نهاية جديدة لمسرحية تخلف الحكومة الأمريكية عن سداد ديونها.... سندات الخزينة الأمريكية والمخاطر المتصاعدة

أربعاء, 2023-05-31 07:02

وصلت الضجة السياسية والإعلامية حول مشكل ديون الحكومة الأمريكية إلى ذروة مع منتصف شهر مايو 2023 بعد حملة إعداد تمهيدية ومتدرجة انطلقت مع بداية سنة 2022 بعد اقتراب مصاريف الإدارة الأمريكية من تخطي حد الاقتراض البالغ 31.42 ترليون دولار الذي لا يخول لها تجاوزه إلا بعد رفع الكونغرس حدود الدين، وقد حذر كثيرون منه أنه بدون إيجاد حل سريع وتوافق في الكونغرس بواشنطن سيواجه الاقتصاد الأمريكي والعالمي نكسات ومخاطر وربما كوارث.

المعروف انه وبالرغم من إيرادات حكومة الولايات المتحدة الضخمة والتي يتم تحصيلها من الضرائب والرسوم وغيرها من موارد الدولة، إلا أن هذه الدولة وعلى ارض الواقع تنفق أكثر بكثير مما تحصل عليه من دخل وإيراد وبذلك فهي تقترض داخليا وخارجياوتدفع فوائد عن ذلك.

لغط كثير أثير حول الموضوع ومعه تتبع الاقتصاديين لمسار أسواق المال والسندات والعملات.

يوم السبت 27 مايو 2023 تنفس الكثيرون الصعداء مع إعلان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ورئيس مجلس النواب، الجمهوري، كيفن مكارثي، توصلهما إلى اتفاق حول رفع سقف الدين يتضمن "تخفيضات تاريخية" بحسب وصف الأخير.

وذكر مكارثي إن الاتفاق يشمل "تخفيضات تاريخية في الإنفاق"، ولا يشمل أي ضرائب أو برامج جديدة.

كما يبقي الاتفاق الإنفاق غير الدفاعي ثابتا تقريبا للسنة المالية الحالية و2024.

ووصف بيان للبيت الأبيض الاتفاق أنه يمثل حلا وسطا، ويشكل خبرا مفرحا للشعب الأمريكي، لأنه "يمنع ما كان يمكن أن يكون عجزا كارثيا عن السداد" ويؤدي إلى "ركود اقتصادي، وتدمير حسابات التقاعد، وفقدان الملايين من الوظائف.

وكانت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، قد حذرت يوم الجمعة 26 مايو، من أن الولايات المتحدة قد تتخلف عن السداد اعتبارا من 5 يونيو، في تقديرات محدثة بعدما أشارت سابقا إلى أن هذا الأمر قد يحصل في الأول من شهر يونيو 2023.

ومحور الاتفاق بين مكارثي وبايدن يرتبط بالميزانية لمدة عامين، والذي من شأنه أن يبقي الاتفاق ثابتا لعام 2024 ويفرض حدودا لعام 2025 مقابل رفع سقف الدين، مما سيدفع بهذه القضية المتقلبة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة.

مالكو سندات الخزينة الأمريكية سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها وبعد الإعلان عن الاتفاق وجدوا أنهم سيحصلون على أرباحهم الفصلية وأن أصولهم لن تفقد قيمتها كما كان سيكون الأمر لو تعذر التوصل إلى اتفاق حول رفع سقف الدين.

وحسب مكتب الميزانية في الكونغرس فإن الدين الفيدرالي سيرتفع بمتوسط 1.5 تريليون دولار سنويا على مدى عشر سنوات.

إذا ظلت أسعار الفائدة عند مستوياتها قبل التضخم، فإن الفائدة على الدين ستستهلك 16 في المائة من الإيرادات الفيدرالية السنوية بحلول عام 2033، ارتفاعا من 15 في المائة اليوم، وإذا استمر الاحتياطي الفيدرالي في تمويل عجز الحكومة المستمر البالغ أكثر من 1.5 تريليون دولار كما هو الحال منذ عام 2020، فسنرى تضخما مستمرا مع تواصل نمو المعروض النقدي في تجاوز النمو الاقتصادي، وفي النهاية، يتم تسعير هذا التضخم في السندات، وللسيطرة على التضخم، يحتاج الاحتياطي الفيدرالي إلى إبطاء نمو المعروض النقدي، وهذا سيرفع أسعار الفائدة، وفي كلتا الحالتين، أصبحت أسعار الفائدة المنخفضة شيئا من الماضي. 

تقدر حيازات اقتصاديات الدول الدائنة للولايات المتحدة الأمريكية من السندات بأكثر من 7 تريليونات دولار، وهناك ديون مملوكة للأفراد والشركات وصناديق التقاعد وغيرها تقدر قيمتها بـ 24 تريليون دولار.

الاتفاق الذي تم يوم السبت 27 مايو في البيت الأبيض سيسمح للحكومة الأمريكية بإصدار سندات خزينة جديدة لتغطية الاستدانة بالمبلغ الذي سيضاف إلى 31.42 تريليون دولار.

 

اتفاقية بريتون وودز والسندات

 

سؤال يمكن أن يطرح بشأن ضمانات سندات الخزينة من المخاطر. يقول الاقتصاديون أن المخاطر ضعيفة جدا ولكنها ليست منعدمة. ولكن ما كان سيحل لو لم يتم التوصل إلى اتفاق يوم السبت 27 مايو 2023. 

مصير السندات الأمريكية يمكن أن يشابه في يوم ما لحق بقابلية تحويل الدول لأرصدتها من الدولار إلى ذهب، كما يمكن للحكومة الأمريكية في نطاق صراعاتها أن تجمد سندات الخزينة لطرف ما تماما كما فعلت مع أرصدة العراق وليبيا وإيران وأفغانستان وروسيا ودول أخرى.

بعدما لاح في الأفق انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، بادرت الحكومة الأمريكية إلى دعوة 44 دولة للاجتماع في يوليو 1944 بمدينة بريتون وودز في ولاية نيو هامبشير للاتفاق على نظام نقدي دولي جديد، بغية تأمين الاستقرار والنمو الاقتصادي العالمي.

وخرجت حينها وبعدها المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتحدة والاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة "غات".

ورغم مشاركة الاتحاد السوفياتي في أعمال المؤتمر ومناقشاته فإنه لم ينضم إلى عضوية صندوق النقد الدولي لأنه رأى فيه هيمنة واضحة للاقتصاد الأمريكي.

يعد نظام ثبات أسعار صرف العملات حجر الزاوية في مؤتمر بريتون وودز، إذ يقوم هذا النظام النقدي على أساس "قاعدة الصرف بالدولار الذهبي" وعلى أساس "مقياس التبادل الذهبي"، وبذلك تحول الدولار الأمريكي من عملة محلية إلى عملة احتياط دولية.

وبموجب أحكام الصندوق يجب على كل دولة عضو فيه أن تحدد قيمة تبادل عملتها الوطنية بالنسبة إلى الذهب أو بدولار الولايات المتحدة على أساس الوزن والعيار النافذين في أول يونيو 1944، أي الدولار الواحد يساوي 0.88671 غرام من الذهب الصافي.

وقد التزمت الولايات المتحدة أمام المصارف المركزية للدول الأعضاء بتبديل حيازتها من الدولارات الورقية بالذهب وعلى أساس سعر محدد وثابت وهو 35 دولاراً للأونصة، وبذلك تساوى الدولار بالذهب في السيولة والقبول العام به احتياطيا دوليا.

استمر العمل بهذا النظام حتى 15 أغسطس 1971 عندما أعلن الرئيس الأمريكي نيكسون من جانب واحد وقف قابلية تبديل الدولار إلى ذهب ولم يبال بالاعتراضات الدولية.

 

أكاذيب

 

نشر موقع معهد ميزس أو معهد لودفيج فون ميزس. وهو منظمة تعليمية معفاة من الضرائب تقع في أوبورن، ألاباما، الولايات المتحدة، تقريرا حول أزمة سقف الدين الأمريكي.

تجري المفاوضات حول زيادة سقف الدين الفيدرالي في واشنطن، وكما حدث عدة مرات على مدى السنوات العشرين الماضية، يستخدم الجمهوريون والديمقراطيون حاليا الزيادات في سقف الديون كورقة مساومة في التفاوض على كيفية إنفاق أموال الضرائب الفيدرالية.

إن ما يحدث حول سقف الديون هو عبارة عن مسرحية، حيث تنتهي المفاوضات دائما بزيادة سقف الديون، ويتم تكديس كميات هائلة من الديون الفيدرالية الجديدة، ويستمر الإنفاق الفيدرالي في دوامة تصاعدية. 

وأوضح المعهد أنه منذ آخر مرة حدث فيها نقاش كبير حول سقف الديون في عام 2013 تضاعف الدين الوطني تقريبا، حيث ارتفع من 16.7 تريليون دولار قبل عشر سنوات إلى 32 تريليون دولار في عام 2023. وخلال الفترة نفسها، زاد الإنفاق الفيدرالي بأكثر من 80 في المائة من 3.4 تريليون دولار في 2013 إلى 6.2 تريليون دولار في السنة المالية 2022.

ويرى المعهد أن الخلاف حول سقف الديون لا يهم صانعي السياسات في واشنطن بقدر ما يهم أن لا يتوقف "قطار خذلان دافعي الضرائب" أبدا، مشيرا إلى أن هناك العديد من الخرافات الكبيرة التي يتحمس صناع السياسات لتكرارها حول هذا الأمر، وذلك من أجل الاستمرار في إقناع الناخبين ودافعي الضرائب بأنه بغض النظر عن ما يحدث فإنه لا يمكن السماح بحدوث تغييرات كبيرة في الوضع الراهن للضرائب والإنفاق.

واستعرض المعهد في تقريره ما اعتبره خرافات كبيرة حول أزمة سقف الديون في الولايات المتحدة، وهي:

أولًا: الجمهوريون يريدون التقشف.

أوضح المعهد أنه عندما يستخدم سياسيو واشنطن كلمة "خفض" فإنهم عادة ما يتحدثون عن تخفيضات صغيرة في معدل الزيادة في الإنفاق، فإذا كان - على سبيل المثال - إنفاق البنتاغون يزداد بنسبة 2 في المائة سنويا (وهو بالفعل المتوسط خلال العقد الماضي)، فإن الزيادة في العام المقبل بنسبة 1.5 في المائة سيندد بها البعض باعتبارها "تخفيضا". ولكن الواقع - وفق المعهد - أنه ليس تخفيضا في الإنفاق ولكنه نقص في معدل الزيادة، لكن في أذهان صانعي السياسة في واشنطن، فإن أموال دافعي الضرائب هي حقهم، لذا فإن أي تباطؤ في تدفق الأموال المجانية يوصف بأنه "تخفيض".

بعد فترة ولاية أوباما الثانية، تسارع الإنفاق مرة أخرى خلال سنوات ترمب، حيث إنه ارتفع بعد ذلك إلى مستويات قياسية جديدة خارج المخططات وخاصة خلال حالة الذعر من كوفيد. وبطبيعة الحال، استمرت هذه الزيادة خلال سنوات بايدن حتى الآن، وسيتطلب إعادة الإنفاق إلى اتجاه ما قبل عام 2019 تخفيضات ضخمة في الميزانية يبلغ مجموعها أكثر من تريليون دولار للميزانية السنوية، وهو ما ليس مطروحا الآن.

وأفاد المعهد بأن الجمهوريين يسعون - بدلا من ذلك - إلى خفض طفيف في الإنفاق من تقديرات مكتب الموازنة في الكونغرس لعام 2023 البالغة 6.4 تريليون دولار إلى أقل بقليل من إنفاق عام 2022 البالغ 6.27 تريليون دولار. إضافة إلى أنهم يريدون تثبيت نسبة الزيادة في الإنفاق بنسبة 1 بالمئة كحد أقصى، وهي النسبة التي لن تكون ملزمة لأي إدارات أمريكية مقبلة في حال إقرارها، حيث إنه يمكن تخطيها تحت مسميات عدة، وفق المعهد.

 

لم تتخلف أبدا

 

ثانيا: الولايات المتحدة لم تتخلف أبدا عن سداد ديونها.

ذكر المعهد أن من الأمور المحورية في المناقشة الدائرة حول سقف الديون والميزانية، الزعم المتكرر كثيرا بضرورة اختتام المفاوضات على الفور لضمان عدم تخلف واشنطن عن سداد أي من ديونها، وهي كذبة صريحة، حيث تخلفت الولايات الأمريكية مرات عن سداد ديونها. 

وبحسب المعهد، فإن هذا بدأ في أعقاب الثورة الأمريكية عندما تخلفت الولايات المتحدة عن سداد القروض المحلية. وبعد وضع الدستور الجديد في عام 1790، أعادت الحكومة الفيدرالية التفاوض على الديون السابقة بشروط أقل مواتاة للمستثمرين، ثم كان هناك العجز عن سداد الدولار في عام 1862. وكانت الحالة الأكبر هي تخلف ليبرتي بوند عن سداد ديون عام 1934, عندما كانت الولايات المتحدة ملزمة تعاقديا بسداد ديونها على هذه السندات بالذهب، وقرر فرانكلين روزفلت التخلف عن سداد كامل الديون المحلية من خلال رفض اعادة الذهب للأمريكيين وخفض قيمة الدولار بنسبة 40 في المائة مقابل النقد الأجنبي.

ونقل المعهد عن جيسون زويغ، الكاتب الاقتصادي قوله إنه "في أبريل ومايو 1979، وسط أعطال الكمبيوتر، والطلب الشديد من صغار المستثمرين وفي أعقاب نقاش الكونغرس حول رفع سقف الديون، فشلت الولايات المتحدة في سداد مدفوعات في الوقت المناسب على حوالي 122 مليون دولار من سندات الخزانة".

أكد المعهد أيضا أن أي حديث عن التخلف عن السداد من شأنه أن يجلب تنبؤات بالدمار الاقتصادي، فبمجرد ظهور علامات المتاعب في الاقتصاد، يصطف "خبراء" النظام ليخبرونا بأنه ما لم يتم تمكين الحكومة من الإنفاق…. إلى ما لا نهاية على عمليات الإنقاذ و"التحفيز"، فإن الاقتصاد سينهار، وسترتفع البطالة، وسيترتب على ذلك الجحيم على الأرض، وهو ما قيل كثيرا إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008 على سبيل المثال.

واعتبر المعهد أن تلك هي نفسها تكتيكات التخويف التي يمارسها النظام في كل مرة يريد فيها سلسلة جديدة من عمليات الإنقاذ أو كمية هائلة من الإنفاق الجديد، حيث قال ترمب الشيء نفسه بشكل هستيري عندما طالب بتمرير "خطة إنقاذ" كوفيد البالغة 2.2 تريليون دولار.

وشدد المعهد على أنه قد حان الوقت للبدء في التشكيك في هذه الرواية ومطالبة الحكومة الفيدرالية بالبدء في أن تكون أكثر صدقا بشأن ديونها الجامحة وغير القابلة للسداد، حيث إن الدين الفيدرالي الضخم اليوم غير قابل للسداد، ولا يمكن التحكم فيه حتى وذلك لأنه مع ارتفاع أسعار الفائدة، تتضخم خدمة الديون.

 

صافي الفائدة

 

وفقا لتحليل أصدرته لجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة: "سيتجاوز صافي الفائدة الإنفاق الدفاعي بحلول عام 2028، والإنفاق على الرعاية الطبية بحلول عام 2044، والإنفاق على الضمان الاجتماعي بحلول عام 2050، ليصبح أكبر بند منفرد في الميزانية. وبحلول عام 2053، سيستهلك صافي الفائدة حوالي7.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.. وما يقرب من 40 في المائة من الإيرادات الفيدرالية".

ولفت المعهد إلى أن الإستراتيجية الوحيدة للحكومة الفيدرالية والتي يمتلكها الاحتياطي الفيدرالي للتعامل مع هذا الأمر هي تضخيم الدولار بالمال السهل من أجل إعادة أسعار الفائدة إلى الانخفاض وسداد الديون بالدولار المخفض، لكن يعد سداد الديون بالدولار المخفض نوعا من التخلف عن السداد، غير أنه يساعد في إخفاء الحقيقة.

وأضاف المعهد أن النهج الأكثر صدقا وعقلانية يتلخص في التخلف عن السداد صراحة، وذلك بدلا من محاولة تضخيم التزامات الديون بشكل غير أمين، حيث إنه يجب على الحكومة الفيدرالية الاعتراف ببساطة بأنها لا تستطيع سداد ديونها إلا بمبلغ مخفض: ولنقل 90 سنتا على الدولار، أو أقل. وبطبيعة الحال، سيؤدي هذا إلى ارتفاع أسعار الفائدة كما حدث في الماضي عندما عجزت الولايات المتحدة عن سداد ديونها، بيد أن هذه سيجعل عملية جعل أسعار الفائدة أكثر انسجاما مع المخاطر الحقيقية التي تصاحب الاستثمار في الديون الحكومية.

واختتم المعهد تقريره بالقول إن الوضع السياسي الراهن مبني على حماية المستثمرين من المخاطر بدلا من دافعي الضرائب الذين يدفعون جميع الفواتير في نهاية المطاف، وهذه الطريقة لتحويل الديون إلى تضخم جذابة للحكومات وتمكينها في وول ستريت لأنها تحول عبء الإنفاق الجامح إلى المدخرين والمستهلكين العاديين، فهم الذين يدفعون الثمن الحقيقي للتخلف عن السداد التضخمي، ولهذا فإنه عندما يصر الخبراء الذين يعارضون أي نوع من التخلف الصريح عن السداد على أن التخلف عن السداد من شأنه أن يجلب كارثة، فإن ما يقصدونه حقا هو أنه سيجلب كارثة لأصدقائهم في وول ستريت وفي الحكومة.

 

المخاوف

 

جاء في تحليل للاقتصادي والأستاذ الجامعي فلاديمير تريجوبوف:

كاد يفضي مستوى الدين الحكومي الأمريكي الحالي البالغ 31.42 تريليون دولار إلى تخلف الدولة عن الوفاء بالتزاماتها الحكومية إذا لم يرفع سقف الدين مجددا. وصفت وزيرة الخزانة جانيت يلين بوضوح وبطريقة سينمائية مخيفة عواقب التخلف عن السداد. قالت يلين: "سيلحق الإخفاق في الالتزامات الحكومية ضررا لا يمكن إصلاحه في الاقتصاد الأمريكي وسبل عيش جميع الأمريكيين وعدم الاستقرار المالي العالمي".

يبدو أن اهتمام يلين يقتصر على الأمريكيين والاقتصاد الأمريكي. لكن ماذا عن شعب اليابان الذي استثمرت حكومته 1.3 تريليون دولار في الدين القومي للولايات المتحدة؟ هل يأتي الصينيون في المرتبة الثانية بعد أن اشتروا ما يقرب من 900 مليار دولار من سندات الخزانة الأمريكية؟ يأتي بعد ذلك البريطانيون والبلجيكيون واللكسمبورجيون ودول أخرى أقرضت الأموال للولايات المتحدة من أجل تنمية الاقتصاد الأمريكي.

تتسم ميزانية الولايات المتحدة بعجز ثابت يغطيه الدين العام. في السنوات الأخيرة، ساهمت في هذا العجز عوامل كثيرة مثل الإنفاق العسكري ومكافحة الوباء وعواقب أزمتي 2008 و2020. يعتبر عجز الميزانية وسيلة مباشرة لتراكم الدين العام، والذي تجاوز بالفعل في الوقت الحالي 136.62 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. هذا هو أعلى مستوى للدين في العالم. أثناء قراءة هذا المقال سيزداد الدين بعدة ملايين أخرى من الدولارات.

مما يتألف الدين العام ومن هم مالكوه؟. يقسم مكتب الخدمات المالية في الولايات المتحدة الدين القومي إلى دين حكومي ودين عام. يتكون الدين العام بنسبة 75 في المئة من أذون الخزانة الصادرة على أساس قصير الأجل (مع استحقاق يصل إلى سنة واحدة)، وهذه ما تسمى أذون الخزانة. تستخدم على نطاق واسع من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لتنظيم كمية المعروض النقدي وكذلك من قبل الشركات لاستثمار "الرصيد النقدي" أي أنها أموال غير مطلوبة حاليا ويمكن استثمارها لفترة قصيرة من أجل الحصول على الدخل. تتبع ذلك سندات الخزانة وهي سندات ملزم دفعها في مدة تتراوح بين سنة إلى خمس سنوات، وكذلك سندات الخزانة طويلة الأجل، وهي سندات ذات آجال استحقاق في مدة تتراوح بين خمس إلى عشر سنوات أو أكثر. تتمتع كل هذه السندات بشعبية كبيرة، ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن أيضا في سوق رأس المال الدولي. السبب الرئيسي هو مدى موثوقيتها. في أوقات الأزمات كافة، حتى أثناء انهيار سوق الأسهم والكساد العظيم من 1929 إلى 1933، سددت حكومة الولايات المتحدة التزاماتها دائما.

في نظرية إدارة المحافظ الاستثمارية وتحليل المشاريع الاستثمارية، تسمى التزامات الحكومة الأمريكية: "الأصول الخالية من المخاطر"، وتصل احتمالية التخلف عن السداد أو مخاطر الائتمان إلى نسبة صفر، وهي نسبة تستخدم لمقارنة خيارات الاستثمار الأخرى وتقييم علاوة المخاطرة عند الاستثمار في الأسهم والمشاريع الاستثمارية وشراء العقارات وما إلى ذلك.

 

الأصول والمخاطر 

 

الأصول الخالية من المخاطر هي ببساطة الأصول التي تحمل نسبة مرجعية تقدر بصفر، وهو معيار لحساب علاوة المخاطرة التي يجب أن يتلقاها صاحب رأس المال إذا لم يستثمر في هذه الأصول واستثمر في الأصول الأكثر خطورة.

استطاعت الولايات المتحدة أن تقنع العالم كله بأن موثوقية التزامات ديونها مطلقة لأن لديها أكبر اقتصاد في العالم وناتجها المحلي الإجمالي أكبر من البلدان الأخرى، أي أنه لا يوجد أي خطر عمليا. بمعنى آخر ستكون الولايات المتحدة قادرة في كل الأحوال على تسوية ديونها مع حاملي سندات الخزانة الخاصة، وهذا ما أعلنته لجميع حاملي الأوراق المالية. لم يصدق الجميع ذلك بالطبع. أرسلت الصين مثلا وفدا رسميا خلال أزمة عام 2008 من أجل الحصول على ضمانات بإعادة 1.3 تريليون دولار. قدمت واشنطن الضمانات، ومع ذلك سحبت الصين أكثر من 400 مليار دولار من السندات. كما أن الدول النفطية الخليجية تتخلص منها حاليا.

إلا أن الحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم في حاجة إلى أصول للاستثمار من أجل الحفاظ على احتياطياتها وزيادتها، وظل الطلب على هذه "الأصول الخالية من المخاطر" مستقرا. طالما هناك طلب فلا يمكن للخزانة إلا أن تصدر ديون جديدة وتبيعها، ويحدث ذلك عادة بالمزاد.

لكن ما هو سقف هذا الدين؟ إلى أي مدى يمكنك إصدار السندات قبل أن يبدأ مستثمرون آخرون في الشك في جودة ائتمانهم؟.

لا يسمح هذا السقف لحكومة لولايات المتحدة بإنفاق إضافي، بل يؤثر على القدرة على سداد الاحتياجات الحالية من خلال تغطية "الفجوات النقدية" بين إنفاق الميزانية الفيدرالية والإيرادات (أي الضرائب).

لكن الفشل في رفع سقف الديون قد يترك حاملي السندات غير واثقين من قدرتهم على خدمة وسداد ديون الحكومة الفيدرالية. بعد ذلك، كما قالت يلين "الجدة" (كما يطلق عليها التجار في جميع أنحاء العالم) - "سوف يتسبب ذلك في ضرر لا يمكن إصلاحه في الاقتصاد الأمريكي ومعيشة جميع الأمريكيين، كما سيفضي إلى عدم الاستقرار المالي العالمي".

تتشابه مخاطر السندات الحكومية بطبيعتها إلى حد بعيد مع مخاطر إصدار النقود الورقية بغير غطاء. نحن نعترف بها أيضا كوسيلة للدفع والتسوية وأداة للادخار طالما اتفق الجميع على اعتبار هذه الأوراق أصولا ذات قيمة جوهرية مثل النقود الذهبية أو الفضية.

هكذا هو الحال مع السندات حيث يدعم المستثمرون ائتمان ثقة المقترض (في هذه الحالة المقترض هو حكومة الولايات المتحدة) وقدرته على سداد الالتزامات عند الطلب. لكن المصداقية تقاس من خلال التصنيف الائتماني الذي تحدده وكالات التصنيف الأمريكية الثلاثة: Standard&Poor›s - Moody›s Investor Services - Fitch. بالنسبة للالتزامات الحكومية للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وعدد من البلدان الأخرى فهي الأعلى من حيث التصنيف: AAA.

لكن الألعاب السياسية حول الزيادة في سقف الديون في عام 2011 هي على وجه التحديد التي أدت إلى حقيقة أن الوكالة الأكثر موثوقية: Standard & Poor›s خفضت التصنيف الائتماني للحكومة الأمريكية إلى AAA - ، مما تسبب في حدوث صدمة في القطاع المالي. ارتفع سعر الذهب إلى ما يزيد عن 2000 دولار للأوقية وانخفض الدولار مقابل العملات الأخرى.

أُعِد مفهوم "السقف" (غطاء الدين) في عام 1917 بالانتقال من الموافقة على إصدار واحد من السندات الحكومية، كما كان الحال من قبل، إلى الموافقة على مجموعات كاملة من السندات دفعة واحدة، مما سهل تمويل الأغراض العسكرية أثناء الحرب العالمية الأولى. في عام 1939 قدم الكونغرس الأمريكي لأول مرة مفهوم سقف الديون لمنح الخزانة حرية إصدار السندات. في ذلك الوقت، سمح رفع السقف للحكومة بالاقتراض لتغطية الفجوة بين الإنفاق الذي وافق عليه الكونغرس بالفعل وعوائد الضرائب. استمر الأمر دون وقوع حوادث حتى عام 1953 عندما حاول مجلس الشيوخ الأمريكي تقييد الرئيس أيزنهاور من المطالبة بمزيد من الاقتراض لتمويل تشييد الطرق السريعة في البلاد. منذ ذلك الحين، رفِع حد الاقتراض عشرات المرات لكنه صار في السنوات العشرين الماضية أداة للنضال السياسي. تمثلت الحلقة الأكثر لفتا للانتباه في هذا النضال في تخفيض التصنيف الائتماني لسندات الخزانة الذي حدث في عام 2011. أدى ذلك أيضا إلى خفض تصنيفات الجمهوريين وباراك أوباما حينما حاولوا الضغط من أجل سن قانون الرعاية بأسعار معقولة. وافق أوباما بعد ذلك على خفض الإنفاق بأكثر من 2 تريليون دولار على مدى 10 سنوات.

 

تغيير في زعامة العالم 

 

الآن تجاوزت الإدارة الأمريكية بالفعل الحد الذي حددته سابقا والبالغ 31.4 تريليون مما يجبر وزارة الخزانة على اللجوء إلى ما يسمى: "إجراءات استثنائية"، وتتمثل هذه الإجراءات في حجب المساهمات الدورية في صندوق معاشات الموظفين الفيدراليين لاستخدامها في استرداد السندات.

بمجرد استنفاد هذه الإجراءات، يمكن تطبيق تدابير أكثر صرامة من أجل سداد ديون الدولة، وهي تدابير نوقشت بجدية بالفعل في عام 2011، من بينها التأخير في المدفوعات لموظفي الخدمة المدنية وخفض عددهم ووقف دفع شيكات الضمان الاجتماعي.

المتحدث باسم الرئيس بايدن قال: "عدم سداد الديون سيغرق البلاد في الانهيار الاقتصادي والكارثة وسيمنح منافسينا مثل الصين دفعة تاريخية".

أليس صحيحا أن هذه القصة برمتها تشبه هرما ماليا أو فقاعة مالية؟ لكن هذه علامة أكيدة على حدوث تغيير في زعامة العالم.

 

التهديد بالمصادرة

 

كتب المحلل السياسي الروسي ألكسندر نازاروف يوم 27 مايو 2023:

معروف أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها قاموا بتجميد احتياطيات البنك المركزي الروسي، المستثمرة في سندات هذه الدول بقيمة تبلغ نحو 300 مليار دولار.

في الوقت نفسه، ترك هؤلاء الفرصة لروسيا لخدمة ديونهم من أرباح العملات الأجنبية الحالية، بهدف "إرهاق روسيا وحرمانها من قدرتها على تمويل الحرب في أوكرانيا"، بحسب مسؤولين غربيين.

ردا على ذلك، وقع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مرسوما غير ملزم، لكنه يسمح بدفع الديون الخارجية من قبل الهياكل الحكومية والشركات الخاصة بالعملة الروسية، الروبل.

وبالنظر إلى حقيقة مواصلة روسيا سداد ديونها، فإن سبب ذلك المرسوم كان على الأرجح الخوف من انهيار محتمل للعملة الروسية، أكثر منه رغبة في حرمان المستثمرين الغربيين من أموالهم كنوع من الانتقام.

ويبدو أن بوتين لا زال يرفض الدخول في وضع الحرب لتدمير الخصم، ويواصل الاعتماد على حقيقة أن الأزمة الداخلية، وعدم القدرة على استبدال الموارد الروسية، هو ما سيجبر الغرب، أو أوروبا على أقل تقدير، على العودة إلى طاولة المفاوضات، حيث يمكنه فرض شروطه.

وأصبح من الواضح أن روسيا لا تفتقر إلى العملة الأجنبية، بل على العكس من ذلك أدت الزيادة في عائدات الصادرات، وانخفاض الواردات، والقيود المفروضة على تدفق العملات الأجنبية إلى الخارج، إلى زيادة المعروض من الدولارات واليورو في البورصة، ما أدى بدوره إلى تعزيز الروبل الروسي بنحو مرتين بالمقارنة بسقوطه، فور بدء العملية العسكرية في أوكرانيا.

بشكل عام، أثبتت روسيا قدرتها على التعامل مع العقوبات والمحاولات الغربية الأخرى لتقويض اقتصادها. وحتى الآن، لم يظهر أي تهديد وجودي أمام روسيا، وهو ما يسمح لبوتين في الوقت الراهن بالامتناع عن الإجراءات الصارمة، والحفاظ على مساره السابق لإجبار أوروبا على التعاون والولايات المتحدة الأمريكية على التراجع. فوجود أوروبا بالنسبة لروسيا مفيد، ومن الضروري فقط إجبارها على الاعتراف بالحقائق الجديدة في أوكرانيا، وإزاحة حدود "الناتو" بعيدا عن الحدود الروسية.

إلا أنه، وبعكس روسيا، فإن هذه الحرب تحمل بالنسبة للغرب "ثمنا للقضية" أكبر بكثير من ذلك. فالحفاظ على روسيا يعني الانهيار التام للهيمنة الأمريكية، وخسارة الولايات المتحدة اللاحقة في حرب الحضارات أمام الصين وتفككها الذاتي.

في ضوء هذه الظروف، أصبح الغرب مضطرا إلى رفع رهاناته حتى حدودها القصوى، لتصل إلى مستوى "النصر التام بأي ثمن أو الموت".

يوم الأربعاء 25 مايو، سحبت الولايات المتحدة الأمريكية ترخيصا يسمح لروسيا، تحت ظروف العقوبات، بسداد مدفوعات ديون الحكومة الروسية لحاملي السندات الروسية من الأجانب.

وبطبيعة الحال، فلا يمكن أن يدور الحديث هنا عن إعلان أي إفلاس لروسيا بأي حال من الأحوال، حيث يتعين على روسيا، حتى نهاية عام 2023، أن تدفع مبلغا متناهيا في الصغر بالنسبة لها، تبلغ قيمته أقل من مليار دولار، وهو ما تستطيع سداده بسهولة. إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تحظر استلام تلك الأموال، لتؤكد، استنادا لهذا الأساس، على حقها في مصادرة الأصول الروسية.

في الواقع، أصبح الحد من قدرة روسيا على مواصلة الحرب ضد الغرب هدفا ثانويا للعقوبات، بينما برز الهدف الرئيسي لها وهو السرقة.

القضية التي نحن بصددها، في واقع الأمر، أكبر بكثير من العلاقة بين روسيا والغرب.

فلقد تراكمت الديون على الغرب على نحو ضخم للغاية، ولن يتمكن من سدادها أبدا، بل إنه أمر مستحيل حتى من الناحية الحسابية.

ويمر الغرب، في الوقت الراهن، بالمرحلة الأولية من التضخم المفرط، بينما يقترب التضخم في الغرب فعليا من 10 في المئة، أي أن المستثمرين يتكبدون خسائر تزيد عن 5 في المئة سنويا، حتى مع زيادة مدفوعات الفائدة على سندات الخزانة الأمريكية إلى حوالي 3 في المئة. علاوة على ذلك، فلم يتبق الكثير حتى يتدهور الأمر نحو الأسوأ، وسيهرب المستثمرون من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، الذين سيواجهون حينها مسألة سداد تلك الديون للكويت والعراق والمملكة العربية السعودية والإمارات واليابان وبريطانيا والصين وغيرهم، والذين دفعهم حظهم العاثر إلى استثمار احتياطياتهم في السندات الأمريكية والأوروبية.

إن الغرب، بشكل عام، يتخلى عن أسس النظام الرأسمالي، وتحديدا عن مبدأ حرمة الملكية الخاصة.

وأعني بذلك أن التغيير الذي نحن بصدده تغيير هائل، فالغرب يتصرف وكأن "يوم الغد" لن يأت أبدا.

لقد تحول الغرب، عشية انهيار هرم الديون، إلى السرقة العلنية جهارا نهارا للعالم كله، وروسيا ليست سوى الثمرة الأولى. سيتتبعها الصين، باستثمارات وقدرها 3 تريليون دولار في الأصول الأمريكية، وبعدها تتوالى السرقات، بما في ذلك أصول الدول العربية.

 

أمريكا تمتص رأس المال

 

منتصف سنة 2021 نشر موقع ناشونال إنترست الأمريكي تقريرا عن مشاكل الولايات المتحدة الاقتصادية جاء فيه:

ذكر يورغن أورستروم مولر وزير الدولة السابق للخارجية الدانماركية إنه من غير المستبعد عودة الأزمة المالية التي عصفت بالعالم عام 2008-2009، لافتا الانتباه إلى أن الولايات المتحدة تمتص رأس المال من بقية العالم لحل مشاكلها الاقتصادية المحلية، وتوقع ألا يكون ذلك متاحا المرة المقبلة.

ويوضح الوزير في مقال له أن إدارة الرئيس جو بايدن أطلقت أكبر توسع مالي على الإطلاق من خلال ضخ 1.9 تريليون دولار في الاقتصاد.

وأشار الكاتب إلى أن الولايات المتحدة تمتص رأس المال من بقية العالم لحل مشاكلها الاقتصادية المحلية. والمدينون الآخرون، وخاصة البلدان النامية، ليس لديهم الكثير من الخيارات، ولكننا نرى أن مدخرات هؤلاء المدينين يتم تحويلها إلى الولايات المتحدة رغم الضرر الذي يلحق باقتصادهم، والنمو الأعلى للولايات المتحدة يعني ارتفاع وارداتها، مما قد يساعد البلدان الأخرى، ولكن بشكل أساسي البلدان الصناعية والغنية بالموارد، مما يترك البلدان الضعيفة، الأقل نموا، بحالة ركود، وهي الأكثر احتمالا للتخلف عن السداد.

 

عمر نجيب

[email protected]