غَدًا الأربعاء يَمُر شَهر على اغتيالِ الصِّحافيّ السعوديّ جمال خاشقجي في قُنصليّة بِلاده في إسطنبول، والحَقيقة الوحيدة الثَّابِتَة حتّى الآن أنّه دَخَل هَذهِ القُنصليّة حَيًّا وخَرَجَ مِنها جُثَّةً هامِدةً، ولكن الأمر الذي ما زالَ لُغْزًا مُحيِّرًا هو وَضع هَذهِ الجُثّة، مُقَطَّعة أم مُتكامِلة، برأسٍ أم بُدونِه؟ ومن الذي أصدر الأوامِر بقَتلِه، وكيف ستَكون الحلقة النِّهائيّة مِن هذا المُسلسَل؟
السُّلطات السعوديّة اعترَفت بأنّ جريمَة القتل حدثت فِعلًا داخِل قُنصليّتها، وسمّت “فريق الموت” المُكَوَّن مِن 15 شَخْصًا قالَت أنّه مَسؤولٌ عَن التَّنفيذ، ولكنّها رَفَضَت كُل طلبات تُركيّا الكَشف عن اسمِ العميل المَحليّ الذي تسلَّم الجُثّة، وماذا فَعَلَ بِها، واسم الشخص الذي أصدَر الأمر بالتَّنفيذ، فمِن الواضِح، ومِن خِلال دِراسَة الطَّريقة التي تتعاطَى فيها السُّلطات السعوديّة مع هَذهِ الجَريمة، أنّها تُؤمِن بأنّ الاعتراف بالقَتل أقل خُطورَةً مِن الكَشفِ عن مكان الجثمان، ووضْعيّته، لما يُمكِن أن يتَرتَّب على ذلِك من تداعياتٍ رُبّما تَنعكِس سَلبًا على النِّظام السعوديّ الحاليّ برُمَّتِه، وتُطيح برؤوسٍ كَبيرةٍ جِدًّا فيه.
***
لا نَعتقِد أنّ الرئيس رجب طيّب أردوغان سيتلقّى أيَّ إجاباتٍ عن الأسئلة التي وجّهها إلى النائب العام السعوديّ سعود المعجب الزائِر حاليًّا لتُركيّا، حول مكان الجُثمان أو الشَّخص الذي أصَدَرَ الأمر بالقَتل، لأنّ السيد المعجب، وبِكُل بساطة، لا يَعرِف مكان الجُثّة أوّلًا، ولا يَجرُؤ على تَوجيهِ أصابِع الاتِّهام إلى الأمير محمد بن سلمان، وليّ العَهد، مِثلَما يتَوقَّع، ويتَمنَّى الرئيس التركيّ.
الرئيس أردوغان واجَه المُدُعي العام السعوديّ بالقَول “علينا حَل هَذهِ القضيّة، ولا داعِي للمُراوَغَة، ومِن غير المَنطقيّ مُحاوَلة إنقاذ أُناسٍ مُعيَّنين”، في إشارَةٍ إلى الأمير محمد بن سلمان، ولكن المَطالِب نفسها يُمكِن توجيهها أيضًا إلى الرئيس أردوغان الذي تَوعَّد بكَشفِ كُل الحَقائِق، وشدَّدت مَصادِر مُقرَّبة مِنه أنّه يَملُك تَسجيلاتٍ بالصَّوت والصُّورة تُؤكِّد كيفيّة حُدوث هَذهِ الجَريمة، واطّلع عليها العَديد مِن المسؤولين كانَ آخِرهم السيدة جينا هاسبل، رئيسَة جِهاز المُخابرات المَركزيٍة الأمريكيّة، التي زارَت أنقرة قبل أُسبوعَين، وقَدَّمت شهادَتها بعد عودَتِها مُباشَرةً إلى رئيسِها دونالد ترامب الذي التزَمَ الصَّمت مِن حينِها ولم يأتِ على هَذهِ السِّيرة مُطْلَقًا، فَكَّ اللهُ عُقدَةَ لِسانَه.
السعوديّون لن يُسلِّموا المُتَّهمين الـ18 لمُحاكَمتهم أمام مَحاكِم تركيّة، ولن يَكشِفوا عن مَكانِ الجُثّة، والرئيس أردوغان يَعلَم هَذهِ الحَقيقة جيّدًا، والسُّؤال المُلِح هو عن استمرارِه في طَرحِ هَذهِ المَطالِب، والإحجام عَن كَشفِ الحقائِق، كُل الحَقائِق، دُفعةً واحِدةً أو الانتقال إلى المَرحَلةِ التَّالية، أيّ التَّحقيق الدوليّ الذي سَيُلزِم السعوديّة بالتَّعاون مع المُحَقِّقين.
المَصادِر التُّركيّة عادَت إلى سِلاحِ التَّسريبات مُجدَّدًا، وأبْرَز ما سَرّبته قبل يَومين هو وجود قائِمَة اغتيال لدى السُّلطات السعوديّة التي وَقَفت خلف اغتيال خاشقجي، تَضُم أسماءً أُخرَى لمُعارِضين سُعوديّين في أكثَر مِن مَكانٍ في تركيا ودُوَل أُوروبيّة وشَرق أوسطيّة أُخرَى، وأنّ الجِهَة التي تَقِف خلف مُخَطَّط الاغتيالات تتعاوَن مع أجهِزَة مُخابَرات أمريكيّة ومِصريّة وإسرائيليّة وإماراتيّة، وتُؤكِّد أنّ إحدَى فُصول هذا المُخَطَّط تَسْتَهدِف الرئيس أردوغان شَخْصيًّا، ولكن هَذهِ التَّسريبات، مِثل سابِقاتِها، تُغرِق في العُموميّات، ولا تُسَمِّي أيَّ أسماءٍ ممّا يَجْعَلها مَوضِعَ شَكٍّ.
الأمر المُؤكَّد أنّ السُّلطات السعوديّة، والأمير بن سلمان على وَجهِ الخُصوص، انتقَلت مِن مرحَلةِ الهُجوم إلى مَرحَلةِ الدِّفاع، وباتَت أكثَرَ مُرونَةً في التَّعاطِي مع الكَثيرِ مِنَ المِلفّات الإقليميّة، وتَستخدِم أقوَى أسلِحَتها، أيّ المال، لتَجنيدِ الحُلَفاء إلى جانِبِها في مُواجَهة هَذهِ الأزَمَة، التي تُشَكِّل تَهديدًا وُجوديًّا لها لم تُواجِه مِثله مِن قَبل لتَشابُك خُيوطِها، ووجود أطرافٍ عالميّة في ثَناياها.
***
التَّطوُّر الأهَم، والأكثَر حِدّةً في أمريكا ليسَ التَّحشيد الإعلاميّ خلفَ هَذهِ القضيّة بهَدفِ إبقائِها حيّةً لأطولِ فَتْرةٍ مُمكنَةٍ، وإنّما ظُهور نَظريّة جديدة مِن أبرز المُرَوِّجين لها البرلمانيّ الجمهوريّ إيليوت أبرامز، المَسؤول السَّابِق في إدارَة الرئيس الأمريكيّ الأسبَق جورج بوش الابن، حَيثُ تَجِد أصداءً واسِعَةً في الكونغرس وأوساط النُّخبَة السياسيّة والاقتصاديّة، تقول مُفرداتُها أنّ وقف بَيع صَفَقات أسلحة إلى السعوديّة ليس هُو الحَل، مِثلَما يُطالِب كَثيرون، وإنّما تَغييراتٍ في النِّظام السعوديّ، وتوسيع دائِرة صُنع القَرار، وعدم تَركيزِها في يَد شَخصٍ واحِد، فالخِيار الأوّل أي وقف بيع الأسلحة، سيَصُب في مَصلَحة إيران، ودُوَل مِثل الصين وروسيا الجاهِزة لِمِلء أيِّ فَراغٍ أمريكيٍّ في هذا الصَّدد، وجَنِي مِئات المِليارات مِن الخَزينَةِ السعوديّة.
صَمْت ترامب رُبّما يكون السُّكون الذي يَسْبِق العاصِفَة، مِثلَما يقول البَعض في واشنطن، لأنّ مُحاولاتِه إنقاذ “صديقه” الأمير بن سلمان في نَظَرِ هؤلاء، وَصَلت إلى طَريقٍ شِبه مَسدودٍ، و”المُؤسَّسة” الأمريكيّة باتَت مُتأهِّبَةً لمُواجَهته، ورُبّما تَضييقِ الخِناق وحبل المِشْنَقة حول عُنُق رِئاسَتِه.
نَحنُ في انتظارِ أمْرَين مُهِمَّين وأساسيّين في هَذهِ القضيّة، الجُثّة ومَصيرُها أوّلًا، ووُعود أردوغان بَكشْفِ الحَقيقةِ كامِلَةً ونَشْرِ الأدِلّة المُسجّلة صَوتًا وصُورةً.. ونأمَل أن لا يَطولَ انتظارُنا.. وحِينَها لكُل حادِثٍ حَديث.
عبد الباري عطوان