منذ قيام الديانتين السماويتين المسيحية والاسلام ، و نشوء الحضارتين اليهودية المسيحية و العربية الاسلامية المنبثقتين عنهما ، برز تنافس شديد على الريادة الروحية بين الديانتين وقام تقاطب قوي بين الحضارتين من أجل احتلال مكانة الصدارة و الريادة على مستوى العالم, وقد اكتسى هذا التقاطب الوجودي أشكالا عديدة تجلت في الحروب الصليبية و الاحتلال الجغرافي و الاستعمار السياسي و التنافس الفكري و العلمي و المؤسسي, و كان أن بلور الغرب تدريجيا منظومات قيمية و نماذج مؤسسية تستهدف تبني و تكريس مبادئ الديمقراطية و ما يتصل بها من حرية و عدالة و مساواة و تعددية سياسية و فكرية ، في حين استمرت البلدان الاسلامية عموما و العربية خصوصا في انتهاج انظمة سوسيو سياسية تنزع الى الشمولية السياسية و الأحادية الفكرية . و ضربت صفحا عن الاهتمام بحقوق الانسان و العناية بتكريس الحرجات الأساسية و العدالة و المساواة . ما حدا بالعديد من الدول الغربية التي تتباهى باعتمادها النظام الديمقراطي و بحرصها على صيانة الحريات الأساسية و الدفاع عن حقوق الانسان، الى اظهار التعاطف و التضامن مع من تعتبرهم ضحايا القمع و الظلم و الغبن و انتهاك الحقوق في المجتمعات الاسلامية و العربية على الخصوص. وكان الاعتقاد سائدا لدى العديد من الناس سيما لدى الطبقة المثقفة أن الدوافع الكامنة وراء هذه المواقف النبيلة في ظاهرها ، انما هي الطيبوبة و التشبع بالأخلاق الفاضلة و الاحساس العميق بالمسؤولية و الانخراط الى جانب الأهداف السامية و المثل الانسانية العليا . و من هنا كان الى وقت قريب ينظر الى عمل المنظمات الجمعوية و الحقوقية غير ذات الأهداف الربحية و الى مواقف الحكومات الغربية من القضايا الانسانية الدقيقة ، على أنها مواقف متزنة و عادلة وغير منحازة : همها الأساسي صيانة العدالة و الحفاظ على حقوق الانسان.
لكن أحداثا لافتة جرت على المشهد الدولي خلال العشرية الأخيرة ، أماطت اللثام عن الدوافع الحقيقة التي تكمن وراء مواقف و تصرفات العديد من الدول الغربية .
و اتضحت من خلال ذلك النوايا الحقيقية التي يبيتها جل الدول الغربية للأمة العربية و الاسلامية. وقد تجلى ذلك بوضوح خلال موجة العنف و المواجهات الدموية التي اجتاحت الوطن العربي في بداية العشرية المنصرمة و التي اطلقت عليها و زيرة الخارجية الأمريكية السابقة ، هيلاري كلنتون ، لحاجة في نفس يعقوب ، اسم “الربيع العربي”, حيث جيشت الدول الغربية كل وسائلها الاعلامية و الدعائية و الاستخباراتية و اللوجستية و العسكرية لتسخين المشهد السياسي و تحريض الجموع الغاضبة و تشجيعها على التمادي في المواجهة مع السلطات العمومية مع تهييج القوى الغوغائيىة واستدراجها الى تحطيم المنشآت و تدمير البنى التحتية سعيا الى تأجيج المواجهات وصولا الى تمزيق النسيج الاجتماعي للمجتمعات العربية و اعداد الأرضية الملائمة للحرب الأهلية المدمرة.
ولقد بات واضحا أن البواعث الحقيقية لتدخل الدول الغربية في العالم العربي خلال ما سمي تجاوزا بالربيع العربي و حتى قبله ، لم يكن للتعاطف مع طموحات الشعوب العربية في سعيها الى توفير ظروف معيشية أحسن و لا للتماهي مع تطلعاتها الى اقامة أنظمة ديمقراطية تكفل الحريات و العدالة و المساواة للجميع . انما الدوافع الحقيقية كانت اثارة الفتن و اذكاء النعرات و احداث الصدامات بين مختلف الفئات و الشرائح الشعبية و بينها مجتمعة و بين السلطات العمومية و الدوائر الرسمية. و ذلك للحيلولة دون أخذ الشعوب العربية بأسباب النمو و التقدم و الارتقاء ، و لتأبيد تخلفها و للسعي الى وضع اليد على ثرواتها و مقدراتها و استتباعها سياسيا و ثقافيا و حضاريا.
فاحتلال العراق من طرف اميركا سنة 2003 الذي تم تبريره بالسعي الى تحطيم أسلحة الدمار الشامل و الا طاحة بالنظام الدكتاتوري العراقي، و اقامة نظام ديمقراطي على أنقاضه ، كان يستهدف في واقع الأمر تدمير القاعدة العلمية العراقية و تحطيم ما انجزه النظام العراقي بقيادة الزعيم صدام حسين من بنى تحتية معتبرة رغم ظروف الحصار الخانقة.
و تدخل دول الناتو في ليبيا سنة 2011، لم تكن أهدافها الحقيقية دعم انتفاضة الشعب الليبي ضد نظام البلاد السياسي الذي كانت تربطه علاقات وطيدة بالغرب . فلم تكن مصالح الشعب الليبي من بين هواجس الزعيم الصهيوني برنارد هنري ليفي و لا من ضمن هموم عرابي الصهيونية العالمية توني بلير و ساركوزي و برلسكوني.. انما الأهداف الأساسية المتوخاة كانت تحطيم البنى التحتية للجماهرية العربية الليبية و الاستحواذ على ثرواتها النفطية و منع العقيد معمر القذافي من تحقيق مشاريعه الكبيرة في القارة الافريقية و التي كانت تتعارض و المصالح الغربية الحيوية في المنطقة.
ولم يكن دعم الغرب القوي للحرب الأهلية المدمرة التي اندلعت بسوريا سنة 2011 و احتضانه لقادتها يستهدف مساعدة الشعب السوري بتخليصه من دكتاتور دموي بغيض و من نظام شمولي مقيت ، و معاونته على اقامة نظام ديمقراطي يكفل له الحرية و العدالة و المساواة و الرفاهية . و انما كان وراء تدخل الغرب ومن حذا حذوه بسوريا أجندة خبيثة رعناء تستهدف تركيع نظام الممانعة الوحيد في المنطقة العربية و احتلال الأراضي السورية و شرذمة الشعب السوري و تفتيته و الاستيلاء على ثروات و خيرات الجمهورية العربية السورية المقاومة ، ثم تحويل البلاد الى كانتونات مفككة ضعيفة و مستتبعة, وذلك تنفيذا لخطة استراتيجية اسرائيلية كانت قد بلورتها المنظمة الصهيونية العالمية و نشرتها على صفحات مجلتها “كوفونيم” في عد د لها صدر بالقدس في 14 فبراير 1982. و هو ما استلهمه منظرو الفوضى الخلاقة و دعاة الشرق الأوسط الجديد.
و المؤامرة الخبيثة و الهدامة التي بدأت منذ اندلاع الحرب الأهلية تحاك ضد سوريا لم تكن ربما لتخطر في كل تفاصيلها على بال أحد لولى أن موقع ويكي ليكس ، قام سنة 2004 بتسريب وثيقة بالغة الأهمية كان قد أعدها ضابط المخابرات الأميركي السابق أدوارد سنودن. وتوضح هذه الوثيقة أن ما عرف بجبهة النصرة قد استولد بطريقة قيصرية من رحم منظمة القاعدة اثر اجتماع سري عقد في 19 فبراير- شباط 2004 بقصر أحد الأمراء العرب جنوبي لندن ،حضره مديرو المخابرات الأمريكية و البريطانية و الاسرائيلية. تم خلال هذا الاجتماع الاتفاق بين الحاضرين على جلب المتطرفين من شتى أنحاء العالم و تجميعهم في العراق ضمن عملية سميت ب”عش الدبابير” وتم تبعا لذلك انشاء جيش من المتطرفين من أصول عراقية و سعودية و يمنية و تونسية و فرنسية و بريطانية و غيرهم. و اتفق المجتمعون على تنصيب المدعو أبي مصعب الزرقاوي قائدا لهذا الجيش . و تم تحويل 860 مليون دولار عبر الشاحنات الى الزرقاوي بهف تدمير المقاومة المسلحة العراقية ثم اكتساح الأراضي السورية. و بعد مقتل الزرقاوي سنة 2006 على يد الضابط البريطاني مايكل آريسون ، بدأ الاعداد لتسليم قيا دة التنظيم الى المدعو أبي بكر البغدادي حيث جيء به لاحقا من سجن بوكا ببغداد لهذا الغرض ، قبل أن ينقل على متن طائرة أميركية خاصة الى اسرائيل حيث تلقى تدريبا عسكريا ومخابراتيا مكثفا لدى المساد في مركز نحال موشي . ثم عاد بعد ذلك الى الأنبار ليتسلم رسميا قيادة التنظيم سنة 2007. و شرع من وقتها في تهريب الأسلحة الى القرى السورية التي يغلب فيها نفوذ الاخوان المسلمين . كما بدأ في ضخ الأموال الى الداخل السوري . وما أن انطلقت القلاقل في مدينة درعة حتى كان هناك 17 الف مقاتل سوري تم تدريبهم العسكري في أحدى دول الجوار و بعض البلدان العربية. و كانت تصرف لكل محارب 750 دولار كراتب شهري . و اتخذت التدابير اللازمة لكي تصبح سوريا محطة يجتمع فيها كافة المتطرفين الاسلاميين في العالم. و هكذا بلغ عدد الجنسيات التي تقاتل في سوريا 87 جنسية ووصل عدد الارهابيين المنخرطين في القتال 148 الف مقاتل . وقد أنفق على هذه العملية 107 مليار دولار وفرتها بعض الدول العربية بناء على تعليمات أمركية.
هذا ما كشفته وثيقة ادوارد اسنودن الاستخباراتية التي سربها كما ذكرنا موقع ويكي ليكس مؤخرا. و ما يمكن استخلاصه من هذه الوثيقة الهامة هو
أن الدول الغربية و غيرها التي تنادت الى سوريا بدعوى الدفاع عن حقوق الانسان و تحت ذريعة مؤازرة الثوار و مساعدة الشعب السوري على اقامة الديمقراطية و تأمين العدالة و الحريات الأساسية في هذا البلد ، كانت لها في واقع الأمر أجندة خفية و مآرب مشبوهة و كانت وراءها نوايا خبيثة تستهدف في المقام الأول المساس بسلامة الأراضي السورية و بتماسك و استقرار الشعب السوري المقاوم.
و لم تكن سوريا هي البد العربي الوحيد المستهدف من الغرب ، و انما ثمة ارهاصات و مؤشرات تدل على أن هناك مؤامرة تحاك في السر و العلانية ضد أمن و استقرا العديد من الدول العربية الأخرى ، و ضد تماسك و انسجام والتحام شعوبها و سلامة حوزتها الترابية. و من بين هذه الدول على سبيل المثال لا الحصر ، السودان الذي كان قد تم تمزيقه و شرذمته فيما قبل ، و السعودية التي يستهدف من خلالها المساس بمقدسات الامة الاسلامية و تماسك شعوبها ثم موريتانيا التي كشف مؤخرا بخصوصها موقع ويكيليكس معلومات خطيرة حول شروع الموساد الاسرائيلي في تنفيذ مخطط لتمزيق الوحدة الداخلية للبلاد من خلال العمل على انشاء مليشيا مسلحة يشرف على تكوينها و تأطيرها و تدريبها و تزويدها بالسلاح بعض رجال الموساد العاملين بفرنسا بالتعاون الوثيق مع بعض العملاء الموريتانيين المندسين في البلاد و الذين ينشطون تحت غطا العمل الجمعوي و الحقوقي و تحديدا الدفاع عن حقوق الانسان و مكافحة الرق و الاستعباد.
و خلاصة القول في هذا المضمار، هي أنه ينبغي أن لا يضيع العرب وقتهم في لوم الغرب على المضي في استغفالهم و التآمر عليهم ووضع المخططات لتفكيك شعوبهم و تمزيق اوطانهم و استتباعهم اقتصاديا و سياسيا و ثقافيا و حضاريا . فهذا دأب الأمم و ديدنها . و هذه سنة الله في خلقه . ولا يقع اللوم على الأمم التي تسعى الى التنفذ و بسط الهيمنة و احكام السيطرة على غيرها ، و انما اللوم كل اللوم يقع على الأمم التي ترضى بالاستكانة و الدونية و التبعية . فمن وهن استضعف و من قوي رام السيطرة و التجبر و انما العاجز كما يقال من لا يستبد. وفي هذا الصدد قال الشاعر أبو الطيب المتنبي :
و الظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم.
الدكتور محمد الأمين ولد الكتاب