية مفتوحة عميقة، وسيادة قانونية قوية، وغياب ضوابط رأس المال التي لا تستطيع أي دولة تكرارها. حيث لن يكون من السهل على أي دولة ابتكار طريقة للالتفاف حول الدولار."
في وقت لاحق، استفسر النائب فيسنتي غونزاليس، ديمقراطي من تكساس، عما إذا كان يتعين على الولايات المتحدة إبطاء استخدام العقوبات، مشيرا إلى أنه حتى الدول المتحالفة تقليديا، مثل فرنسا، أجرت مؤخرا معاملات غير بالدولار.
ردت يلين: «أود أن أقول إنه لا يوجد حل بديل حقيقي لمعظم البلدان لاستخدام الدولار كعملة احتياطية».
في الوقت نفسه، وفقا ليلين، لا توجد اليوم طرق مهمة في معظم الدول للتحايل على استخدام الدولار كعملة احتياطية.
ولدى سؤالها عما إذا كان الوضع الدولي للدولار يتضاءل، أشارت إلى التنويع المتزايد داخل الأصول الاحتياطية، وهو أمر يمكن توقعه في الاقتصاد العالمي المتنامي.
وذكرت «يجب أن نتوقع بمرور الوقت زيادة تدريجية في حصة الأصول الأخرى في الحيازات الاحتياطية للدول - وهي رغبة طبيعية من الدول في التنويع».
بيد أن الوضع الاحتياطي للدولار الأمريكي شهد تآكلا تدريجيا لمدة عقدين من الزمن، وشهد انخفاضا حادًا في عام 2022 على الرغم من أن قوته في التجارة الدولية لا تزال دون منازع.
وأشارت تقارير أخرى إلى تصاعد طلب البنوك المركزية الأجنبية على الذهب كوسيلة أخرى لتقليل اعتمادها على احتياطيات الدولار.
وقد اقترحت يلين أن على المشرعين الأمريكيين أن يساعدوا قضية الدولار. وفي وقت سابق من جلسة الاستماع، كررت قلقها الطويل الأمد بشأن أزمة سقف الديون الأمريكية، قائلة إنها تقوض الثقة العالمية في قدرة الأمة على الوفاء بالتزامات ديونها، مما يؤدي إلى تدهور سمعة الدولار.
عمر نجيب