لعل العنوان اعلاه، يحيل القارئ الكريم الى المقال الرائع للكاتب /محم ولد الطيب/ المنشور في موقع موريتانيا، تحت عنوان" الذات العربية الراهنة في ظل تزاحم الحضارات"، وهو مقال يمكن اعتباره مقال السنة ـ 12 شهرا ـ لتميزه من جهة الاسلوب، والتحليل، والافكار القيمة، ويستحق وضعه ضمن المقالات المتفردة التي تحرص المواقع على نشرها وتثبيتها طيلة الاسبوع، أو الشهر، ولم يدفعني الى هذا التقييم، والتقدير معرفة بصاحب المقال، ولا المبالغة في الترويج لاغراض دعائية، وما على الذين نازعهم الشك في هذا التقدير، إلا أن يراجعوا المقال بالنظر الى ما كتب من مقالات، ليس في موقع واحد، فحسب، بل في جميع المواقع الافتراضية الموريتانية، وما اكثرهم، وأقل فائدة ما يكتب فيها من المقالات التي تطرح غسيل الدعاية الهابطة لاصحابها، ثم للمطربة، المغنية الوحيدة التي يتراقصون، ويتمايلون، ويستعذبون كلما صدر ـ ويصدر ـ عنها، بدلا من طرح اشكالات المجتمع الموريتاني، ومجتمعات الأمة في حاضرها، ومستقبلها،، لأن الذي يتدافع في وعي كتابنا من دوافع، وغايات، هو أن كلا يغني على ليلاه، حتى يصله التعيين، وبقدر ما يكتب عن محاسنها،،والاستماتة في حراس المحاريب والجيفان من سدنة السياسة،، بقدر ما يستحق من توزير، وتعيين، وحظوة، وغيرها..
وهناك اتجاه في المواقع الافتراضية، يجتر، ويستنسخ مما كتبه غيره في عصر النهضة العربية الاسلامية الأولى دون أن يكون لديه هدف واضح، غير اسقاط الاحكام القطعية، وفق مقاسات يقيسها، وهو بالكاد مفقوء العيون، ولذلك، تراه يرقع في مكان، والرث ذهب بالاسمال التي لا ينفع فيها، إلا استبدال "القشابة"، و " الملحفة" بغيرهما من ثياب بذوق، وزينة العصر، ذلك أن بعض القراء قد يحتاج الى هذا التوضيح، أكثر من اهل الفكر الناسخين، ناقلي فكرنا التراثي على المواقع، وقد يصح في وصفهم بأولي القياس التمثيلي، والتشبيهي، وهو " أخس القياسات" على حد تعبير المناطقة.
وهل من فاحص لما يرقع به أولئك المرقعون، الثقافة العربية، والمجتمع، والظروف الحضارية، وهي غير قابلة للترجيع بالترقيع اصلا، وفرعا؟
لأن المصادرة ، او الاستعارة من فكر النهضة في عصر النبوة المحمدية، وغيره يراد من الترقيع بها، تقمص افراد مجتمعات اليوم، لمشاهد واسترجاع لحظات من اجمل فترات التاريخ العربي دون ريب، لكن استعادتها عصية، ومن يحاول ذلك، كالذي يحرث في البحر، وكمن يعتقد أنه يستحم في النهر المتدفق بذات المياه كل يوم على رأي فيلسوف الصيرورة، وينظر على ضوء ذات المشكاة، ويتقدم خطوات نحو ظرفة مكتبه ليجلس، ويستقبل المعلومات من حاسوبه، لا بآلية منهجية، وحتى طريقة جلوس صاحب النصوص الاصلية التي تناقلتها أجيال الأمة على رفوف المكتبات، وشكلت تاريخا ثقافيا، ورافدا من حصاد النهضة العربية، لتشكيل وعي الأجيال في النهضات التالية، وليس بالهين ـ بأي حال من الأحوال ـ استرجاع التاريخ، كما نسترجع الصفحة السابقة في قراءتنا على واجهة "الحاسوب"..
وهذه المفارقة لا تظهر للمستعيرين من اشباه "الوجوديين" في هذا الرهط من كتابنا، ولا يقابلهم من " الصيرورة" إلا، أصحاب المقالات اليتيمة، كمقال الزميل محم ولد الطيب ..
لقد كان المقال الذي اتحف به الكاتب قراءة من أجمل ما قرأت في المواقع الافتراضية منذ فترة، وبدلا من استرجاع ما ورد فيه من افكار في غاية الأهمية، أطالب بقراءته أكثر من مرة، وكل قراءة ستكشف عن بواكير الفكر المعاصر، والاهم من ذلك طرح الإشكالات التي ينبغي الاهتمام بها، والمساهمة في نقاشها، وذلك لتوجيه الرأي العام حول ما يستحقه الواقعان: الاجتماعي، والثقافي الحضاري من التفكير فيهما من اجل الخروج من النفق المظلم الذي تكوم في زواياه المهمة المستوى السياسي، والثقافي الخاص، والعربي العام.
ولعل الإشارة الى "صراع الحضارات": في عنوان مقال زميلنا، تحيل هي الأخرى الى الصراع الايديولوجي المغيب عمدا، وغصبا عنا في الفعل السياسي العربي، وفي الحراك الاجتماعي السياسي الوطني والقومي، كما استخلص الكاتب في تحليله، وفي استكناه المسببات للتخلف السياسي العربي، كواقع مستديم، ولعل الزميل، لم يرد الاطناب في الاشارة للدور الامبريالي في تصفية التجارب السياسية العربية منذ منتصف القرن الماضي، حيث استأنفت المشروع النهضوي بالتحرر السياسي، والتغيير الاجتماعي، والاستقلال السياسي، والثقافي، والاقتصادي، وذلك في إطار رؤية واضحة المعالم، نلخصها في مقولة، أن" للحضارة وقودا، زيتا يستضاء به، وهي به قابلة للانتقال، لكنها غير قابلة للنقل" وما في معناه على رأي جمال عبد الناصر، فالانتقال، يقوم على أساس مطالب المجتمع ثقافيا، لكن النقل الحرفي، لا ينتج، ولا تستولد منه مداميك المشروع الحضاري المطلوب، لأن الغاية المتوخاة ليس التماهي مع المشروع الحضاري للآخر: الغرب..
ومن هنا جاءت الدعوة الملحة في الاقتباس السابق، كما في مقال الزميل لمشروعية التفاعل مع حضارة الغرب في الفكر الفلسفي، والفكر العلمي، وليس التجارب السياسية في الغرب التي "فرخت"، فقست في بلاد العرب الاحزاب القبلية، والجهوية، وأحالت البرلمانات، ومجالس الشيوخ الى تجمعات للأعيان من رؤساء القبائل، والمشرعين ـ في البرلمانات ـ كممثلين فاشلين في لعب أي دور، كما الاحزاب القبلية التي أقصت دور النخبة من رموز الطبقة المتوسطة اعتقادا غير صادق من الغرب أن المجتمعات العربية ـ والموريتاني منها على وجه الخصوص ـ طبقية، وبالتالي تستطيع الطبقة المتوسطة قيادة التغيير على غرار ما قامت به في المجتمعات الحديثة في القرن التاسع عشر، وفي المجتمعات المعاصرة في القرن العشرين. بينما المثقفون العرب، قاموا بانتفاضات في بداية العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، ولم يستطيعوا إلا أن يتولوا مدبرين بعد سقوط النظامين في تونس ومصر، تاركين التغيير لوكلاء الغرب يعيثون الفساد، والخراب والحروب الأهلية المدمرة لمجتمعاتنا العربية..!
نعم، لاستئناف الاحتكاك الحضاري وفق التصورات التي تحمل مشاريع التغيير الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، وتجاوز مطبات عصر الانفتاح الذي قاده الغرب بمشروع اتفاقات "كامب ديفيد"، حيث تراجع المشروع النهضوي العربي، جراء اقصاء الفعل السياسي التغييري ب"العولمة" الامبريالية، وأدواتها الخداعة المغيبة لوعي المواطن العربي، والعقل السياسي الجمعي العام، وذلك بمخدر"الثورة الرقمية" وتداعياتها على الاجيال العربية الحالية، وتشكيل العقول على المستهلكات، وتعطيل العقل الابتكاري، والمنتج، وتغليب الكماليات على الضروريات من مطالب الفرد، والأسرة، والمدرسة، والمجتمع..
وإذا كان مفكرو النهضة العربية الاسلامية الأولى، ركزوا على الفكر الفلسفي اليوناني، وذلك للاستفادة من التنوير العقلي الذي أسس على التعريب الاداري، الدواوين، والمواصلات البريدية، وغيرها، واستغرق الأمر عصر الامويين، خلال مائة سنة وزيادة، وطالت الترجمة في العصر العباسي مباحث الفكر النظري والعلمي، فأسست لنقلة نوعية في مناهج البحث،، وظهرت الحركة النقدية متزامنة مع حركة التأليف التي انشغل اصحابها بالبحث في قضايا الفلسفة الاولى:العلة الاولى، "واجب الوجود"، الخير المحض، والعلل المادية، وخلود الروح، وفناء الجسم، واسبقية الماهية على الوجود،، وتأثير الكون الخارجي من افلاك، وبيئات، على الذهنيات الحضارية في تباينها، وتعدد ثمراتها الفكرية، والموزعة فى فكري مثقفي المجتمعات العربية الاسلامية، وهم الذين رفدوا المركب الحضارى الذي استقام سامقا، شامخا في الأعالي بضيائه الوضاءة والأبعاد الفكرية، و الحضارية التالية في حضارة الغرب..
فإن مثقفي مجتمعات الامة العربية مطالبون بالحث في الفكر الغربي القديم، والحديث، والمعاصر عن الاجابة التي تفيد العرب لحل الاشكالات الحضارية، وذلك لتجاوز المعطى السابق في التاريخ النهضوي الذي شكل "أريكة" للتخدير فى الحاضر الذي اخترقت تحدياته، سقوف وجداريات حضارات العرب، وأحالتها الى ما يشبه " المومياء"، الأمر الذي يتطلب العودة الى قراءة جديدة ل"جمهورية افلاطون"، وغيرها في بعدها الفكري بحثا عن المؤشرات الحضارية في الكتب الثلاثة من الجمهورية التي بحثت في أصول العدالة، على أن نهمل منها ـ الجمهورية ـ المتعلق بهيكلية الدولة في الكتاب الرابع، واشكال النظم السابقة في الكتابين الثامن، والتاسع..
كما أنه من المهم التذكير بأن العقل السياسي الموريتاني ـ والعربي عموماـ وهو الواعي بمطالب الواقع الاجتماعي، والسياسي، والحضاري، يرفض تسويغ الطرح الافلاطوني، والغربي المعاصر معا، والمروج له امبرياليا، وذلك لقبول، وبالتالي الخضوع لما اسماه افلاطون " الحكومة الانسانية" الموحدة، لأن ذلك يعني ببساطة أن المتضادات يعيش بعضها على الآخر ـ المتقدم على المتخلف، القوي على الأضعف منه، المستعمر على المحتل أرضه ـ بقدر قوته على غيره على رأي سقراط في محاورات أفلاطون.