لازالت الأقلام العربية تحتفى برواية الوزير والروائي محمد ولد أمين ، من ذلك مانشرته صحيفة السفير اللبنانية للكاتب طارق عبود حيث قدٌم قراءة للروايةأخرى جديدة جاءت كالتالى :
تقدّم «دار الساقي» قلمًا مميزًا من أقصى الوطن العربي، من موريتانيا التي يحملنا إليها، أو يأتي بها إلينا الوزير السابق والكاتب محمد ولد أمين، بعاداتها وتاريخها وشخصياتها وشعرائها، ومعاناة أهلها، ووجوه مستعمريها وقسوتهم، ليثبت الفن القصصي مرةً جديدةً أنه أفضل دليلٍ فكري وسياحي وثقافي على عادات الجماعات والأمم وتاريخها.
يطل علينا الكاتب من العتبة الأولى وهي العنوان، وما يحمله من ازدواجية، تحيل إلى غير هوية، وثقافة وحضارة، فـ (منينة) اسم متجذّر في الموروث الموريتاني، و (بلانشيه) اسم فرنسي غربي بامتياز. من هذه العتبة تتمظهر أزمة الهوية والانتماء، ليس عند جوزيف بلانشيه، أو أحمد ولد خيبوزي فقط، بل ينسحب ذلك على كثير من أبناء الوطن العربي، ولا سيّما في شمال أفريقيا، وما أفرزه الاستعمار من تمازج وتداخل بين الهويات، مما أنتج ضياعًا بين الهوية الوطنية الملاصقة للحرمان والظلم والفساد والمستقبل القاتم، وبين الهوية المكتسبة، وما تحمله من استقرار اقتصادي ومعيشي، ومن التصاق بالحضارة والتطور، ولكنها تبطن في طياتها تلك الدونية التي لا تزول بتقادم الزمن، وباكتساب اللغة والتماهي مع الجماعة، بل إنّ الشكل البيولوجي يبقى حاجزًا وعائقًا يحول دون إزالة الفوارق الإثنية.
على امتداد السرد، يظهر الكاتب حفاوة وازنة بالأمكنة. فتحضر عبر مكانين مركزيين، بروكسل، حيث العيادة التي يستردّ فيها تاريخ عائلته، وموريتانيا، حيث قلعة تامشكط، والطريق إلى أنيور، ومحطة سنلوي، وقلعة نواكشوط على ضفاف المحيط حيث قُدّر أن تلتقى الأم «منينة» بفارسها المخلّص، والصحراء التي بذل جهده ليعرفنا إلى تفاصيل عاداتها وطقوسها، ولياليها الموحشة والرائعة، ومجالس السمر والشعر والضيافة.
واستدعى اختيار غرناطة مكانًا لسقوط الطائرة، وموت «منينة» سقوطًا آخر، ما زال يحفر في الذاكرة الإسلامية والعربية ؛ وهو سقوط آخر معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية.
وتعاين الرواية أزمنة متعددة، زمن نفسي حَكَمَ مسارَ السرد، وجعل البطل يعيش حياة مأزومة، قوامها التخبط بين الحاضر والماضي، بين الذات والآخر، بين الواقع والحلم. (وبدا لي أنّ الحياة برمتها مجرد لعبة مسلية مع الزمن) (ص ٦٧) وهو الرجل الخمسيني الذي بقي مسكونًا بحضن أمه المفقود. «لو كان بمقدوري أن أُشفى مما يسميه الشيخ برنارد «حالة الاشتباك المزمن والعويص» التي تعكّر حياتي مذ غادَرَتْ وتركَتْني وحيدًا من خمسين سنة.. وها أنا فوق الخمسين ولم أستطع نسيانها»(ص١١٧).
ويحضر زمن الاستعمار والذل والقهر، وزمن الاستقلال والتحرّر المنشود الذي ظلّ حلمًا في ظل الواقع المأزوم، والفساد المستشري والظلم المعمّم..
ينبش جوزيف بلانشيه الذكريات الدفينة في تجاويف عقله، علّه يجد مخرجًا لمأزقه المعيش، كونه يحمل هويتين فرنسية وموريتانية، يبتكر طريقة مبتكرة لاستحضار ماضي والدته عبر الصوم، محاكيًا الخلوة الصوفية، ولكن بأدوات طبية حديثة (لا مجال لرؤيتهم إلا بالتوق والشوق والصوم... تذكرت في ذلك المساء أغنية صوفية.. ارتسمت أمامي مقروءةً على جدران غرفة النوم..(ص٦٩). فحلّ الطبيب برنارد، مكان الشيخ الصوفي في الإرشاد والتوجيه.. وما موضوع حبة الدواء إلا لإحالة الموضوع إلى العلم وتطوره، وهروبًا من التصريح المباشر باتباع المسار الصوفي في الصيام والذكر والعزلة.
عند بدء عملية العودة بالزمن إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حيث مكمن طفولة «منينة»، تبدأ الشخصيات بالتدفّق، فيطلّ جدّه مختار الأعيور شيخ قبيلة المناذير، وقاطع الطرق المشهور، ووالده باتريك بلانشيه، ومنينه بلانشيه، الأنثى التي جمعت الجمال والذكاء، ولاحقًا المال، صوّرها الكاتب فتاة أسطورية، وموضوعًا للعاشقين، وامرأةً يقصدها الشعراء، يحجّون إليها من كلّ فج عميق، لتُلهِم عقولَهم. امرأةٌ لا يقاوَم سحرها، ولا تُقَاربُ فتنتُها، عاملها الحاكم جيروم بلطف، وهو الذي استقدمها لإذلال أسرتها، فجعل منها موضوعًا للوحاته، استسلم الجنود في تامشكط لجمالها، وأحسنوا معاملة والدها، أُغرم بها الشاعر مختور وصديقه اللبناني، وعشقا السفر الطويل معها، واحتفى بها الشيخ الرحموني وأسبغ عليها من بركاته، وفُتن بها الحاكم الفرنسي (باتريك) فاعتنق الإسلام ليتزوجها. لم تيأس من غدر الزمن، وقسوة الحياة وبطش المستعمر، فطوّعت الأمكنة والشخصيات لمصلحتها. تلك الفتاة البدوية التي خرجت من تامشكط على متن شاحنة، وعادت إليها تقود طائرة، فيستقبلها الجنود بمعزوفة تتغنّى بجمالها، لتنتهي نهاية مأساوية تليق بأسطورة يتغنى بها من عرفها، ومن تواترت إليه أخبارها..
«منينة بلانشيه» رواية جميلة، تستحق القراءة وتحمل إشكاليات كثيرة، وتخوض في عوالم خاصة، وموضوعات إشكالية، كالاستعمار والاستقلال، والفساد في موريتانيا، وعادات أهل الصحراء وغيرها، معلنةً عن مبدعٍ جديدٍ في عالم السرد العربي من بلد المليون شاعر.
نقلا عن الروائى والكاتب محمد ولد أمين