مائة عام من الصراعات وتعثر محاولات الاصلاح في المنطقة العربية

سبت, 2018-01-13 22:41

محام وأستاذ محاضر في كليّة القانون -جامعة جورجتاون في واشنطن

أدناه هو بحث تحدث بمضمونه الدكتور داود خيرالله في ندوة "مركز الحوار العربي" – يوم الأربعاء 10-1-2018

صدور وعد بلفور في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1917، وتنفيذه على أرض فلسطين، لا يمكن فهمه سوى من خلال جهود صهيونيّة فاعلة لم تنقطع، مقابل جهل ووهن عربيّ لا زال يتفاقم. فعلى المستوى الدوليّ، صدر وعد بلفور في زمن تحكمه شريعة الغاب، ولم يكن فيه ضوابط فاعلة لسلوك الدول لجهة استعمال القوّة في خدمة مصالحها، وعن دولة كانت توصف بالعظمى، وبأنّ الشمس لا تغيب عن مستعمراتها. فكان اللّجوء إلى القوّة وشنّ الحروب، من الوجهة القانونيّة والعمليّة،  من امتيازات الدول وخصوصاً الكواسر منها.

ولكنْ على أثر حربين عالميّتين ونزاعات دمويّة ذهبت بحياة الملايين، وخلّفت مآس قد تكون غير مسبوقة في التاريخ لضخامة حجم الدمار الذي أوقعت بالحجر والبشر، أدرك العالم ضرورة وضع ضوابط لحق استعمال القوّة في العلاقات بين الدول، فأصبح حظر استعمال القوّة، وشنّ الحروب كوسيلة لحلّ النزاعات بين الدول، مبدأً قانونيّاً راسخاً في القانون الدولي تكرّس بوضوح في ميثاق الأمم المتّحدة، الاتفاق الدولي الناظم للعلاقات بين الدول، والذي يُعتبر الأشمل والأعظم أثراً في الحفاظ  على السلم العالمي.

ولكن لعلّة بنيويّة في الميثاق الأممي، خصوصاً لجهة الامتيازات التي يمنحها الميثاق للدول الخمس الدائمة العضويّة في مجلس الأمن، الجهاز المسؤول عن الحفاظ على الأمن والسلم العالميين، وعلى رأس هذه الامتيازات حقّ النقض (الفيتو) الذي يعطي كلّاً من هذه الدول الخمس الحق في تعطيل عمل المجلس بالنسبة لأيّ قرار يمكن أن يصدر عنه، مهما كانت الحاجة إليه ملحّة، إذا اعتبرته إحدى هذه الدول ضارّاً بمصلحة لها،  فتلجأ إلى معارضة صدوره، أي استعمال حق الفيتو.

ففضلاً عن تعطيل المهمّة الرئيسة لمجلس الأمن، فإنّ حق الفيتو هذا يشكّل، بالنسبة للدول صاحبة ألإمتياز باستعماله، محفّزاً لمخالفة القانون الدولي وتعريضاً للسلم العالمي للخطر. وبالنظر لعدم توافر شروط وقواعد ملزمة لاستعمال حق الفيتو، بحيث يمكن أن تلجأ إحدى الدول الخمس إلى استعماله، ليس فقط دفاعاً عن مصالحها، بل في منع المساءلة عن الدول الحليفة التي تمعن في مخالفة القانون الدولي وإرتكاب الجرائم الدوليّة، كما تفعل الولايات المتّحدة بالنسبة لجرائم إسرائيل المتكرّرة والمتمادية بحقّ الشعب الفلسطيني، لذلك نرانا نعيش العودة إلى حكم قد شريعة الغاب.

هناك امتياز آخر يمنحه الميثاق لكلّ من الدول الخمس دائمة العضويّة في مجلس الأمن، وهو ضرورة موافقتها على كلّ تعديل للميثاق مهما بلغت الحاجة إليه. لذلك، في المدى المنظور، وكما تظهر المحاولات العديدة لتعديل الميثاق بهذا الصدد، وقد بآت جميعها بالفشل، من المستبعد جداً أن نرى تعديلا في الميثاق الأممي يخرجنا من هيمنة شريعة الغاب، ويساعد على تأسيس عدالة دوليّة يمكن الرجوع إليها للحفاظ علي الحقوق والمصالح المشروعة على الصعيد الدولي. وبالتالي أيّا كان التبدّل في ميزان القوى دوليّاً،   فلن يكون لذلك أي تأثير في استعادة الحقوق والحفاظ على المصالح العربيّة في فلسطين المحتلّة، وسواها من الأقطار العربية، خارج تغييرٌ جوهري في السلوك العربي.

ومن أسف أنّ التخاذل والتفكّك العربي لا يزال يتفاقم منذ وعد بلفور وحتّى يومنا هذا. ففي الفترة الزمنيّة التي كانت المنظّمات الصهيونيّة فيها تجمع اليهود من كافة أقطار المعمورة ومن خلفيّات ثقافيّة ولغويّة متعدّدة، وتدفع بهم إلى الإنصهار في مجتمع واحد  وسيلة التخاطب فيه لغة أعيد إحياؤها بعد غياب دام آلاف السنين، كان العرب يجهدون في إيقاظ وتفعيل هويّات فرعيّة تضمن تفكّكهم وإبعادهم عن التوحّد وبناء مؤسسات الدولة الضامنة لوحدة المجتمع وتمتين مناعته.

وفي حين تمكّن الصهاينة، وبفضل جهودهم بالدرجة الأولى، من تسخير مقدّرات الدول الكبرى في خلق كيانهم ومدّه بالإمكانات العلميّة والماديّة والعسكريّة، فضلاً عن توظيف نفوذ هذه الدول في المحافل الدوليّة في خدمة المصالح الإسرائيليّة، عمل العرب، وبنجاح، على إزكاء الفتن الداخليّة والتنائي عن كل ما من شأنه توحيد صفوفهم، وتفعيل قدراتهم، وتمكينهم من الدفاع عن الحقوق والمصالح العربيّة. كما حقّق العرب نجاحاً ملفتاً في تبذير ثرواتهم، وفي الإبتعاد عن الوسائل العلميّة العقلانيّة في التعامل مع الإشكاليّات والتحديّات التي يواجهون، والغرق في الجهل الضامن لتخلّفهم والمانع من تطوّرهم.

ولننظر في بعض الأرقام:

فحسب إحصائيات نشرها البنك الدولي وسواه من المنظّمات الدوليّة، (4 ) يشكّل العرب حوالي 5% من تعداد سكآن العالم (392 مليون في عام 2015)، وفي الفترة التي تمتدّ من تاريخ قيام الكيان الصهوني في العام 1948 وحتّى العام 2014 كان العالم العربي مسرحاً ل 17% من النزاعات المسلّحة، و 45% من الأعمال الإرهابيّة و 58% من مجموع اللّاجئين في العالم (5 ). في العالم العربي أعلى نسبة للبطالة عن العمل في العالم (6 ) وفي العالم العربي 97 مليون أمّي وهي من أعلى نسب الأمّية في العالم. (7)

من يعرف القليل عن الإمكانيّات الماديّة والثروات الطبيعيّة والطاقات البشريّة المتوافرة في العالم العربي ويرى هذا التردّي المشين يخلص إلى نتيجة أنّ هذا العالم يعيش حال أمّة هجرها العقل وكافة عناصر الحيويّة فاستسلمت إلى الموت البطيء.

ولا يجوز التعلّل بظلم القوى الخارجيّة وبنظام دوليّ ترعاه شريعة الغاب، كمبرّر لهذا الوهن العربي. فحتّى لو سلّمنا بأنّ العالم محكوم بشريعة الغاب، فإنّ شريعة الغاب وقوانين الطبيعة لا تسلب المخلوقات الحيّة جميعاً، حقّها في تفعيل جميع طاقاتها في الدفاع عن نفسها وعن مصالحها. فهل فعّل العرب يوماً جزءاً من طاقاتهم دفاعاً عن مصالحهم خصوصاً تجاه العدوّ الصهيونيّ؟

كلّنا مسؤول ربّما عن حالة التردّي هذه، وعن الشلل المقيم، ولو بدرجات متفاوتة، ولكنّ الطرف الّذي يتحمّل النصيب الأكبر من المسؤوليّة هو برأيي النخب العربيّة. وأقصد بالنخب العربية تلك المؤلّفة من أفراد يعون العقبات الواجب تجاوزها والعلل الواجب علاجها ويعملون، أو يعون واجبهم في العمل، على إنتقاء الخطط الملائمة وبذل الجهود أللّازمة لتنفيذها بنجاح، وليس بالضرورة الاقتصار على حَمَلَة الشهادات العليا والألقاب الأكاديميّة. فبعض هؤلاء اختار أن يعيش كما المخلوقات التّي همّها من الوجود تأمين قوتها.

فالنخب في المجتمعات الحيّة هي التي تعي العلل التي يعاني منها المجتمع والتحدّيات الواجب مواجهتها، وهي التي تضع الخُطَطَ لعلاجها. وهي في آن الأدوات الرئيسيّة للتغيير. فهي من يضع قواعد السلوك الإجتماعي والسياسي، وهي من يشرح ويفسّر هذه القواعد، وهي من يراقب عمل المسؤول عن تطبيقها.

فالخروج ممّا تعاني مجتمعاتنا العربيّة  من وهن وشلل، والنجاح في بثّ الحيويّة فيها، يقتضي بداية إدراكاً وتقييما دقيقاً للعلل التي نعاني منها، ومن ثمّ بذل الجهود اللّازمة لإيجاد العلاج الملائم والخطط الأكثر فعاليّة والالتزام ببذل أقصى المستطاع لتنفيذها.

المعوّقات الأساسيّة للإصلاح والتطوّر

قبل تناول بعض العلل التي اعتبرها حاضراً من أهمّ العقبات المانعة من وحدة المجتمع  والذاهبة بمناعته، والتي تشكّل عقبات أساسيّة في سبيل تطوّره، أودّ أن أتناول ما أعتبره فجوات وموانع أساسيّة تعيق النجاح في عمليّة التغيير في العالم العربي.

حتّى بروز الثورة العلميّة وظهور معالم الدولة الحديثة، بعد إتفاقيّة وستفاليا التي أنهت الحروب الدينيّة، ووضعت حدّاً لنفوذ الكنيسة في شؤون الدولة في أوربا، وأسست لنظام دوليّ جديد، لا بل حتّى الفترة الزمنيّة ألّتي شهدت نضوج الصراع الفكري في ما سمّي عصر التنوير في أوربّا، في القرن الثامن عشر، كان العالم بعامّة، يعيش ضمن نطاق منظومة معرفيّة ذات مصادر دينيّة وموروثات تقاليد مجتمعات بدائيّة. ومع التطوّر الذي صاحب نضوج الثورة العلميّة، والمشاركة الشعبيّة في الحكم، ونضوج دور أساسي للإنسان في قدرته على التغيير وواجبه في ذلك، في مناخ سياسي توافرت فيه حريّات أساسيّة في القرن التاسع عشر وانطلاق العصر الحديث، أصبحت ثمار التجارب العلميّة والتفاعل الفكري، هي أساس المنظومة المعرفيّة التي يركن إليها الإنسان في تسيير أمور حياته وتقرير مصيره.

ففي حين إنطلق الغرب ، وبعده مجتمعات في معظم القارات ، بالإفادة من منظومة معرفيّة أساسها العلم وثمار الجهد البشري في التفاعل مع ما تفرضه الحياة من تحدّيات، سهّلت له إستغلال طاقاته الإبداعية والإنتاجيّة، بقي الإنسان العربي يرزح تحت سيطرة القوى والمعتقدات التقليديّة كأساس للمنظومة المعرفيّة التي تحكم سلوكه وتضمن تخلّفه.

وبالرغم من ثروات طبيعيّة طائلة، وتوافر رأس المال البشري عن طريق الإحتكاك بشعوب متطوّرة، والتخرّج من جامعات دول بلغت مراحل متقدّمة من التطوّر العلمي والمؤسساتي، بقي الإنتاج العلمي والتطوّر المؤسساتي في المجتمعات العربيّة ضحلاً وفي أدنى المستويات مقارنة بالدول والمجتمعات المشابهة فيما يتعلّق بتوافر رأس المال بوجهيه المادي والبشري. ولم يتمكّن الإنسان العربي من وضع جذور صلبة للدولة الحديثة ومؤسساتها، وكذلك القيم الضروريّة لفعاليّة هذه المؤسسات، والضامنة لحقوق وحريّات أساسيّة هي المسهّل لتفعيل طاقات الإنسان الإبداعيّة والإنتاجيّة.

فالمشاركة الشعبيّة في الحكم، من خلال تفعيل مؤسسات تعكس إرادة المواطن في ترسيخ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكمقياس للشرعيّة وضمان وحدة المجتمع ومناعته، كما التزام حكم القانون ومعظم مؤسسات الدولة الحديثة، بقيت جميعها بعيدة المنال في المجتمعات العربيّة. وربّما من أهمّ الفجوات التي هي وليدة هذا التردّي الذي يسم المجتمعات العربيّة بعامة، هو غياب الوعي لأهمّية دور الحرّية في التغيير الإجتماعي وغياب الثقة بالنفس لدى الإنسان وقدرته على التغيير في المجتمع ومسؤوليّته في ذلك. ويتجلّى ذلك بوضوح في مجالات عدّة.

لم يكتسب المواطن العربي الثقة بالنفس في مقاومة التحدّيات والقدرة على التغيير في مجتمعه وواجبه في ذلك، ولكنّه لم يفقد إحساسه في التألّم من الظلم والأعباء التي تفرض عليه دون وجه حقّ. فهو يشكو من ظلم الإسرائيلي المحتلّ، ومن تعسّف الحاكم وفساده، ومن مواريث تقليديّة أصبحت من معوّقات تطوّره وضمان أمنه، ولكنّه لا يبدي تجاه ذلك كلّه سوى الشكوى والاستسلام لواقع لا مبرّر لاستمراره. فتسود في المجتمع ثقافة الهزيمة والإستسلام للأمر الواقع.

لذلك مهما اشتدّت شكوى العربي من علّة في مجتمعه، يكون ردّه على ذلك عبارات ك “فالج لا تعالج”، أو “الفساد أو الطائفيّه بدمّ” المواطن. وإذا كانت الشكوى من محتلّ أوظالم مثلاً، فالردّ هو “العين لا تقاوم المخرز”، وأمّا العلاج “فالإيد المافيك ليها بوسها ودعيلها بالكسر”. 

وليس تعامل النخب العربية مع التحدّيات الواجب مواجهتها أو العلل الواجب علاجها بأكثر فاعليّة. فعندما يقوم المثقّف العربي ببحث أو دراسة لعلّة هي مصدر ضرر جسيم أو خطر داهم على المجتمع، نراه يبذل جهداً ملحوظاً للإحاطة بكافة الأسباب، ويقدّم كلّ حجّة لتبرير الشكوى من العلّة وضرورة علاجها، لكنّه لا يبذل جهداً موازياً لبلوغ تصوّر لكيفيّة العلاج، ولا يبدي اهتماماً مقنعا لاشتراكه في تنفيذ هذا العلاج، إذا وُجد، مهما كانت الضرورة لذلك ملحّة. فيبقى في موقع من يراقب من كوكب آخر.

يبدو هذا التقصير بشكل بارز عندما نتفحّص ما يجري على الأرض من مظاهر النضال من أجل التغيير. فنادراً ما نرى في سلوك النخب، أو المؤسسات التي تدّعي العمل على التغيير، وضوحاً في الهدف وفي الوسيلة الضامنة لبلوغه. وأكثر ندرة هو الإلتزام في العمل باعتماد الوسيلة الأكثر ملاءمة، وربط الجهد بالنتيجة، حتّى بلوغ الهدف. إنّ مثل هذا السلوك، الضروري للنجاح في أي تغيير في المجتمع، يبدو غائباً تماماً عن الثقافة الاجتماعيّة السائدة في العالم العربي.

في العلل الواجبة العلاج والمؤسسات الواجبة التغيير.

إنّ التطوّر والتغيير من أجل الأفضل يحتلّ مركز الصدارة في معرَض القيم الاجتماعيْة لدى المجتمعات الحيّة المتطوّرة، في حين تختزن المجتمعات التقليديّة الفاقدة الحيويّة قدرة هائلة على مقاومة التغيير. لذلك، وبالنظر لواقع مجتمعاتنا العربيّة، علينا الإختيار بدقة أهداف التغيير والوسائل الأكثر ملاءمة لبلوغها.

العلل الواجب علاجها، والأهداف الواجب بلوغها، تكاد لا تحصى. ولكنّي سأقتصر على إثنين منها لما لهما من أهمّية للخروج ممّا نحن فيه، والتغلّب على أقسى ما نعاني في المجتمعات العربيّة.

لعلّ التمزّق في النسيج الإجتماعي، والشلل في المؤسسات العامة راهناً، هما من أخطر العلل الواجبة العلاج في المجتمع العربي. وبما أنّ نموّ وتفعيل الهويّات الفرعية، من طائفيّة ومذهبيّة وإتنية وسواها، هي السبب الأساس في هذا التشظّي وغياب الوحدة، وبالتالي المناعة، في معظم مجتمعاتنا العربيّة، كما هي من موانع وضع جذور صلبة لمؤسسات الدولة الضامنة لوحدة المجتمع، وهي كذلك السلاح الأفتك والأفعل الذي يحسن الأعداء تفعيله والإفادة منه، وعلى رأسهم الكيان الصهيوني ومناصروه، فسوف أتناول الطائفية (إختصاراً للهويّات الفرعية) كعلّة أولى واجب علاجها. وبالنظر للدور الذي للفساد وغياب حكم القانون في القضاء على قيم أساسيّة في المجتمع وعلى فعاليّة مؤسساته، فضلا عن القضاء على ثقة المواطن بمؤسسات الدولة، وعلى الثقة بين الحاكم والمحكوم، وحتّى بين المواطنين أنفسهم، فسأختار الفساد وغياب حكم القانون كعلّة أخرى واجب علاجها.

الطائفيّة هي إنعكاس إجتماعي لشعور بالإنتماء إلى طائفة معيّنة يخلق لدى الفرد المعني إرتباطات وولاءات لها أثرها على النسيج الإجتماعي الذي ينتمي إليه. وعمق هذه الإرتباطات والولاءات وحالة العصبيّة التي تصحبها مرهون بدرجة التطوّر الإجتماعي الذي يعيش فيه الفرد. فبقدر ما يكون المجتع بدائياً في تنظيمه وقيمه وروابطه، بقدر ما تشتدّ حالة العصبيّة الطائفيّة، وتصبح من معوّقات الإنصهار في مجتمع يغلب الولاء فيه لوطن جامع موحِّد لجميع أبنائه، على الإنتماء إلى روابط إجتماعيّة أخرى. ففي المجتمعات التي يغلب فيها الإنتماء القبلي أو الديني، في بعده الإجتماعي، يتقدّم الولاء إلى للطائفة، أو المذهب، على الإنتماء إلى وطن، بما يضمّ من قوانين ومؤسسات تعكس قيماً إجتماعيّة مشتركة.

الطائفيّة كثقافة إجتماعيّة يمكن إضعافها لمصلحة قيم ومؤسسات وطنيّة أرقى، كما  يمكن ترسيخها عن طريق اعتمادها كأساس للقوانين والمؤسسات المكوّنة للبنيان السياسي والقانوني في المجتمع. ولنا في لبنان، على سبيل المثال، الدليل الأوضح لمخاطر نموّ الثقافة الطائفيّة والفشل في بناء وطن فيه من الوحدة والمناعة ما يمكّنه من الإستقرار والتغلّب على التحدّيات، داخليّة كانت أو خارجيّة. ومن أهمّ مخاطر الطائفيّة أنّها تدفع باتجاه إلتزام، أو الرضوخ لخطاب سياسي ذو مرجعيّة دينيّة أو مذهبيّة، تكون بذاتهاعامل تفكّك اجتماعي كما أثبتت ذلك التجارب العربيّة خصوصاً خلال فترة ما وصف بالربيع العربي. وقد شكّل ذلك ويشكّل نقيضاً لتبنّي خطاب سياسي مستنير ذو مرجعيّة مدنيّة، يحفظ وحدة المجتمع ويسهّل تبنّي نظام ديمقراطي يوفّر الضمانات اللازمة لتنمية الحرّيات العامة وحقوق الإنسان وحكم القانون ومحاربة الفساد. ثمّ أن ظاهرة التمزّق الاجتماعي العربي رافقت وكانت إلى حدّ بعيد من تداعيات نموّ الهويّات الفرعيّة ذات المرجعيّة الطائفيّة أو ألمذهبيّة والخطاب السياسي ذي المرجعيّة الدينيّة. ولا يقتصر ذلك على المجتمعات المكوّنة من أقلّيات دينيّة أو مذهبيّة، ولكن داخل المجتمات ذات الأغلبيّة السنيّة كمصر.

لم تشهد الدول العربيّة منذ إستقلالها تشرذماً وتردّيا يشبه الوضع الذي نحن فيه. فقد وجدت إسرائيل، وأصدقاؤها من دول غربيّة وإقليمية، ضالتهم في تنمية الخطاب الديني والمذهبي لتمزيق المجتمع العربي. وقد إنعكس كلّ ذلك في تقلّص القدرة العربيّة على مواجهة التحدّيات الإسرائيليّة وفي غياب القضيّة الفلسطينيّة عن الهمّ العربي.

بعد الإضاءة على بعض الأسباب الموجبة لإزالة الطائفيّة من المجتمع العربي لمصلحة نظام سياسي مدني مستنير، سوف أتنناول المعوّق الآخر لتطوّر المجتمع وهو إستشراء الفساد وغياب حكم القانون (8).

ليس هناك إجماع على تعريف شامل يطال أبعاد الفساد كافة، ويحظى بموافقة جميع الباحثين فيه، وإن كان التعريف الأكثر رواجاً هو إستغلال أو سوء إستعمال الوظيفة العامّة من أجل مصلحة خاصة. فمكمن الضرر في الفساد هو أنّه يؤدّي إلى تفكّك وتلف تدريجي، وانحراف عن الصلاح لكلّ جسم يطاله، سواء كان هذا الجسم مادياً أو قانونياً، ويحرفه عن الهدف الذي من أجله وجد.

إنّ الفساد داء ينهش النسيج الإجتماعي من جوانبه الثقافيّة والسياسيّة والإقتصاديّة، وتعتبره منظمّة الشفافيّة العالميّة من أكبر التحديّات التي تواجه عالمنا الحديث. فهو يقوّض الحكم الصالح، ويشوّه السياسة العامة، ويدفع إلى إساءة توزيع الموارد، ويضرّ  بالقطاع الخاص وتنميته، ويلحق أكبر الضرر بالفقراء (9).

الفساد لصيق بالطبع البشري، وهو موجود في كل المجتمعات. لكنّ بعضها كان أكثر نجاحا في إدراك مخاطره والحدّ من إنتشاره وفتكه. مع الأسف إنّ مجتمعنا العربي، بمسؤليه ونخبه، هو من أقلّ المجتمعات إدراكاً لمخاطر الفساد وأكثرها تقاعساً في معالجته.

لعلّ الهوّة بين الحاكم والمحكوم هي من أهمّ سمات الحكم في غالبيّة إن لم يكن كل الدول العربيّة، ولا يضاهيهاً وضوحا وانتشاراً سوى آفة الفساد. وربّما كانت العلّة الأساس هي غياب حكم القانون وثقافة حكم القانون على الصعيدين الرسمي والشعبي، وخصوصا فعاليّة القواعد القانونيّة الواجبة التطبيق في تقييم عمل الحاكم ومساءلته.

إنّ حكم القانون هو إنعكاس للنضج السياسي في المجتمع وتعبير عن إرادة شعبه في الحكم الذاتي، ويسود في الدول التي بلغت مرحلة متقدّمة من تنمية القيم والمؤسسات الديمقراطيّة والمشاركة الشعبيّة في الحكم.

غياب حكم القانون، لا بل جهل المسؤولين والنخب العربيّة لأهميّة القانون كمعبّر عن الإرادة الشعبية وحافظ للحقوق والواجبات في المجتمع، هو في رأيي من أهمّ معوّقات التطوّر في العالم العربي. فالقانون هو خزّان القيم، وهو وسيلة للهندسة الاجتماعيّة والطريق الأسلم والأرقى للتغيير في المجتمع. والقانون هو أداة توضيح وتعديل للعلاقة بين المواطن والدولة وبين المواطنين في ما بينهم، وهو وسيلة إنشاء المؤسسات وضمان فعاليتها، وهو الضامن لحقوق الشعب وأمنه ونمّوه الإقتصادي والسياسي.

والجهل بأهمّية القانون، وغياب ثقافة حكم القانون في المجتمعات العربية، هما من موانع إقامة عقد إجتماعي في ظلّ دولة يكون هو الرابط القيمي فيها، والجاذب الأساسي في الإنتماء الوطني، والمانع من نمو إنتماءات وهويّات فرعيّة تعمل على تفكيك الروابط الإجتماعيّة، كما نشاهد في العديد من الأقطار العربيّة، مسهّلا بذلك نجاح من لا يريد سلاما أوتقدّماً في العالم العربي.

إنّ ديناميكيّة العلاقة بين الفساد وحكم القانون تفرض صراعاً وجوديّا بين الإثنين. فالفساد يمنع من تبنّي قوانين تحدّ من مضارّه ومن نموّه، والفساد يعمل على تعطيل أو إضعاف المؤسسات المولجة بالتطبيق الفعّال للقوانين القائمة. وترسيخ حكم القانون، وتطبيق القوانين بفعالية، هما أضمن الوسائل للقضاء على الفساد. وفضلاً عن دوره في إضعاف أو تغييب حكم القانون، يشكّل الفساد مانعاً أساسيّا من بناء نظام ديمقراطي ومشاركة شعبيّة في الحكم. فالشفافيّة والمسآلة التي هي من أهمّ مقوّمات الحكم الديمقراطي، هي كذلك عناصر أساسيّة في محاربة الفساد.

الربط بين الفساد وعدم الإستقرار السياسي والنزاع المسلح أصبح من المواضيع التي تلقى اهتماماً خاصاً لدى الباحثين في الآونة الأخيرة. أظهر تقرير مهمّ صدر عن البنك الدولي العام 2011  وموضوعه “النزاعات المسلّحة والأمن والتنمية”، أنّ للفساد أثراً بالغاً في تزايد مخاطر اللّجوء إلى العنف عن طريق إثارة الشعور بالظلم لدى شرائح شعبيّة واسعة وتدمير فعاليّة المؤسسات الوطنيّة والقيم الإجتماعيّة. (10 )

إنّ إحدى عشرة دولة من أصل العشرين دولة الأكثر معاناة من آفة الفساد، حسب مقاييس ومؤشرات منظّمة الشفافيّة العالميّة، عانت كذلك من نزاعات مسلّحة وإضطراب أمني، وأنّ خمساً من هذه الدول هي من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربيّة.( 11 )

دراسات قيّمة وعديدة صدرت عن دور الفساد في التسبّب  بالنزاعات المسلّحة والحروب الأهليّة، وكذلك في إطالة عمر هذه الحروب وخلق العقبات في وجه إيجاد حلول لها. وتقدّم غالبيّة هذه الدراسات أدلّة متوافرة في حالات العنف المسلّح الذي يعاني منه العديد من الدول العربية، ومنها تهريب السلاح، وإضعاف المؤسسات الأمنيّة للدولة، وإحلال عصابات مسلّحة محلّها تسيطر على موارد الدولة الإقتصاديّة ومقدّراتها، ناهيك بأنّ الحروب بذاتها تخلق مناخاً ملائما لانتشار الفساد والكسب غير المشروع. كما يمكن الإفادة من أبحاث عن علاقة الفساد بالأعمال الإرهابيّة لفهم تعاظم دور الإرهاب في الإضطراب الأمني الذي يعاني منه العالم العربي.(12)

إنّ المعاناة والشكوى من الفساد تعمّ المجتمعات العربيّة كافة، ولكنّ ذلك لا يرقى إلى وعي مخاطر الفساد الذي يدفع إلى رغبة جادّة للتخلّص منه. إذ إنّ إدراك الخطر من قبل عاقل لا بدّ أن يترجم عملاً هدفه إزالة الخطر أو درؤه. وليس هناك أيّ دليل على أنّ في المجتمعات العربيّة إدراكاً من قبل المسؤولين والنخب لأهمّية المخاطر والأضرار التي يلحقها الفساد بالمجتمع، وما يشكل من إعاقة في سبيل نموّه وتطوّره.

الإصلاح وشروط النجاح في تنفيذه

النجاح في تنفيذ خطّة لبلوغ هدف في الشأن العام يقتضي أن يحمل الهدف قيمة وعيُها يدفع بأدوات التغيير والإصلاح، والقوى التي لها مصلحة في ذلك، إلى بذل الجهود اللّازمة لتنفيذه. ولأنّ التغيير (الهدف) لا يتحقّق سوى بتغلّب قوى التغيير على القوى المناهضة له، يجب أن تتضمّن الخطّة التي تعتمدها قوى التغيير توعية، وتنظيماً، وتفعيلاً لجميع الطاقات الشعبيّة التي لها مصلحة في التغيير. وكذلك يجب أن تتضمّن الخطّة الحصول على معلومات دقيقة عن مكامن الضعف والقوّة لدى الفئات المناهضة للتغيير، والإفادة من هذه المعلومات في تنفيذ خطّتها لبلوغ أهدافها.

فعندما يكون القضاء على الطائفيّة وعلى الفساد في مجتمعاتنا العربيّة هما الهدف الرئيس لمن يعمل على التغيير والإصلاح، يمكننا أن نتصوّر فعاليّة المستفيدين من الوضع القائم والمناهضين لتبديله، وشراستهم  في الدفاع عن مصالحهم في إستمراره. وعندما ننظر إلى الإمكانيات والوسائل المتوافرة لهذه القوى، كالتحكّم في توجيه سلوك السلطة وتعطيل مؤسسات الحكم، كما السيطرة على معظم وسائط الإعلام الصانعة للرأي العام، وصاحبة القدرة على توجيهه وتفعيله، ندرك مكامن القوّة لدى مناهضي الإصلاح، وندرك كذلك حجم التحديّ الذي يواجه العاملين على تنفيذه.

لكنّ نقاط الضعف لدى هذه القوى عديدة وأهمها أن مصالحها تتناقض ومصلحة الوطن والغالبيّة الساحقة من أبناءه، وهي في معظم الأحيان مخالفة للقانون ويمكن أن تؤدّي إلى مسآلة مكلفة جدّاً.

القانون هو الوسيلة الأفعل والأرقى للتغيير وللهندسة الإجتماعيّة بعامة، لكن قبل اعتماد القوانين والمؤسسات اللازمة لعمليّة التغيير يجب أن تصبح هذه القوانين والمؤسسات تعبيراً عن إرادة شعبيّة جازمة تضمن تبنّي القوانين الملائمة وفعاليّة تطبيقها. لذلك، ولكيّ لا يبقى القانون المعتمد وسيلة للتغيير حبراً على ورق، كما هو مألوف في العديد من المجتمعات العربيّة، يجب على قوى التغيير أوّلاً، القيام بحملة إعلاميّة شاملة تتناول أخطار ومضار الوضع القائم الواجب تغييره، وكذلك محاسن ومنافع البديل المقترح، وضرورة إلتزام الوسائل الضامنة لبلوغه، بحيث يصبح التغيير مطلباً شعبيّاً وجزءاً من الثقافة الاجتماعيّة، ما من شأنه تسهيل تطبيق القانون الذي هو وسيلة التغيير والمساعدة في نشر حكم لقانون في المجتمع.

خطوات عمليّة في طريق الإصلاح وبناء ثقافة إجتماعيّة تستند إلى منظومة معرفيّة  أساسها العلم.

الهدف هو الانتقال بالمجتمع من حالة الجهل والوهن والعجز عن تفعيل طاقاته الفكريّة والماديّة خدمة لمصلحته في علاج ما يعني من علل وفي التغلّب على ما يواجه من تحدّيات، خارجيّة وداخليّة، إلى مجتمع يزخر بالحيويّة وبالثثقة بالنفس في مواكبة التطوّر العلمي، وفي تبنّي القيم والمؤسسات الحافظة لوحدته، المعزّزة لمناعته والضامنة لتطوّره؛ مجتمع قادر على تفعيل جميع طاقاته الإبداعيّة والإنتاجيّة خدمة لمصلحته في علاج ما يعاني من علل وما يواجه من تحدّيات. فمن أجل بلوغ هذا الهدف لا بدّ من بناء منظومة معرفيّة أساسها منهج علمي في العمل على مواجهة التحديآت والتغلّلب على الإشكاليّات ونتائج الأبحاث العلميّة والجهد البشري في التعامل مع ما تفرضه الحياة من تحدّيات.   ما يلي هو اقتراح خطوات عمليّة أعتقدها تساعد على تحقيق ذلك:

آ- تضافر جهود السلطات الرسميّة والنخب العربيّة من أجل التركيز على انتشار العلوم والمنهجيّة العلميّة في المدارس ودور التعليم العالي، وتزويد هذه المؤسسات بالمختبرات الّلازمة لتسهيل القيام بأبحاث علميّة. وكذلك تشجيع الطلّاب للإشتراك في أبحاث علميّة تتناول دراسة العلل وإيجاد الحلول للإشكاليّات التي يعاني منها المجتمع. فاشتراك الطلّاب في اعتماد منهجيّة علميّة في إيجاد الحلول، وتحت رقابة من لديهم الخبرة والمعرفة في البحث العلمي، سوف يساعد في انتشار التفاعل الفكري واعتماد العلم كأساس لإيجاد الحلول للصعوبات التي يعاني منها المجتمع.

ب - العمل على نشر بعض القيم الضروريّة للنجاح في عمليّة الإصلاح والتطوّر والتي تخلو منها المجتمعات العربيّة بعامة، ومنها أن نزرع لدى المواطن، منذ نشأته،  المسؤوليّة في أن يتولّى هو القيام بما يجب لإصلاح الأخطاء التي يعاني منها المجتمع، وبتعزيز ثقته بنفسه وبقدرته على القيام بذلك. كما يجب التركيز على أهميّة ربط الجهد بالنتيجة في الإلتزام  ببلوغ أهداف محدّدة وبواسطة أكثر الوسائل ملاءمة لتحقيق هذه الأهداف. نشر مثل هذه القيم يمكن أن يحصل بوسائل عدّة منها جعل هذه القيم من المقرّرات في برامج التعليم وإدخالها، على سبيل المثال، مادة التربية المدنيّة أو مواد وبرامج تعليميّة أخرى.  يمكن كذلك نشر مثل هذه القيم من خلال تعاون السلطات الرسميّة أو منظّمات المجتمع المدني مع وسائط إعلاميّة نافذة ومن خلال برامج تلفزيونيّة و إذاعيّة مشوّقة، كما نشرها في وسائط التواصل الاجتماعي.

ج-  لعلّ من أهمّ أسباب الفشل في مواجهة التحدّيات التي تعيشها الجتمعات العربيّة حاضراً، وخصوصاً الفتن الطائفيّة، هو عدم تفعيل طاقات هائلة في المجتمع دفاعاً عن مصالحه. هنا تتحمّل النخب المسؤلية الأساسيّة في تنظيم وتفعيل الطاقات الإجتماعيّة، خصوصاً إبّان الأزمات الكبرى.  ولا أفرّق هنا في المسؤليّة بين مسؤلين رسميّين ومواطنين عاديّين، فكلّ من يعي الأخطار التي تحدق بالوطن عليه القيام بالمستطاع لدرئها. ففي حال الأزمات الكبرى في المجتمعات الحيّة، تتضافر جهود النخب لعلاج العلل ومواجهة التحدّيات. ولنا، على سبيل المثال، في نشاط الحركات والجمعيّات التي انطلقت من كبرى الجامعات البريطانيّة، إبّان الحربين العالميّتين خلال القرن الماضي، مثال يحتذى لنشاط النخب. لا بل لنا في تنظيم وتفعيل نخب العدوّ الصهيوني وقدراته، في كافة أقطار العالم، خدمة لمصالحه ما يجب أن يكون محفّزاً لتنظيم وتفعيل النخب العربيّة. فما الذي يمنع مثلاً من أن يقوم ذوو الاختصاص، من أكّاديميين وعاملين في مهن حرّة، بتنظيم حلقات واجتماعات دوريّة الهدف منها إيجاد الحلول والعمل على التغلّب على الصعوبات ومواجهة التحدّيات التي يعاني منها المجتمع. إنّ مثل هذا العمل الجمعي من شأنه أن يغني خبرة كل مشترك فيه ويضاعف القدرة على التنفيذ بفعاليّة. 

هوامش

( 1 ) في ما يلي نص وعد بلفور:

تصريح بلفور ـ وزارة الخارجية

الثاني من نوفمبر سنة 1917

عزيزي اللورد روثتشايلد

د. داود خيرالله