كنت على موعد مع الأصدقاء يوم غد السبت على الساعة العاشرة، وذلك من أجل الشروع في بناء مدرسة الشهيد محمد الأمين دندو في المقاطعة السادسة، وتمت التوصية بالحضور في الغد الباكر في آخر لقاء لخليتنا الناصرية في المقاطع الخامسة، وكان الاجتماع في منزل الصديقة "الشيخ بويا" و والدتها - رحم الله من ارتحل، وأطال عمر الباقي منهما - ، وفي صباح الغد استيقظت باكرا، وبعد صلاة الفجر، لم ارجع إلى النوم، كعادتي، وبقيت اشغل نفسي بالاستماع لقراءة الوالد -رحمه الله - للقرآن الكريم، وكثيرا ما توقفت عند بعض المعاني العميقة في الآي الكريم، وقيمة اخباره تعالى عن الاولين في القصص التاريخية..
ومن حين لآخر ، كنت ألتفت على عقارب الساعة، ولما اقتربت الساعة الثامنة، ذهبت لاحضر الخبز من المحل القريب، المقابل، ل "حنفية" المقاطعة السادسة الواقعة في تقاطع الشارع مع الزقاق الضيق الملتف يسارا، حيث كان منزلنا هناك،،
وما إن رجعت، حتى بدأت باعداد "الشاي"، فقال الوالد رحمه الله تعالى، لعلك تنوي الذهاب اليوم إلى كرو، لأن هذه التبكير على الشاي، وإحضار الخبز ما تعودناه منك منذ أن قدمت من المغرب، ثم سألني هل أقترب موعد رجوعك إلى المغرب؟
فقلت له، لا، لن اذهب الى كرو دونكم - رغم أني ذهبت بعد أيام في زيارة خاصة - وأما العطلة، قد تنتهي بعد شهرين، لارجع للمغرب، واحسست بارتياحه لذلك الخبر..
واردفت قائلا، إن التعليم النظامي عودني على اليقظة في الصباح، والنهوض باكرا،، وهذه سنة جيدة، أليس كذلك؟
وكأني به احس بالتبخيس من جهوده المضنية خلال تعليمه لي ، فقال: هل نسيت انك كنت تستيقظ قبل الفجر حين تعلمك للقرآن الكريم؟
فبدأت ابحث عن مبرر، ولو انه سخيف، بأني قصدت هذه الفترة الحالية.
وقال: إلى أين أنت ذاهب اليوم، حفظك الله، ورعاك؟
قلت: ربما اذهب الى وزارة التعليم، لعلي أجد منحة دراسية من دولتي، افضل لي من الدراسة على حساب دولة أخرى..
قال: احذر من نظام ولد هيدالة، واياك والنقاش في السياسة، ف "الهياكل لتهذيب الجماهير" قالوا ان جواسيس النظام مندسون في تجمعاتها، وفيهم الاطفال، والنساء، والرجال، ويتواجدون في الأماكن العامة، و المساجد، كما "ينكال"عنهم.
ولما انتهى الشاي على دردشة من هنا وهناك، خرجت متوجها إلى مكان المدرسة الذي لم أكن اعرف عنه، وقد قيل لي بالأمس انه قبالة مصنع الآجر،، واقتربت من المكان الذي كان به حشدا من الشباب، والفتيات إلى جانبه الكثير من" الآجر" المكدس، فعرفت انهم اصدقائي بمشاهدتي ل"محمد الشيخ" ولد سيدي محمد، و"زينب" بنت امياه، و"فاطمة" بنت اخليل رحمهما الله تعالى، ولعل معظم افراد خليتنا الفكرية حضر والباقي وصل بعد ذلك تباعا.
وبدأ الجميع في حركة عمل نشطة، الشباب، والفتيات، وكان اكبر الجميع عمرا، واحضهم على العمل، ومحاولة التعرف على كل واحد، وواحدة، والتفاعل مع الجميع ،، الراحلة فاطمة بنت امياه، وذات مرة، حاولت إحدى الفتيات رفع لبنة، فقالت لها، ارفعي اللبنة، وضعيها على اللبنة التي يحملها هذا الخوان، صاحب كرو، مشيرة إلي..
وضحكنا جميعا من هذا الهجوم اللفظي الذي حمل معان الدعابة، والتحفيز لتكسير الحواجز النفسية بيننا.
وبينما نحن في عمل جماعي، تخللته الدعابة، والتوجيه المشترك ، وفجاة توقف الجميع، واتجه نحو سيارتين قدمتا من جهة سوق المقاطعة السادسة الذي حل مكانه مركز حاكم المقاطعة اليوم، ونزل من أحداهما المرحوم الرشيد ولد صالح تغمده الله بواسع رحمه، ولعل السيارة الثانية، لطاقم اعلامي، او امني،، ولم أكن مهتما بمن فيها بقدر اهتمامي بالسلام على تلك القامة الناصرية التي كنت اسمع عنها، وحصل السلام معه بالأيدي خلال تلك الصدفة، ليكون اول لقاء، وآخره معه، رحمة على شهداء الناصريين .
وبعد وقت قصير غادر الرشيد في سيارته،، وخلال ساعتين، ارتفعت درجة حرار ة حزيران في نواكشوط،، وغادرنا لنعود يوم الاثنين الموالي..
فمن تعرفت عليه غير الرشيد رحمه الله؟
كان ذلك اللقاء، والعمل التطوعي مناسبة لمعرفة من هو محمد الأمين دندو، والعمل على تخليد ذكراه ببناء المدرسة باسمه، لتكون اول مدرسة تم تشييدها بقواعد الناصريين والناصريات من أجل أبناء الوطن..وشهداء الناصريين.
وهذا التخليد، يعدا تجاسرا لحركة سياسية خارج الحكم، وهو الأول لها، و الأجمل الذي تختزنه الذاكرة للناصريين، وفاء لشهدائهم،، ولكنه من العوامل التي سرعت بالصدام مع حكم الطاغية هيدالة..
لكن الحقيقة التي يجوز البوح بها بعد حوالي أربعين سنة، تأتي كمحاولة للتخلص من ضمير التأنيب الذي بقيت محكمته تستدعيني من حين لآخر ،،
ولعل الاعتراف يكون من جملة الاعترافات النفسية المريحة - على رأي الاستبطانيين - في هذه المناسة المخلدة للشهيد، مستعيذا بالله، ومن شيطان الضمير لارتياحي سابقا لسقوط طائرة "ولد بوسيف" ، وكنت حينها في المغرب، وقد حزن البعض من أبناء المنطقة -كيفه- على موت ولد بوسيف، وكان حدادهم عليه غباء، لأنه تمثل في الامتناع عن تناول الغداء يومها، بينما كان اعتقادي، أن التخلص من أحد اعوان فرنسا، هو في صالح الوطن،، ونظرا لهذا التفرد في الموقف، كنت الوحيد الذي تناول الغداء، وبشهية زائدة في مطعم الثانوية، وحين سألني المشرف على المطعم - في ثانوية القرويين بفاس - عن زملائي، وأسباب غيابهم عن الغداء، فقلت له بكل صراحة، انهم في حداد على عميل فرنسي سقطت به الطائرة ،، ونال جزاءه في بطن واحد من حيتان بحر الظلمات قبالة مطار العاصمة السنغالية..
ولم أكن لحظتها اعرف، أن في تلك الطائرة الشهيد محمد الأمين دندو، والا كنت، أقمت له حدادا من نوع آخر..
ولعل الكتابة اليوم تخليدا لذكراه، تخفف من غلواء محكمة الضمير التي تساوي بين العارف باسرار الحوادث، والجاهل بواقعة استشهاد شهيد الناصريين الذي حظي بالتخليد ماديا ومعنويا...انه محمد الأمين دندو.
فمتى يكون للكتابة دورها في مجال التخفيف من وخز الضمير- كما يقال - ؟