أشرت في ختام مقال ” إذا أرادت بلداننا تحقيق تنمية تحترم الهوية و القيم الإسلامية ، فينبغي أن تعتمد على مواردها الذاتية بعيدا عن شروط و إملاءات مؤسسات التمويل الغربية..” إلى أن الغرب و صل ل”سدرة المنتهى” في ملف الحريات الجنسية و الأسرية ، و الدور الأن على أمة العرب و المسلمين، التي إن أرادت التنمية و الحرية و الديموقراطية و الاستقرار فعليها الخضوع لإملاءات الحكومة العالمية المتعددة الجنسيات و المتعددة “الهويات الجنسية”، و الامتثال لأدواتها المالية و الاقتصادية “البنك الدولي” و “صندوق النقد الدولي” و “الشركات العابرة للحدود” مالكة الأموال و التكنولوجيا المتطورة، فلن تحصل الحكومات على القروض و التسهيلات الائتمانية و لن تحصل على دولار واحد إذا “لم تنزل السروال”..إذن إذا أرادت بلداننا تنمية تحترم الهوية و القيم الإسلامية ، فينبغي أن تعتمد على مواردها الذاتية و على تمويل وطني غير مشروط بإملاءات غربية، فهل حقا نحن قادرين على سلك هذا المنحى ؟!
وبيت القصيد هو أننا في بلداننا العربية نعيش إشكالية جوهرية و معضلة تحتاج لجهد كبير لتجاوزها ، ففي الوقت الذي أصبحت التفاهة و الضحالة قانون عام ساري المفعول لدى غالبية الجمهور ، و أصبح الفساد المنظمة الوحيدة المهيكلة والتي لها قانون خاص وشبكة عمودية أفقية تشتغل بكفاءة جديدة و مثمرة لأصحابها ، نجد أن هذه المجتمعات تفتقد للرأس ، و أن النخبة التي من المفروض أن تكون قائدة التغيير و الإصلاح و الانتقال ، نجد أن هذه النخبة مستلبة وفاقدة للبوصلة، فالتغيير يتطلب نخبا واعية و مدركة لحجم المخاطر و أيعادها ، نخب وطنية أصيلة ذات دراية و نزاهة و أهلية و إنتماء حقيقي للبلد و أهله ، و ليس لنخب تتاجر في مأسي الناس و معاناتهم و تستغل جهلهم أو حاجتهم، وتجعل من معاناة الجماهير المسحوقة و المحرومة من الحقوق المدنية و السياسة و الاقتصادية و الاجتماعية سلما لتحقيق المغانم و المكاسب..
فأزمة مجتمعاتنا ليس نذرة الموارد أو شح الحلول و الخيارات و نقص البدائل و الفرص، و إنما الإشكال غياب القيادات المصلحة و المؤهلة لقيادة أوطانها نحو بر الأمان و توسيع خيارات شعوبها بدل العمل على تضيقها .. و لتوضيح وجهة نظري سوف أنتقل بالقارئ الكريم إلى الاتفاق الثلاثي الذي أبرم يوم الجمعة 10 مارس 2023 بين إيران والمملكة العربية السعودية برعاية صينية و الهدف منه إحياء العلاقات الدبلوماسية الطبيعية وإعادة فتح سفارتيهما في غضون شهرين. وجاء الاتفاق في نهاية أسبوعٍ من المفاوضات التي توَسطَت فيها الصين في بكين، وأنهت الخلاف بين الحكومتين منذ أن قطعت السعودية العلاقات في عام 2016.
والاتفاق كما جاء في نص البيان الثلاثي السعودي الإيراني الصيني هو ” إستجابة لمبادرة كريمة من فخامة الرئيس شي جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية بدعم الصين لتطوير علاقات حسن الجوار بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية” و الاتفاق ثمرة لجولة من المباحثات بالعاصمة بكين إمتدت من 6 – 10 مارس ، و ضمت وفدي المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية برئاسة الدكتور مساعد بن محمد العيبان وزير الدولة عضو مجلس الوزراء مستشار الأمن الوطني في المملكة العربية السعودية، والأدميرال علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.لكن هذه الجولة قد سبقتها جولات أخرى بين الجانبين خلال عامي 2021 – 2022 في كل من العراق وسلطنة عمان
وبموجب الاتفاق فإن الدول الثلاث توصلت إلى اتفاق يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران، ويتضمن تأكيدهما على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، واتفقا أن يعقد وزيرا الخارجية في البلدين اجتماعاً لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما، كما اتفقا على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، الموقعة في 17 / 4 / 2001 والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، الموقعة بتاريخ 2 / 5 / 1998. وأعربت كل من الدول الثلاث عن حرصها على بذل كافة الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي…
وبنظري ، فإن استئناف العلاقات الطبيعية بين إيران والسعودية ضرورة حتمية ، لأن قطع العلاقات الدبلوماسية و الصراع بين البلدين و التصعيد المتبادل لم يفضي إلى نتائج إيجابية بالمطلق على البلدين أو بالأحرى النظامين ، فمغامرة النظام السعودي في اليمن شهدنا جميعا ما حققته ، فلأول مرة في تاريخ المملكة أصبحت بلاد الحرمين و منشأتها الحيوية تحث قصف الحوثيين ، أما في الجانب الإيراني فقد رأينا حجم المظاهرات الشعبية التي شهدتها إيران منذ شهور إحتجاجا على سياسات النظام الإيراني و على الوضع الاقتصادي و الاجتماعي المتردي ..فالاتفاق أوضح لنا أن هذا التاريخ الازلي من الخلاف الوجودي والعقائدي و هدر موارد الشعوب و مقدراتها ، لم يكن خلافا” حقيقيا” بل هو خلاف سلطوي سياسي مرتهن بالمتغيرات الإقليمية ..
ولكن لا بد في هذا السياق أن نشيد بالدور الإيجابي الذي لعبته وساطة الصين و الدور البناء الذي يمكن أن تؤديه القوى الكبرى في بعض الأحيان في الشرق الأوسط.، كما أن هذا الاتفاق مؤشر على تغير في موازين القوى و خروج تدريجي لأمريكا من المنطقة و دخول متصاعد للصين …
وقد أشرت في أكثر من مناسبة و تحديدا بعد إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على اغتيال “قاسم سليمان” و رفاقه في العام 2021 بالعاصمة العراقية بغداد ، و ما ترتب عليه من رد فعل قوي بداخل إيران و “شيعة” العراق، و بغض النظر، على حجم الرد الايراني و نوعيته، و السلوك الأمريكي العدواني القائم على القتل و الاغتيال خارج نطاق القانون الدولي…إلا أن هذه الأحداث لها تبعات و ذيول أكثر مما تروجه البيانات و تُسَوقه وسائل الإعلام، فالمتضرر الحقيقي ليس النظام الايراني أو الإدارة الأمريكية، فكلاهما قدم للأخر طوق نجاة من أزماته الداخلية، فالمتضرر الفعلي من المواجهة هم شعوب المنطقة، وخاصة بلدان الخليج..
ومن دون شك، أن ما يحدث في العالم العربي هو مأساة و تراجيديا مؤلمة.. و هو بنظرنا، نتاج لنوعية الحكام الذين حكموا العالم العربي، وكَأَنَ دورهم الأساسي إضعاف شعوبهم و تعريض بلدان المنطقة للإحتلال و التدخل الأجنبي السافر، ونسف كل عناصر القوة و أوراق الضغط التي تملكا شعوب الاقليم، فالبلدان العربية و الإسلامية مفتاح أساسي في السياسة الدولية لمعظم القوى العظمى بما فيها الصين، و ذلك بفعل العوامل التالية:
– العامل الجيوستراتيجي : المنطقة العربية و الإسلامية توجد في مركز العالم، و التحكم في هذا المركز يمكن القوة العظمى المتحكمة من فرض شروطها على باقي القوى الدولية ..
– العامل اقتصادي: المنطقة غنية بالموارد الطبيعية الضرورية لحركة الاقتصاد العالمي ، العامل الثقافي
– العامل الثقافي :المنطقة حامل لحضارة مغايرة للحضارة الغربية ذات التوجه الليبرالي فبعد فشل الأطروحة الشيوعية واكتساح القيم الليبرالية لأغلب أقاليم العالم، فإن المنطقة العربية والإسلامية لم تستسلم للوافد الجديد بل لازال هناك تيار قوي بداخل هذه المجتمعات يرى في المنظومة الثقافية البديل للمنظومة الثقافية الغربية ..
فهذه العوامل التي من المفروض أنها نقاط قوة بيد أهل المنطقة، أصبحت بفعل غياب إدارة إقليمية رشيدة لمكونات القوة، منطقة هشة و شبه فارغة مفتوحة لكل ابتزاز أجنبي.. إن موقف البلاد العربية و الإسلامية على وجه العموم، هو تجسيد للمثل الشائع ” أُكِلْتُ يوم أُكِل الثور الأسود..” إن تفريط البلاد العربية في أمن بعضها البعض، و تحالفها مع قوى أجنبية ضد بني جلدتها جعلها مجالا مفتوحا لكل أشكال الابتزاز، كما أن اعتماد النظم الحاكمة على المظلة الخارجية للبقاء في كراسي الحكم و معاداتها لشعوبها، جعل موقف هذه الأنظمة ضعيفا من ناحيتين:
أولا- فهي أنظمة عارية من كل شرعية، لذلك لا تستطيع مواجهة الأجنبي الذي يدرك افتقارها لحاضنة شعبية تحميها ضد الابتزازت الخارجية ..
ثانيا- أنها فاقدة للإرادة فهي لا تستطيع العودة لشعوبها، فالشعوب فقدت الثقة في هذه الأنظمة و تنتظر لحظة زوالها بفارغ الصبر..
من دون شك، أن الوضع الحالي للمنطقة العربية جد معقد و أن حجم التهديدات يتسع، لكن مع ذلك هناك بدائل تدعو إلى التفاؤل، إن قوة المنطقة اليوم ليس فيما تملكه من أسلحة.. فمهما يكن حجم هذه الأسلحة فهو لن يضاهي ما تتوفر عليه القوى العظمى. لكن قوتها – المنطقة العربية – تكمن في إرادة الشعوب و ثباتها العقائدي، فشعوب المنطقة رغم حالة التجهيل و التفقير الممارس عليها من قبل أنظمة غاشمة تحظى بغطاء أجنبي .. إلا أن هذه الشعوب لازالت تؤمن بأحقيتها في تقرير مصيرها ، فالجميع يتذكر ما فعله الشعب الصومالي و اللبناني بالجيش الأمريكي ، و ما فعلته الفلوجة و المقاومة العرقية في جيش الاحتلال الأمريكي و حلفاءه، و كيف انتفض الشعب المصري و التونسي و السوداني و الجزائري و اليمني و العراقي..من أجل التغيير و الخروج من دائرة التخلف و التهميش و التبعية المذلة للأجنبي ..صحيح أن التغيير المنشود لم يكتمل بعد بفعل تكالب قوى محلية ودولية رافضة للدمقرطة، إلا أن حركة التغيير ستنجح في تحقيق أهدافها، لأن نقطة ضعف المنطقة في أنظمتها الحاكمة المتهالكة، العاجزة عن بناء أي قوة ذاتية باستقلال عن الوصاية الأمريكية أو الأجنبية عامة..
فالتحدي أصبح بين أيدي الشعوب التي بإمكانها تغيير قواعد اللعبة محليا و دوليا، و التحدي الذي يواجه المنطقة هو تحصين الجبهة الداخلية وتحرير الإرادة الشعبية وبناء نظم اقتصادية وسياسية و اجتماعية عادلة و معبرة عن إرادة الناس، و نبذ الفرقة المصطنعة بين الشعوب العربية والإسلامية ففي الوحدة و التكتل الاقتصادي و العسكري قوة، و بمثل هذا المجهود الجمعي يمكن بناء عناصر القوة التي بمقدورها وقف كل قوة معادية
و مصالح بلدان الاقليم هو خلق بيئة سلمية على امتداد الإقليم العربي و الإسلامي ، و تعزيز التعاون الاقتصادي والتنموي و مكافحة الفقر و التهميش، بدلا من إنفاق ملايير الدولارات من أموال هذه الشعوب المغلوب على أمرها، من أجل تكديس أسلحة ، نعلم جميعا أنها لن تحقق الأمن و السلم …كما أن التحدي هو الاعتراف بالواقع البئيس الذي تمر به المنطقة، وان هذا الواقع هو نتاج للاستبداد وتغييب إرادة الشعوب، ومن تمت التخلي عن شعارات الحرب الطائفية و البحث عن القواسم المشتركة بين الشعوب و الدول و ما أكثرها ..
كما ينبغي الإشارة إلى أن محاولة مواجهة إيران بالسلاح هو أمر مجانب للصواب ، فمواجهة إيران يكون بتغليب منطق الوحدة و الحوار مع الجار الإيراني، و تعزيز التعاون العربي –عربي و العربي – إسلامي، وبدلا من إنفاق الملاين في تكديس الأسلحة وطلب الحماية الأجنبية، نتمنى تفعيل التعاون الإقليمي و احترام قواعد الجوار..فأين المشكلة بالنسبة لنا كعرب و مسلمين إذا حصلت إيران على سلاح نووي؟
لنسعى بدورنا إلى الحصول على نفس السلاح والسوق مفتوح و الدولارات متوفرة، فهل الأمر جائز لإسرائيل و حرام على إيران أو السعودية او مصر…؟؟ فالعداء العربي – الايراني عداء غير ذا معنى..
و في الختام، نأمل أن يلتقط قادة المغرب و الجزائر الرسالة و يعملوا معا على التوصل لإتفاق ثنائي أو ثلاثي لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما و فتح الحدود البرية و البحرية و الجوية.. و سأجعل هذه الجزئية محور المقال القادم إن شاء الله تعالى..والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق ٱسيوي. أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…
الدكتور طارق ليساوي