أعترف أنني عشت أزمة نفسية منذ اندلاع الصراع الروسي الأوكروني، أو بتعبير أكثر دقة …الصراع الغرْبي الروسي، فقد كنت أحس بأن تجاهل الأحداث التي تعرفها أوكرانيا يحطّ من قيمة من يعتبر نفسه مثقفا عليه أن يتابع ما يعيشه العالم وتتأثر به ومنه بلادنا، وأخشى دائما أن أتهم بالتخاذل أو بالفرار من اتخاذ مواقف يمليها ما أومن به وأدافع عنه.
غير أنني كنت مترددا في تناول تلك الأحداث ولسبب بالغ البساطة، فقد كنت أدرك أنني لا أملك كل المعلومات الضرورية التي توفرها عادة وسائل الإعلام الدولي بلغاته المختلفة، حيث أن كل القنوات الفضائية، بما فيها من ألتقط بثها من الفضائيات العربية، بدت وكأنها جزء من الجهاز الإعلامي للحلف الأطلسي، وبدا أن العالم كله أصيب بجنون التعاطف مع الرئيس الأوكراني، لدرجة أن القضية بدت قضية تعصب ديني أكثر منها تعاطفا سياسيا.
وباستثناء جرعات من الأكسجين تكفلت بها “رأي اليوم” أصبح من المؤكد أن هناك من يريد لنا أن نصبح دمىً كعرائس “الموبيت شو”، تحركها نفس الأصابع التي تقلب الدنيا على رأس من يتهم بالعداء “للسامية”.
ثم حدثت ثلاثة أمور جعلتني أقمع ترددي، وأقنع نفسي بأن من حقي أن أجتهد، في حدود المتاح من المعطيات، وأن أقبل الاكتفاء بأجر واحد.
كان الأمر الأول هو قرار هيئة دولية رياضية بسحب “الحزام الأسود” من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو ما جعلني أحس بالتقزز، لأن ذلك يحمل احتمالين لا ثالث لهما، الأول ينطلق من القاعدة التي تقول بأن من “ينزع” هو من “يمنح”، وهو ما يعني أن الرئيس الروسي حصل على الحزام كمنحة، أي أنه كان مجاملة لا تليق بهيبة الجوائز الرياضية الدولية، وتذكرنا بجائزة “نوبل” التي منحت للرئيس الأمريكي باراك أوباما في أول أيامه على كرسي البيت الأبيض، وقبل أن ينجز ما يبرر الجائزة الدولية.
والاحتمال الثاني هو أن الهيئة الرياضية “سيّست” الجائزة الرياضة، وهي تنزعها ممن يتخذ مواقف لا يرضى عنها الغرْب، وهذا سقوط للهيئة الرياضية الدولية، لا يجب أن يمرّ في صمتٍ، لأنه يمس بأول معايير الرياضة، وهو النزاهة.
وتذكرت على الفور سطورا كتبها الزميل إبراهيم قار علي عن نزاهة “الفيس بوك”، وأشار فيها إلى ما يحمله من ومضات إخبارية تقول إن “أوكرانيا تعيش كارثة إنسانية خطيرة ، وتنشر إدارة الفيسبوك بعض الصور التي تصفها بغير الإنسانية !.في حين كانت تحذف تلك الصور “غير الإنسانية”، كما كانت تقول، والتي كنا ننشرها على سبيل التضامن أو التنديد بالجرائم التي ترتكبها الصهيونية الغربية الناتوية ، والغريب أن إدارة الفيسبوك تبرر حذف تلك الصور غير الإنسانية أن نشرها يتنافى مع القيم الإنسانية !!..”.
ويقول عمنا إبراهيم: “نعم، إن هذا الفيسبوك في النهاية، ليس سوى فيس بوق، نعم إنه بوق الصهيونية الغربية المتعددة الأبواق، تبدأ الإنسانية عندها وتنتهي عندها، أما البقية ليسوا سوى بقية أرجاء العالم ، بل إن بقية البشرية أو بقية الإنسانية ليست من البشر أو من بني الإنسان !!!…”.
وهنا يأتي الأمر الثاني الذي محا في نفسي ما كنت أقمعه من الشكوك في نزاهة مواطن الشمال، الذي كنا نعتبره مواطنا صالحا مثلنا يتفهم قضايانا ويواجه الانزلاقات التي ترتكبها حكوماته ضدنا، وبحيث بدت كل المواقف المتعاطفة مع قضايانا مجرد طلاء ذهبي، يتساقط عند أول احتكاك مباشر.
هذا الأمر هو التعليقات العنصرية الحقيرة التي راحت تقارن، في احتقار مهين، بين اللاجئين من العرب، والذين يتحمل الغرب مسؤولية كبرى في فرارهم من بلادهم، وبين لاجئي أوكرانيا، ذوي العيون الزرقاء والملابس العصرية والسيارات الحديثة.
وتذكرت نداءات البابا أوربنوس الثاني (1095) الذي أطلق الحملات الصليبية ضد المسلمين، مطمئنا زبانيته بأن “الله يعرف رجاله”، وهو ما يعني أننا، نحن العرب والمسلمين، لسنا بشرا جديرا بالاحترام، فنحن، كما قال البابا بينيدكت السادس عشر في أحد خطبه، من العصاة المارقين (Non fidèles (
وأدركت على الفور مدى صحة ما قاله الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين يوما من أن الصراع الحقيقي هو بين الشمال والجنوب، وأحسست بأن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لا يعتبر الروس جزءا من الشمال، ربما لأنهم أرثوذكس، أي أن الشمال هنا، وبحكم تجارب السنين، هو أوربا النصرانية اليهودية وامتدادها في العالم الجديد، وهذا الشمال يُصفي اليوم حسابا قديما مع موسكو التي أفشلت بعض مخططاته، ولم يكن من أبسطها تهديد نيكيتا خروشوف الشهير الذي أجهض العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وطاش حُلم الكيان الصهيوني آنذاك في السيطرة على قناة السويس.
وكان الأمر الثالث الذي أضعف من ترددي في الكتابة هو التنديد الغرْبيّ بالرئيس الروسي من منطلق أنه دكتاتور، في حين أن الغرب، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص كانت تقيم أحسن العلاقات مع أسوا الدكتاتوريين، وليس هناك من يمكن أن ينسى دعم كل من بينوشيه وشاه إيران وبوكاسا وموبوتو، بل وفرانكو، والقائمة طويلة، ولن أضيف لها تحالفات القرن الجديد التي تناقضت مع كل منطق وطني سليم.
وعندما بدأتُ أعد الهيكل الرئيس لهذا الحديث تذكرت تعبيرا لأستاذ الصحافة العربية الراحل محمد حسنين هيكل، قال فيه، ناصحا من يتناول الحديث عن الصراعات السياسية، أن عليه، لتضح الأمور أمامه أكثر فأكثر، أن يضع أمامه أولا خريطة جغرافية، وهو ما فعلته.
كان واضحا من النظرة الأولى للخريطة أن أوكرانيا هي خط الأمن القومي الغرْبي الأول بالنسبة لروسيا، وكان مما يضمن السلم والاستقرار للجميع أن يكون “الموزاييك” الديموغرافي الذي انفصل عن الاتحاد السوفيتي دولة محايدة مثل سويسرا، تربح من الجميع وتصادق الجميع، وتلتزم بالاتفاق الذي تم، فيما نعرف، مع غورباتشيف، وهو عدم انضمام دول أوربا الشرقية، التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي، إلى الحلف الأطلسي.
والزميل محمد يعقوبي على حق وهو يقول: “تدرك روسيا أن الغرب لن يرحمها بوصول الناتو إلى حدودها لذلك مستعدة لإبتلاع أوكرانيا و100 أوكرانيا أخرى قبل أن تختنق بحبال الجيران.
بوتن لديه الشهية الٱن لإدخال العالم كله في حرب عالمية ثالثة تدمر الجميع بدل انتظار الاختناق بحبل حريري يلتف منذ عقود حول عنق روسيا، التي تدرك أن البديل عن هذه الحرب هو الاستيقاظ يوما على بلد مخصيّ غير قادر على حماية وجوده”.
هنا يسقط الادعاء بأن التحرك الروسي هو اعتداء على حرية بلد مستقل من حقه أن يفعل على أرضه ما يشاء، لأن منطق الأمن القومي لا يقبل مجرد احتمال خطر التهديد، وعلينا أن نتذكر الجنون الذي يصيب الكيان الصهيوني من مجرد احتمال دخول الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى النادي النووي، علما بأن الكيان يرفض حتى اليوم الدخول في هيكل منظمة الطاقة الدولية لكيلا يحاسبه أحد على إمكانياته النووية العدوانية.
ولعلي أتذكر هنا أن مما يروى عن خلفيات اغتيال الرئيس جون كينيدي هو التساؤلات التي كان يطرحها حول البرنامج النووي الإسرائيلي، ولن أعود للتذكير بالغموض الذي ما زال يلف قضية الاغتيال.
وهنا يجب أن نتذكر بأن أمريكا أقامت الدنيا على وجود صواريخ نووية في جزيرة كوبا، ولم تهدأ الأمور إلا عندما سحب الاتحاد السوفيتي الصواريخ، بعد أن اطمأن إلى عدم تكرار ما عرفه خليج الخنازير من تهديد لكوبا، وتأكد من سحب الصواريخ التي كانت منصوبة في تركيا (وهو ما أظن أنه كان خلفية التصعيد الذي قام به خروشوف، الذي قبِل الهزيمة الإعلامية وسخرية الخصوم مقابل تخلصه من الصواريخ التي كانت تؤرق نومه).
ومعنى هذا بكل بساطة أن الاتحاد الروسي كان يخشى من احتمال نصب صواريخ في أوكرانيا، وهو ما طالب به أكثر من مرة، وكان يكفي أن يقال بأنه ليس للحلف الأطلسي أي نية للتمركز في أوكرانيا، وينتهى الأمر عند هذا الحدّ.
وهنا أيضا لا يمكن أن أتجاهل ما تردد من أن القضية كلها كانت فخا نُصب لتدمير قوة الاتحاد الروسي التي تحرم الشمال من التمتع بواحدية القطبية السياسية، ليكون ذلك خطوة نحو فخ آخر يستهدف تدمير القوة الاقتصادية الصاعدة للصين، وهذا المنطق احتمال لا يمكن تجاهله لمن تابع أحداث 1967 ثم 1990 في مشرقنا العربي، وفي غير حاجة ليذكرني أحد بأن بوتين ليس عبد الناصر أو صدام.
هنا أعود إلى وطننا العربي لأسجل القرف الذي أحسّ به من متابعة الهستريا التي تدعو بها كل دول أوربا لتدمير الاتحاد الروسي، وهو ما تجسد في تصريحات أسوأها تصريحات خليفة توني بلير، الكذاب الأشِر الذي عرفناه في جريمة تدمير العراق، حيث بدا رئيس الوزراء جونسون وكأنه يلعق نعل حذاء بايدن.
وإذا كان من حق دول أوربا أن تسير وراء واشنطن كأنها “كانيش” وديع، فلست أرى مبررا أخلاقيا يسمح لنا بأن نفعل الشيئ نفسه، وإذا كنت أرى أن الامتناع عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة هو أضعف الإيمان، فإن من المخجل أن نرى البعض، وخصوصا من بعض المتأسلمين، من تجاوز تنديدهم بالتحرك الروسي كل منطق.
ولقد سمعنا من يُذكرنا بجرائم الروس في أفغانستان وفي الشيشان، وهي جرائم لا يمكن الدفاع عنها ولا تبريرها، وتجعلني لا أتردد في القول أن كل المتنازعين اليوم هم مجرمون في حق العرب والمسلمين.
لكن الأمانة تفرض أن نعترف بأن المقارنة بين جرائم موسكو ضد شعوبنا وبين جرائم واشنطن وباريس وروما وبروكسيل وبرشلونة وبرلين ولاهاي هي مقارنة تفرض علينا أن نراجع أنفسنا ونعيد النظر في تحالفات دُفع بعضنا إليها، وكانت ترسيخا لعوامل التبعية للغرب.
والأمانة تفرض أن نعترف بأننا وجدنا في الروس دائما خير معين لنا في صراعنا من أجل التحرر والانعتاق، ولا يعيب موسكو هنا أن يقال بأنها كانت تبحث عن مصالحها، فلسنا سذج لكي نعتبر الروس جمعية خيرية تدعمنا من أجل سواد عيوننا.
ويكفي أن نتذكر أن أول من دعا لإقامة دولة عبرية كان الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، وأول من سجل ذلك خّطيا كان البريطاني آرثر جيمس بالفور، وأن من كلمات دافيد بن غوريون الشهيرة أن تدمير ثورة الجزائر ضمان لسقوط جمال عبد الناصر، ناهيك من أن عالم النفاق لم ينجحفي تنفيذ قرار واحد من قرارات الأمم المتحدة لنصرة الشعب الفلسطيني.
وحقيقي أن الاتحاد السوفيتي كان من أوائل من اعترفوا بقيام الكيان الصهيوني، لكن علينا أيضا أن نعترف بأن طائراته وصواريخه هي التي حققت نصر أكتوبر، الذي أجهضه الأمريكي الصهيوني هنري كيسنجر، والتفاصيل معروفة.
وهنا أيضا أقول بأن علينا أن نراجع كل روابطنا، بما في ذلك الروابط الرياضية والتعامل مع منظمات حقوق الإنسان التي ثبت نفاقها وازدواجية معاييرها، وهذا يتطلب رصيدا من الشجاعة آمل أن يكون حجمه لدى الشباب أكثر مما كان لدينا، نحن الشيوخ.
ولقد طالبت دائما بوقفة نقد ذاتي نراجع فيه أنفسنا، وسأظل أطالب بذلك لأنه سلاح الردع الأول ضد أطماع الشمال.
دكتور محيي الدين عميمور مفكر ووزير اعلام جزائري سابق