الجزء الخامس : السفر الى مدينة انواكشوط
إذن فدعنا من كل ما سبق ذكره ولنترك فلسفة الحياة تمر كما أراد الله لها أن تمر ، وذلك لكو ن الحديث في شأنها لم يحن بعد الوقت المناسب لليفهمه المجتمع ويقدره وبالتالي يتقبله كما يجب ، وذلك لصالح مستقبل أجياله القادمة ، ولنعد إلى ظروف سفري إلي مدينة انواكشوط.
الفصل الأول انواكشوط كما وجدتها أول مرة :
إني خاف أن يكون سفري من انو يب إلى انواكشوط كالمستجير من الرمضاء بالنار،سيدي إنك بأسئلتك الجانبية تلك قد قطعت بها شريط تتابع سلسلة أفكاري حيال حياتي المثقلة بالهموم والمتاعب التي أروي لك بعضا من جوانبها الأساسية حاليا من خلال الظروف التي كان لها التأثير البالغ عليها.
إذن فلقد بدأت يومئذ في تدبير أمور سفري لكي أتغلب على تلك المعوقات خصوصا المادية منها الشيئ الذي جعلني ألجأ مكرها لابطلا إلى أولئك الكرام الذين قد كنت أساكنهم في أنواذيبو، وأطلب منهم مساعدتي بمبلغ مالي يمكنني من الوصول به برا إلى وجهتي مدينة أنواكشوط وذلك بواسطة الشاحنات عبر طريق البحر تلك الرابطة بين انواكشوط أنواذيبو يو مئذ حيث قدجمعوا لي مبلغا نقديا لا بأس به جزاهم الله خيرا ، وقد مكنني من مواصلة تلك الرحلة عبر ذلك الطريق الساحلي المحاذي للبحر.
ولقد كانت تلك الرحلات عبر تعرجات ذلك الطريق حينئذ تعد مغامرة صعبة للغاية بسبب خطورتها وذلك لكون مد البحر على ذلك الطريق دائما وفي معظم فصول السنة وأحيانا يكون ذلك المد عاتيا في في أكثر الأوقات ،حيث تتداخل فيه الأمواج العالية مع ألسنة الرمال المتحركة وإذا ما حاول بعض سائقي تلك الشاحنات الأبتعاد عن ضفاف البحر المضطرب ، فإن الرمال الرخوة المتنقلة بواسطة العواصف وكذا الجاذبية البحرية فلربما تبتلع سياراتهم بدرجة لا يستطيعون ركابها وحدهم إخراها من تلك الرمال الموحلة !
وإن اقتربت تلك السيارات أيضا من ناحية البحر فلقد يجذبها إليه داخله وذلك بسبب هشاشة تربة الشواطئ الأطلسية الرخوة في تلك الناواحي من المحيط الأطلسي المحاصر معظمها بالرمال من جوانبها الشمالية.
وأحيانا تتعطل تلك الشاحنات من وقت لآخرعلى طول ذلك الطريق شبه المهجور ، وربما يموت بعض ركابها أوكلهم عطشا بسبب عدم وجود أي تدخل لإنقاذ حياتهم نتيجة لقلة من يسافرون عبر ذلك الطريق الموحش في تلك المهامه ،وغيرالمعبد بسبب هشاشة تربته ووعورتها !
ولكني و رغم تلك المخاطر الجمة فقد توكلت على الله ( وحجبت ) بما تعودت أن أرقي به نفسي من آيات الذكر الحكيم ، و سافرت ، عبر ذلك الطريق مع جماعة طيبين ذوي خلق رفيع ومروءة وإيثار واحترام وعلى رأسهم السيد المختار السالم من سكان مدينة انواذيبو الأصليين ، ولقد كانت رحلتنا تلك موفقة ولله الحمد والمنة ، ولقد وصلنا بسلام ، ولم تتعطل شاحنتنا ، ولم نحتاج إلى ماء أوغذاء بل كان لدينا الأحتياط الكافي من كل مانحتاج ولله الحمد فقلت له فكيف كانت مدينة أنواكشوط في ذلك التاريخ المبكر من حياتها أيا م قدومك عليها ؟
فقال إني قدمت على مدينة أنواكشوط يومئذ وهي عدة أحياء صغيرة متفرقة، تتخللها علب الصفيح ويحيط بها كم هائل من الخيام البيض. وذلك بسبب الهجرة التي توافدت عليها من الريف جراء الجفاف المدمر الذي قد عم بلادنا كلها يومئذ للأسف . وقد وجدت بها من حيث معالمها الأساسية شارعا واحدا معبدا يومئذ يمتد من المقاطعة الأولى وحتى الميناء على المحيط الأطلسي ، ويتفرع منه واحد ثاني شرقا حتى نهاية أحياء توجنين وآخر تجاه المطار وفرع قصير يتجه صوب المستشفى الوطني.
ومن أشهر أحائها القديمة يومئذ حي تفرق زينة حيث يسكن الوزراء ورجال الأعمال والموسرين بصفة عامة ، وثمة أحياء أخرى مثل ( ابرميير) وكذا لگصر، وكبتال ،والقمقاطعة السادسة ، والخامسة،ومقاطعة الرياض التي خصص نصفها تقريبا لمقابر العاصمة ، وأيضا مقاطعة توجنين وحي كرفور وكذامقاطعة دار النعيم ،كما يوجد بها ميناء ومطار ومرافق عامة أخرى متعددة . ومن أقدم مساجدها مسجد بداه ولد البصيري ومسجد ابن عباس والمسجد السعودي بكبتال ومسجد المغرب الذي يقع بين مقاطعتي الساسة وكبتال العاصمة ثم مسجد قطر بالمقاطعة السادسة الذي نهب تمويله مما الجأ بعض القائمين عليه للعدالة !
والإمامة العامة يومئذ قد كان يختص بها الأمام بداه ولد البصيري وهو إمام ورع صالح لم يستطع تحالف الجيش والتبتابه ترويضه بالعصا والجزرة ، حيث رفض لهم الإفتاء في كل مالايراه مقبولا ملدن الشريعة الإسلامية وذلك مثلا كعدم إفتائه بمشروعية إعدام كل من كادير واحمد سالم ولد سيدي وزملائهم المدانين معهم الذين شاركوهم في قضيا تلك الأحداث المعروفة لدينا بإحداث 16مارس 81 م ، وأهم شعراء المدينة حينئذ فهو احمدو ولد عبد القادر صاحب قصيدته المشهورة ( في الجماهير )، وكذا قصة ( القبر المجهول ) وغيرهما كثير، ومن أكثر فنانيها شهرة واحتراما فهو سداتي ولد آبه ملحن النشيد الوطني ( كن لله ناصرا ) ، وكذا إبنته ديمي التي دخلت الشهرة من بابها الواسع بأدائها المتميز لقصيدة في الجماهير أمام الجوق التونسي الذي لحن لها تلك القصيدة في مهرجان قرطاج الدولي المقام في تونس لسنة 1976م.
وفي المدينة أيضا الكثير من العلماء الأجلاء والأدباء الكبار والفنانين المبدعين وآخرين كثر في مجالات أخرى يضيق المقام عن ذكرهم جميعا.
وفيها أيضا عدة مدارس وثانويتان وجامعة غير مكتملة ومدرسة للإدارة وإدارة للمطافي وغير ذلك من المنشآت الحيوية يومئذ . وهي رغم ذلك فقد كانت مدينة مترامية الأطراف هشة البنيان ، ولا يمكن إعطاؤها حدودا معينة ، وذلك لكو نها يومئذ تنتشر وتتوسع كل ليلة على مساحات جديدة . وكأن السلطة تتغاضى عن ذلك التوسع العمراني الهش وكذا الأ نتشار و كأنها تقبل بذلك من أجل تثبيت الرمال المتنقلة حوالي المدينة لتجعل منها حزام أمان لوسط المدينة على الأقل ولكي يتم لها ذلك بدون أي مصاريف تذكر، وربما يعود سبب ذلك التغافل فهو ضعف موارد الدولة يومئذ وكذا توجيه ما يوجد منها لترف المسؤولين !
إن سكان تلك المدينة غير المتجانسين قد وجدتهم أيضا يومئذ يبنون مساكنهم ارتجالا وعلى غير تخطيط أو مثال سابق معروف، إنهم حقا مبدعون ولكن إبداعهم لا يخضع لاي معايير فنية وحتى ولو كانت تلك المعايير ربما مغايرة للفنون الجميلة !
إن أهل تلك المدينة الجديدة يبدو أنهم متفقون بحكم الواقع من دون وفاق صريح وواضح المعالم على خرابها من داخل كيانها التراثي والديني والاجتماعي وذلك ربما بتدمير أخلاقها الحميدة التي قد توارثوها عن الرعيل الأول من أسلافهم الطيبين الذين قد تركوا لهم مجدا تليدا في هذه البلاد وصيتا مرفوعا خارجها .فمن ذلك الخراب مثلا فهو كونهم يتغاضون عن انحلال الخلق السافر وغياب العدالة في جميع تصرفات وممارسات النظام الحاكم . وكذا تركهم الحبل على الغارب للتبتابه يعيثون في الأرض فسادا دون رادع ولا رقيب !
فهذا من ناحية الجانب الأخلاقي ،أما من الجانب الديني فحدث يا أخي ولا حرج.