اين العرب في ظل الصراع بين الشرق والغرب؟

ثلاثاء, 2022-02-22 15:10

جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو و أحمد سيكوتوري و جوزيف بروس تيتو و أحمد سوكارنو رسموا اللا انحياز كحركةٍ بين قطبي العالم في الستينات ليضمنوا للدول النامية صوتاً و ثِقلاً و نفوذاً. ثم شحبت حركة عدم الانحياز بالتدريج ربما لافتقارها للبعد الاقتصادي و المالي. و تهالك الاتحاد السوفييتي أو سُيِّحَتْ أطرافه ببطء على نيران نفقات ِتسليحٍ هائلٍ و شعوب كانت تشتكي من قلةِ ذات اليد و بَثٍّ مُكثَفٍّ لتأليبها من الغرب فتهاوت الامبراطورية وتسيد العالم الولايات المتحدة. اليوم يختلف الوضع بوجود روسيا و الصين وقد اجتازتا عقوداً من البناء الداخلي ويمكن لهذا أن نقول أن العالم يُستقطبَ تارةً ثانيةً بين الشرق والغرب. بينهما حلفاء ظاهرين و نائين عن التحالف و حلفاء مختفين و آخرون ممن لا ناقة لهم أو جمل سوى البقاء دون رغبةٍ بتأثيرٍ يتجاوز حتى أقاليم بلادهم. ولا وجود لعدم انحيازٍ كحركةٍ أو لزعيمٍ يُعتدُ به أو بها ليقود مسيرةً ثالثةً فيها حكمةُ التوازن و احتواء الأزمات. بشكلٍ أو بآخر، يُطلبُ اليوم من العالم أن ينحازَ لهذا و ذاك شاءَ أم احتج. لم يعد للدولِ من ملاذٍ آمن مثل حركة عدم الانحياز تحتمي به الدول و إن نظرياً. و ليست الأمم المتحدة قادرةً أن تكون هذا الملاذ. صراع الجبابرة الذي تُثيرهُ أزمة أوكرانيا يثبتُ أن الاستقطاب عاد بقوة. لكنه قد كان عادَ في سوريا و إيران حيث تم تثبيتهُ للحد الممكن من قِبل ِ روسيا و الصين بعد أن أفلتت ليبيا وقبلها العراق فوقعتا ببراثن القطب الواحد. أوكرانيا تبدو حادةً لأنها بوسط أوروبا وأوروبا هي الناتو وهي روسيا.

ليس غريباً أن تصمتَ العواصم العربية عن خلاف أوكرانيا فهو خلافٌ خارج النطاق العربي و اتخاذ موقف بشأنه مع أو ضد أي طرف سيكون تهوراً لن ينساه الزمان. إنها إن حصلت فستكون حرباً بعيدةً جغرافياً عن المنطقة وليست كما البلقان التي استدرجت المقاتلين والمال من العرب للانخراط في الدفاع عن مسلمي تلك الجهات. فالأفضل عربياً و إسلامياً هو السكوت، أو العملُ مع طرفٍ دون طرف من وراء ستار السرية. لكن واشنطن في أحايين كثيرة لا تهتم بالمشاعر والظواهر فها هي تقول للعرب المنتجون للغاز أن يستعدوا لضخه لأوروبا لو توقف الغاز الروسي. إنه أمرٌ و ليسَ تلميحاً. و لم نسمع رداً عربياً على هذا الطلب. كما لم نسمع من روسياً طلباً و لكننا رأينا فعلاً. حين توجه وزير الدفاع الروسي لطرطوس ليشرف من سوريا على مناورات أسطوله و حين أرسل أسراباً ثقيلة الحمل لقاعدته في اللاذقية. سوريا هي الحليف الظاهر لروسيا في المنطقة و لا بد من تفاهمٍ على هذه التحركات الهامة بقواعد في سوريا مُنِحتْ للروس قبيل سنوات. أما أمريكا فلها من القواعد و الحلفاء على طولِ العالم العربي وعرضه ما قد يطولُ سرده و كلها تحت الإمرة الأمريكية حين ساعة الحسم و أعتقد أنها لا تخضع لرأيٍّ غير أمريكيٍّ.

يطفوا العرب من مُضيفي القواعدِ على محيط الصراع الروسي الصيني الغربي و حالهم يقول “يا رب الستر” لكن الستر في هذا الصراع لن يُسمحَ بهِ على الأقل أمريكياً وهي التي تحتفظ بمبدأ “إن لم تكن معنا فأنتَ ضدنا”. و ما أشبهَ حالنا اليوم بحالنا في الحرب العالمية الثانية حين تحولت بلادنا لمسارح قتال أو صراع مخابرات و انتقلت بعضها من الحرية للاستعمار و من الاستعمار للاستقلال الصوري تحت عين المشرف المستعمر. اليوم تحتفظُ بلادنا بمظاهرِ السيادة و لكنها ناقصةُ السيادة. و برأيي فإن أي دولةٍ في العالم ترضى بوجود قواعد أجنبيةً تنتقص من سيادتها حتى و لو كانت حليفاً. من سيقول لهم إعفونا من صراعكم؟ لن نستطيع فلقد قررنا أن نكون في صفٍّ دون آخر حين قبلنا و رحبنا بالقواعد. مفروزٌ العالم العربي و معروفٌ من مع من و مفهومٌ أن لا سيطرة عربية على قواعد بها سلاحٌ نوعىٌ فتاك لهذا أو لذاك، فإذا اندلعت المعركة فكيف ستُصَنَفُ بلدان القواعد؟ و هل يحتاج الجواب لكثيرِ تفكير؟

عموماً، التنبؤ بالحرب بين الشرق والغرب هو محض تنبؤ لكن الصراع الشرقي الغربي واقعٌ و التحالفات واقع و قد لا يمكن للعرب النأي عن التحالفات لا علناً و لا سراً، و إن أرادوا، مع أن معظمهم غاطسٌ تماماً ببحر التحالفات و القواعد. لهذا كانت حركة عدم الانحياز، لترفض الانحياز و تؤسس كياناً وسطياً ينأى  بأعضائها عن صراع الجبابرة. ليست الأمور بمثلِ هذه المثالية بطبيعة الحال و كان أن تخلخلت الحركة بزوالِ الزعماء و بات الانحياز أمراً ضرورياً للحفاظ على الاستقرار الصوري مع بقاء أدبيات عدم الانحياز دون أثرٍ يُذكر. لكن الفارق بين تلك الأيام واليوم هو في الخضوع لسياسات القواعد، خاصةً الأمريكية، التي أسست قياداتٍ متخصصة لها بأفريقيا و الشرق الأوسط و آسيا و أوروبا. قياداتٌ لها حرية الحركة بلا رقيبٍ أو حسيب. كان هذا نتيجةً واضحة للسيطرة العالمية الأمريكية و تراجع منافسيها. إنه اليوم وجودٌ يفوق ما لدى روسيا والصين على كل حال. فإن كان في الزمان الماضي من وجودٍ أمريكي فقد كان خجولاً أو حتى مطروداً، كما حصل في ليبيا، أو تسربل بدثارِ التدريب و الاستشارة و منح رمز السيادة بعض الحق. أما اليوم، فعلى النقيض. يتميز الوجود الأمريكي بالإصرار و التمكن و لهذا أسبابٌ عديدةٌ مقنعةٌ منطقياً بمنطقتنا. ممكنٌ جداً إنه الميل العربي التاريخي نحو من ورث الاستعمار و هو البعد عن الشيوعية اللادينية عندما شاعت السوفييتية و من ثم كذلك توقيت دقائق الاقتصاد العربي بالساعة الغربية و ربطنا بالسياسات المقدمة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. بحثٌ طويلٌ و معروفٌ يحيطُ بهذا الميل حتى أصبح الوجود الأمريكي أمراً لا افتكاك عنه.  لم يملك الروس هذه الحظوة إلا بالنذر اليسير رغم وقوفهم مع قضايا العرب. و لا أعتقد أن الروس سيضغطون لوضع قواعد ببلادٍ استأثر بها الأمريكيون إلا إن دعتهم، كما فعلت سوريا، و لربما تتبعها الجزائر، لكن الروس لن يتركوا بلاداً بها قواعد أمريكية لتصبح مصدر أذىً لروسيا. فما بالكم بأوكرانيا!

إن اندلعت الحرب بأوروبا، و استبعدها تماماً ثقةً بحكمةِ روسيا، لكن إن اندلعت فستجر لأتونها كل من انحاز للغرب و كل من انحاز للشرق. لن تقدر الدول المقيدة بالقواعد أن تحتمي بجدار السيادة الذي أفرغتهُ من محتواهُ هي و ليس غيرها. كان الأولى أن ننحاز لبعضنا و قضيتنا الأولى فلسطين لكننا إنحزنا لغربٍ و شرقٍ الذين عندما تهدر و تزأر قواتهم قد لا يبقَ منا من يقول “و لاتَ حين مندم”!

علي الزعتري كاتب ودبلوماسي اردني