هزت حادثة احتجاز ثم إخفاء الكاتب السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول ضمير العالم أجمع، ـ بغض النظر عن مواقف هذا الكاتب وطبيعة علاقته بالنظام في المملكة ولا سيما مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
فما يعرفه الناس عن هذا الكاتب انه ليس من أهل التطرف السياسي والأصولي، برغم اعتراضه الشديد على حفلة احتجاز مئات الأمراء ورجال الأعمال في السعودية (سرعان ما أضيف اليهم رئيس الحكومة في لبنان سعد الحريري الذي لم يفرج عنه إلا بوساطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان في زيارة لدولة الإمارات وعدل خط سير عودته ليهبط في الرياض، فلا يرتاح إلا بعدما جاءه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بسعد الحريري فاطمأن عليه، ونال وعداً ملكياً بالإفراج عنه موجهاً اليه الدعوة لزيارة باريس.. طالباً أن تلتحق به عائلته في العاصمة الفرنسية، وهكذا كان..)
كذلك يعرف الناس عن هذا الكاتب ان له محاولات في الرواية.. على انه، وبعد إقدام الأمير محمد بن سلمان على احتجار أبناء عمومته والعديد من كبار رجال الأعمال وفرض “الجزية” عليهم بإجبارهم على توقيع التنازلات عن معظم ما يملكون، رتب الخاشقجي أمر خروجه من المملكة الى واشنطن التي يعرف بعض كبار الصحافيين فيها، وهكذا أخذ يكتب مقالات لا تتعرض مباشرة للأوضاع في المملكة وإنما بالتلميح.. المفهوم.
ولأن الخاشقجي كان على ارتباط بفتاة من تركيا، خطبها وكان ينوي الزواج منها، فقد جاء من واشنطن الى اسطنبول.. وكان طبيعياً أن يقصد القنصلية السعودية، ربما من أجل تأمين التأشيرة لخطيبته.. وهكذا دخل ولم يخرج!
كان من الطبيعي أن تفاجأ تركيا أردوغان بهذا الخروج النافر على الأصول، وعلى العلاقات الحميمة بين السعودية وبينها، وربما لهذا فضلت التريث قبل أن تبدأ بتسريب الوقائع.. أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب فقد استفزته الواقعة غير المسبوقة، وبدأ يطلق الاتهامات ضد السعودية، وخابر الملك سلمان معنفاً بما يشبه الإنذار، مسفهاً ما قاله الأمير خالد بن سلمان، سفير المملكة في واشنطن، ومنذراً بعقوبات صارمة اذا ثبت أن للمملكة علاقات بالاختطاف ثم بإعدام الخاشقجي.
في هذه الأثناء أخذت تتسرب التفاصيل عن احتجاز الخاشقجي، ثم عن تصفيته داخل القنصلية، ودخول أكثر من عشرين رجل من المخابرات السعودية، والتحايل لنقل جثته في سيارة مقفلة كانت في الانتظار، ثم انطلقت الى مكان مجهول، وربما الى طائرة كانت على أهبة الاستعداد للانطلاق.
أخرس الحرج السعودية، وهدأ أردوغان من غضبته تاركاً للرئيس الأميركي ترامب “قيادة الحملة”، فلم يكن يمر يوم من دون أن يطلق سلسلة من التصريحات عن “عملية الخاشقجي”، وقد تابعها بتفاصيل التفاصيل، معتبراً أن هذا الكاتب كان يقيم معظم الوقت مؤخراً في واشنطن ويكتب في بعض صحفها، وبالتفالي فثمة مسؤولية معنوية تتحملها إدارته..
واستعاد أصحاب الذاكرة الحية واقعة اختطاف النقابي السعودي ناصر السعيد من بيروت، خلال الحرب الأهلية في لبنان، بواسطة بعض عناصر تنظيم فلسطيني ونقله، على وجه السرعة الى المملكة، حيث يقال انه قد ألقي من الطائرة في “الربع الخالي”… وكان طبيعياً أن تختفي آثاره.
وكان ناصر السعيد نقابياً ناشطاً، وحين أحس بالخطر على حياته هرب الى القاهرة، حيث عاش بضع سنوات، قبل أن توفده مصر الى صنعاء بعد تفجرها بالثورة ضد الإمام أحمد حميد الدين ثم خليفته ابنه بدر الذي خلفه على العرش الذي يعيش ـ ويفرض على اليمن ان تعيش في القرون الوسطى حتى تم خلعه، وأعلن قيام الجمهورية العربية اليمنية بقيادة العقيد الذي صير مشيراً عبد الله السلال.
بعد اليمن، عاد ناصر السعيد الى القاهرة.. لكنه لم يكن يطيق الجمود والصمت، وهكذا جاء الى بيروت، وتطوع للعمل مع بعض المنظمات الفلسطينية، وانجز كتاباً ضخماً عن الأسرة الحاكمة في السعودية.. ثم اختفت آثاره بعد زيارة للقاء مفكر لبناني شاب.. قبل أن يعرف انه اختطف بعدما نزل الى الشارع (وهو متنكر) ليعود الى حيث يقيم، لكن “الطائرة” كانت في انتظاره.
****
فلنتجاوز الخطف والقتل، سواء في بلاد المجني عليه أو خارجها، ولنعد الى السؤال الجوهري الذي يقض مضاجع العرب: الى متى ستستمر بعض الأنظمة العربية في اعتماد مثل هذه اللغة مع “رعاياها”؟!
ان الأوضاع القائمة في معظم الدول العربية، وبينها تلك التي لولا النفط والغاز لما كانت دولاً بملك وعلم ونشيد وجيش مستعار، تستخدم للتشهير بالإنسان العربي ودمغه بالتخلف والغربة عن العصر.. هي أوضاع مهينة لكرامة الوطن والمواطن.
ان الانسان العربي، بشكل عام، أرقى من حكامه.. فالخارجون على القانون في أي بلد عربي هم قلة ضئيلة، في حين ان الأكثرية الساحقة، وبغض النظر عن موقفها من نظامه، تلتزم الأصول وتحترم القانون، وتسعى لأن تعيش بكرامة، ولو فقراء.
وحين يقوم ولي عهد السعودية بسجن عدد كبير من أبناء عمومته ورجال الأعمال فاحشي الثراء ثم يصادر معظم ثرواتهم التي جنوها من دولتهم، نتيجة المحسوبية والرشوة، و”كشرهات” قدمها لهم “صاحب الأمر”، لا يكون في ذلك تحقيق للعدالة، إذ لا محاكمات، ولا مضابط اتهام تحدد “الجريمة” وتحكم بالعدل، وحسب القانون، وليس حسب المزاج..
ربما لو حوكم أولئك الذين احتجزوا لتهمة الإثراء غير المشروع والنهب المنظم لموارد الدولة، بتغطية من “مراجع عليا” لها حق الأمرة، لصفق الناس وهللوا للعدالة، وقد وجدت ـ أخيراً ـ طريقها لأن تقوم.. ولكان عقاب أولئك المرتشين أو النهابين عبرة لمن يعتبر.. أما في ظل اسلوب مناف للعدالة، وبلا محاكمة بمحامين وأدلة وشهود، فإنها تحول الظالم الى مظلوم والسارق الى ضحية ومصادرة الثروات غير الشرعية من خارج شرعية العدالة نهب بالأمر الملكي واستقواء بقوة السلطان.
ومن أسف فان الحاكم في بلادنا يعتبر نفسه القاضي الأول، بل انه كثيراً ما يعيد تفسير القوانين حسب حاجته أو رغبته أو.. مزاجه.
ومن العار أن تبدو تركيا وقبلها الولايات المتحدة الأميركية أحرص على سلامة الرعايا العرب من “أهلهم”، من نوع جمال خاشقجي الذي تبقى “جريمته” في خانة التعبير عن الرأي، من دون إطلاق التهم جزافاً، ومن دون المس بالذات الملكية: فهل أردوغان وترامب أرأف بالرعايا العرب من دولتهم، خصوصاً وانها حاكمت غيابياً (وفي الظلام) وحكمت ونفذت من دون أي احترام للقانون والعدالة وإعطاء “المتهم” ـ ولا سند ـ الحق بالدفاع عن نفسه.
ان ما حدث لجمال خاشقجي، الذي قد لا يوافق كثير من العرب على آرائه، هو جريمة لا يمكن الدفاع عنها، أو الصمت عليها، بغض النظر عن الموقف السياسي من المملكة ونظامها، ومن أردوغان وغروره، ومن ترامب وتغريداته صباح كل يوم، أو تصريحاته الصاعقة في صراحتها والتي يطلقها مزهواً، بأنه “الحاكم بأمره” في العالم اجمع.
واضح ان ترامب سيستغل هذه الواقعة المحزنة ليبتز السعودية أكثر مما ابتزها حتى اليوم.. وهو لا يخفي ذلك بل يعبر عنه علناً… وفي مكالمته مع الملك سلمان بن عبد العزيز اسمعه كلاماً جارحاً في صراحته مطالباً بأن يكون الشريك الأكبر في دخل المملكة من النفط طالما ان الولايات المتحدة هي من يحميه، وهي المشتري الأول لنفطه، ولا بد من إعادة النظر في أسعاره، حرصاً على تمكين المواطن الأميركي من ان يعيش مرتاحاً!
*****
ان هذه الجريمة تتجاوز شخص جمال خاشقجي لتصيب كل مواطن عربي في كرامته واعتزازه بعروبته.
… وهي تضاف الى السجل الحافل بالقتل والتي تفيض دماء ضحاياه عن حدود اليمن، جنوباً وشمالاً، وفلسطين حيث تفتك قوات العدو الاسرائيلي بالفتية الأغرار أبناء المستقبل وبناته.. ولو قدر لهم أن ينجوا من الموت بالسلاح الأميركي، الذي لا رادع له ولا محاسب عنه.
طلال سلمان كاتب وناشر ورئيس تحرير صحيفة السفير