
ترفع وسائل الإعلام الغربيّة شعارات برّاقة فيما يتعلّق بالحياد، والمصداقيّة، والموضوعيّة، وحرية التعبير، وتقديم الأخبار على مبدأ تعريف المشاهد بالحقيقة، بل إن تلك المحطّات ينظر بعضها للإعلام العربي، وخصوصاً الحكومي منه كأدوات تابعة للأنظمة، أو كما يجري وصفه من قبل تلك الوسائل بالديكتاتوريّة، لكن يبدو أن الصورة الورديّة في تعريف ذلك المشهد الإعلامي الغربي، ليس بهذه الأفلاطونيّة، مما يُؤكّد المقولة الثابتة في أكاديميّات الإعلام لدارسيه “أن لا إعلام غير مُوجّه، وكلّه مُسيّر، كل وفق توجّهاته، ومصالحه”.
المشهد يزداد قتامةً، وُبؤساً، بل يصل لحد قطع الأرزاق، حينما يتعلّق الأمر بدولة الكيان الإسرائيلي المُحتل، ومدى حساسيّة تلك القنوات مع هذا الكيان، في حال كشف مُمارساته، وعُدوانه تجاه الفلسطينيين، وتحت عنوان تصدير التهمة الجاهزة “مُعاداة الساميّة”، لتصير شعارات الموضوعيّة، والرأي والرأي الآخر في مهب الريح، والحديث هُنا عن القناة الألمانيّة “دويتشه فيله”، والتي قرّرت فصل خمسة صحافيين عرب، من الأردن، لبنان، سورية، فلسطين، والتهمة “مُعاداة السامية” ضمن منشورات قاموا بنشرها عبر حساباتهم التواصليّة، والتي لا تُعبّر بطبيعة الحال عن القناة، بل عن رأيهم الشخصي كون تلك الحسابات شخصيّة.
اللافت في كُل هذا، أن القناة الألمانيّة وقبل قرار الفصل، الذي لم تجر فيه توضيح الأسباب كما قال الصحفيون المفصولون، جرى إخضاع الصحفيين لتحقيق داخلي، وضمّت اللجنة للمُفارقة الكاتب أحمد منصور أبرز المُنتقدين للإسلام في ألمانيا، والفلسطيني الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية الى جانب الألمانية، ووزيرة العدل الألمانيّة السابقة زابينه لويتهويزر، وهي الأخرى مسؤولةٌ عن ملف معاداة السامية في ألمانيا، وهو ما يضع علامات استفهام حول نزاهة لجنة التحقيق التي تتضمّن أعضاءً يحملون آراءً مُعادية مُسبقة ضد القضيّة الفلسطينيّة، ومُنحازون بشكلٍ كامل وقاطع لإسرائيل، هذا عدا عن خلو اللجنة التي حقّقت بمنشورات الصحفيين المُتّهمين والمفصولين أي صحفي مُختص باللغة العربيّة.
ومما يُعزّر حالة التحيّز ضد الصحفيين المفصولين المُسبقة، والنوايا المُبيّتة ضدّهم كونهم عرب وينحازون لقضاياهم، أنه جرى نبش منشورات سابقة لهم وكانوا لا يعملون في القناة أساساً، بالإضافة لعدم تواجدهم داخل الأراضي الألمانيّة حين كتابتهم لتلك المنشورات وهو ما يُوحي بوجود حملة استهداف تطال كل من يرفع الصوت ضد الدولة العبريّة، وهو ما يُثير جدل المُسوّغات القانونيّة التي تسمح بفصل هؤلاء الصحفيين، بل والحديث عن مُقاضاتهم، وحالة التحسّس الشديدة الموجودة عند الدولة الألمانيّة الحاليّة، ومسؤوليّة نظام أدولف هتلر” السابق عن الانتهاكات، والمحرقة بحق اليهود، وتعهّدها الثابت بأمن إسرائيل وضمان استمرار وجودها.
وشمل القرار فصل الصحفيين: الزملاء فرح مرقة، مرام سالم، باسل العريضي، وداوود إبراهيم، ومرهف محمود، وجميعهم مشمولون باتهامات “مُعاداة السامية”، بل واتهامهم بتشكيل حركة منهجيّة ضد إسرائيل.
ووفقاً لمجموعة ملاحظات أوردها مُطّلعون على التقرير الكامل للجنة التحقيق في التهم المُوجّهة لعدد من مُوظّفي القسم العربي، كان من بينها اعتبار الإعجابات المُعادية لإسرائيل على تغريدات “تويتر” ضمن اتهامات معاداة السامية، هذا عدا نشر خريطة فلسطين، واعتبارها مُلكاً كاملاً للفلسطينيين وعودتها لهم، وهي كذلك تهمة تندرج تحت مُعاداة السامية أيضاً، فعندما تعود فلسطين لشعبها، يعني ذلك حرفيّاً “زوال إسرائيل”.
تنتقد اللجنة في تقريرها الشخصيّات العربيّة التي استضافتها القناة الألمانيّة ضمن خططها البرامجيّة، وتُركّز على استضافتها شخصيّات قالت إنها مُتعاطفة مع حماس، ومع إيران، ومنهم عبد الباري عطوان رئيس تحرير هذه الصحيفة “رأي اليوم”، وإدارة القسم العربي أكدت للجنة بأنها لم تستضفه أبدًا ليُعلّق على موضوع الصراع في الشرق الأوسط، إلى جانب انتقاد اللجنة لتوظيفه يسري فودة والمعروف بمواقفه المُناهضة لإسرائيل، ومجرد السماح بظهوره يعني قبول الشبكة بمواقفه ضد دولة الكيان المُحتل.
اللافت في تقرير اللجنة بأنها أقرّت بصعوبة التمييز بين معاداة السامية، وبين النقاش السياسي حول إسرائيل، ومع هذا جرى توجيه اتهامات للصحفيين المذكورين بناء على مُعاداتهم للسامية، واجتزاء منشوراتهم بما يتّفق مع توجيه الاتهام، الهدف منه إسكات أصوات الصحفيين العرب، والقضاء عليهم بحسب توصيف أحد الصحفيين المُتّهمين لرأي اليوم.
ويبدو أن الصحفيين المفصولين بتهمة معاداة السامية من القناة الألمانيّة، يتجنّبون من جهتهم الخوض في تفاصيل تجربتهم عند التواصل معهم، لعدم استغلال تصريحاتهم الإعلاميّة ضدهم، وانتظار انتهاء التحقيقات، ولجأت الزميلة مرقة مثلاً إلى توثيق ما جرى معها بعدد من المقالات باللغة الإنجليزيّة مع تأكيدها اللافت فيها أنها صحفية مهنيّة، وتلتزم بقوانين مهنتها، وهي الأكاديميّة الصحفيّة، والحاصلة على الماجستير في وسائل الإعلام الجديدة، أما مرام سالم بدورها طعنت في إجراءات التحقيق التي وصفتها بأنها “لم تكن حياديّة؛ إذ تم تعيين “إسرائيلي” في لجنة التحقيق الخارجيّة”.
ومع الهجمة التي طالت الزميلة مرقة، وزميلاتها عبر صحف ألمانيّة، كان لافتاً حجم التضامن الذي عبّر عنه العديد من الصحفيين والنشطاء معهم عبر حساباتهم في “تويتر”، وحديثهم عن لوبيّات صهيونيّة تستهدف الصحفيين العرب، وقمع أصواتهم، فيما دعا آخرون إلى وجوب الوقوف إلى جانب هؤلاء الصحفيين بالكتابة، وبأي وسيلة تعبير، وإلا سيكون المشهد الإعلامي ضعيفاً، وخائفاً من فضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي، خوفاً من المُلاحقة بحجّة معاداة السامية.
(رأي اليوم)