المنطقة كلها دخلت مرحلة انعدام الاستقرار الشامل ، وان كانت دول قد ادخلت في اتون الصراعات الداخلية والتدمير وفق خطط رسمت مسبقا وقرارات وضعها حلف الناتو ونفذتها أطراف عربية مصحوبة بغبار الدعاية الدينية و الاخلاقية وكذبة الديمقراطية الغربية القديمة الجديدة ، والتي رأينا نموذج الوعود بها في العراق 2003 ثم وجدنا أنفسنا امام دولة فاشلة في العراق واقتتال ومشاريع تقسيم وسرقة ثروات .. الخ .
ثم انكشاف كذبة ليست أقل دموية واستهزاء بعقول أمة من شعوب تائهة في الخيارات والمواقف والمآلات ، وهي كذبة حماية المدنيين في ليبيا عام 2011 التي شرع من خلالها العرب الرسميون دخول الناتو لإسقاط النظام الليبي ، وإذ بنا أمام دولة فاشلة بعد سقوط النظام ، وأمام قتلى من المدنيين الليبيين خلال بضعة سنوات يفوق باضعاف كل ما زعمت تلك الدول أن القذافي قتلهم على مدار نصف قرن ، وكذلك برزت مشاريع تفتيت ليبيا على وقع اقتتال ، وصراع أجندات خارجية وسرقة ثروات ليبيا وسرقة القرار الوطني من يد الليبيين .
ولم يكن النموذج السوري استثناء في هذه اللوحة السوداء على خريطة عالم عربي بائس . بل كانت التجربة في سورية أوضح صورة لخديعة العصر ، ورغم انكشاف فصول كثيرة من هذه المسرحية الدموية التي أرادت أن تدخل سورية الى قائمة الضحايا بالجملة ، إلا أن البعض مازال يتحسر على فشله في تفتيت سورية ، ويتحدث عن فرصة ضائعة . على الرغم من أن نتائج تلك الحرب اضعفت سورية كدولة محورية في مواجهة إسرائيل ومشاريع الولايات المتحدة في إخضاع الجميع في المنطقة ، ودمرت البنية التحتية للشعب السوري ، وفقد السوريون أبناءهم ومنازلهم ، وانتشر جزء كبير منهم في أصقاع الأرض لاجئين .
هل العرب اغبياء ؟؟ أو اتباع ؟ أم قليلو حيلة وضعفاء إلى درجة جعلتهم كومبارس في لعبة الأمم ومصالح الدول ؟؟
اما القوى الإقليمية تركيا وإيران وإسرائيل ، فقد وجدت نفسها أمام تغيرات تتطلب منها التدخل المباشر أو غير المباشر .فخشيت إيران على تحالف عملت على بنائه طول عقود مع بروز استهداف سورية واسطة عقد محور المقاومة ، وانتقال التهديد إلى حزب الله عبر الآلاف من العناصر التكفيرية التي ادخلت الى سورية ، وسرعان ما انتقل تأثيرها الى لبنان ، وتفعيلها في العراق ، فدخلت إيران في أتون المعركة حماية لجبهة عريضة قدرت أن التغييرات المتحكم بها أمريكيا واسرائيليا بشكل مباشر أو بالوكالة ، مع إعطاء هامش تحرك لخصوم إيران في الخليج للتدخل والمساعدة ، مصحوب كل ذلك بخطاب شيطنة لإيران والشيعة باستخدام مشايخ ودعاة ووسائل إعلام . وهنا حاولت إيران تحويل التهديد إلى فرصة لتظهير وربط حلقات وأطراف محور المقاومة بشكل أكبر ، وتعزيز نفوذها مع الحلفاء لقلب مسار التغييرات لصالحها .
اما تركيا فقد فتح لها صعود حركات الإسلام السياسي العربية الواحدة تلو الاخرى الى السلطة نتيجة التغييرات بابا لتحقيق أحلام راودت قادة العدالة التنمية في أعادة أمجاد السلطنة العثمانية . فصاغت على عجل سياسية خارجية تقوم على التدخل لمصلحة هذه التيارات ، وبدأت تبلور مشروعا للنفوذ والهيمنة أعتمادا على حركات إسلامية عربية أخذت ترتبط عضويا بتركيا وتنظر إلى نفسها كجزء من مشروع إسلامي تركي يعيد مشروع الخلافة الذي تؤمن به كل الحركات الاسلامية الى الحياة وإلى التطبيق الواقعي .
وتعاملت تركيا أردوغان مع انتكاسات تلك الحركات في لعبة السلطة داخل بلدانها على أنها انتكاسة لمشروع تركيا وهذا ما يفسر انخراط انقرة بقوة في صراعات المنطقة العربية وتفاصيلها . وكان موقف تركيا من تطورات الأحداث في مصر وسقوط حكم الاخوان هناك أوضح نموذجا .
أما إسرائيل فهي ثعلب الغابة ، الذي يسعى إلى عدم التأثر بأحداث المنطقة وبذات الوقت الاستفادة منها ، ووجدت إسرائيل امامها فرصة تاريخية يستوجب عليها التقاطها ، في بيئة سياسية وأمنية عربية يغلب عليها التمزق والتقاتل والتنافر والضعف ، مع وجود ادارة امريكية مدركة لحالة البؤس التي وصل اليها العرب ، وتمثلت هذه الفرصة في تمرير صفقة القرن ، وابتلاع الحقوق الفلسطينية وضم الجولان والقدس ، ودفع عجلة التطبيع مع دول عربية باتت كرة مشروخة بين أرجل المشاريع والتحديات ، وتجد نفسها مضطرة إلى وضع كل ما تملك بيد الإدارة الأمريكية لحمايتها بما في ذلك تقديم تنازلات تاريخية لإسرائيل والولايات المتحدة على حساب حقوق ومصير شعوب المنطقة .
امام هذه الصورة الشاملة للوضع الراهن الحالك السواد ، لابد من الاشارة والتاكيد على حقيقة تقول ليست الدول العربية “سورية او العراق او لبنان او ليبيا اليمن” وحدهم المستهدفين. بل الكل مستهدف في المنطقة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب . تركيا التي تتصور أنها تتقدم بمشروعها هي مستهدفة، وهي تدفع دفعا للدخول في المستنقع الليبي ، كما هي الآن متورطة في الجغرافية السورية عبر احتلالها لشمال سورية ، ورعايتها مجموعات مسلحة متطرفة ، ونقلها مرتزقة من إدلب إلى ليبيا .
في نهاية المطاف سوف تكون تركيا أمام استحقاق دفع الثمن ، بعد استنزافها وجرها إلى الوقوع في صراعات سيكون لها انعكاسات كبيرة في الداخل التركي لاحقا . كما أن إيران مستهدفة في قدراتها وقوتها وموقعها ، وتدميرها احد أكثر الأهداف تقدما في برنامج الإدارة الأمريكية وإسرائيل وشركائهم الغربيين . والسعودية ستكون مستهدفه لاحقا ، وسوف تدخل في مشاريع التقسيم والتفتيت والاقتتال وكذلك مصر .
لا تعتقد أي قوة عربية أو إسلامية أنها بمنأى عن الاستهداف والاستنزاف والتغيير ، الامور فقط مرتبطة بالتوقيت والبيئة السياسية المواتية لفعل ذلك .
وبناء عليه لابد من تدارك هذا الانهيار الآن وقبل فوات الأوان ، لابد من مبادرة تأتي من جهة ما في الإقليم ، لطي صفحة الماضي كله ، وإنهاء الصراعات الداخلية والإقليمية .
لابد من إدارة إقليمية تأخذ على عاتقها جمع الأطراف الليبية على طاولة حوار واحدة بعيدا عن المكابرة وتضارب المصالح ، لابد من جمع الأطراف السورية و إخراج سورية من الحصار والعمل على إعادة إعمار سورية و إعادة كافة اللاجئين إلى بلدهم ، لابد من وقف حرب اليمن وجمع اليمنيين في نظام سياسي واحد ينقذ البلاد ويعيد اليمن دولة طبيعة ، لابد من حل الخلافات الخليجية وفتح حوار عربي مع إيران وتركيا على قاعدة التعاون وحسن الجوار، بدلا من دفع الجزية المالية والسياسية لإدارة ترامب لخوض صراع مع الجوار الإقليمي . ولابد من تحديد رؤية موحدة لكل الدول العربية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية وآليات دعم الشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه المشروعة . هل هذا صعب ؟؟ إننا في المنطقة بحاجة إلى شخصيات مبادرة لعقد أكبر قمة اسلامية وعربية ، تجتمع بعيدا عن االبروتوكولات الفاشلة ، وتجلس لأيام وأسابيع لبحث سبل تكوين مجموعة تعمل على إطفاء الحرائق ، وتشكيل إدارة مستقلة متعاونة لإدارة الإقليم بعيدا عن التدخلات الغربية التي دمرت كل شيء . وثبت بالتجربة أنها تدخلات لسرقة الثروات و تدمير الدول ، وفتح أبواب مشاريع التقسيم الجغرافي و الاثني والطائفي .
هل علينا الانتظار أكثر حتى تتحول الدول العربية والإسلامية كلها الى ساحة معركة مفتوحه على الدماء والدمار ، هل سوف ننتظر حتى نرى في داخل تركية حرب أهلية وإيران تحت النار ، و السعودية تتحول من دولة إلى مجموعة دول ، ومصر دولة فاشلة لا سمح الله .
هل هناك من يبادر إلى إطلاق مثل هذا المشروع قبل فوات الأوان ؟؟ لكن من ومتى ؟؟
كمال خلف كاتب واعلامي فلسطيني