خمسون عاماً على النكبة: السياسة البريطانية المنحازة

سبت, 2015-06-06 20:10

في عام 1918 أرسلت بريطانيا لجنة إلى فلسطين كممثلة للحركة الصهيونية لتعمل كهيئة استشارية للسلطات البريطانية  بالشؤون المتعلقة باليهود، وفي امور اخرى حول إنشاء وطن قومي لهم، وأعلن بلفور أنها قادمة لتقصي الأوضاع في المستعمرات اليهودية، وقدمت لها حكومة الانتداب كل التسهيلات للاتصال بالعالم الخارجي، مع العلم أن العرب كانوا محرومين من هذه الامتيازات والاتصال بالعالم الخارجي.

 طالبت هذه اللجنة بمشاركة اليهود في الإدارة العسكرية وبتشكيل لجنة للأراضي تعينها المنظمة الصهيونية للبحث في موارد البلاد، كما انها طالبت بحقها في تعيين اليهود في قوات البوليس، ثم طالبت بإنشاء قوة عسكرية خاصة بها وبدأت بتدريبها، في تلك الأثناء كانت الاحتجاجات والتظاهرات الفلسطينية تملأ المدن الرئيسية، ولكن الجيش البريطاني كان دوماً مستعداً لقمعها بالقوة ولم يكن بمقدور الفلسطينيين الاتصال بالرأي العام العالمي، وطالبت هذه اللجنة الصهيونية بإنشاء مجلس يهودي دستوري، كما وضعت حجر الأساس لجامعة عبرية على “جبل أسكوبس″ وكان اول مندوب سامٍ بريطاني هو “روبرت صموئيل” (يهودي) وجاء الجنرال “آرثر واكهوب” الذي حاول بإصلاحات طفيفة استقطاب العرب وسرعان ما بانت مآربه الخبيثة، ففتح باب الهجرة على مصراعيه، ودخل عشرات الألولف من المهاجرين اليهود من بولندا وألمانيا وسهّل بيع الأراضي وانتزاع ملكيتها من أصحابها العرب، وشكّل محاكم الأراضي عام 1931 لتسهيل انتقال الأراضي الأميري إلى اليهود.

لقد فصل الانكليز فلسطين عن البلدان العربية بموجب اتفاق سايكس- بيكو وهيئوها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حسب صك الانتداب لبناء وطن قومي لليهود، لتكون فلسطين اليهودية سداً في وجه أي محاولات لإنشاء دولة عربية تضمّ مصر والشام، وتُهدد مصالحهم من جديد، وكان هذا مخطط بريطاني منذ عام 1907 طبقاً لتوصيات قدمها مؤتمر لندن الاستعماري عام 1907 لرئيس الوزراء البريطاني كامبل بنرمان حيث أكد المؤتمرون:

“إن إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معاً بالبحر المتوسط، بحيث يشكّل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة، وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها، هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة”.

لم يكن عدد اليهود في فلسطين عام 1870 يتجاوز 12.000 نسمة ممن نزحوا مع العرب من أسبانيا قبل قرون، وكان الانجيليون والمبشرون بالنصرانية هم الذين يشكّلون موجات القدوم إلى فلسطين، وقد نزح العديد منهم من أوروبا، ولكن اليهود الروس ويهود بلدان أوروبا الشرقية هم أول من شكّل موجات واسعة من الهجرة، ففي عام 1914 كان عدد سكان فلسطين 680.000 نسمة ويشكّل اليهود 8% منهم أي ما يقارب 65.000 نسمة.

خمسون عاماً على النكبة

بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وقامت الأمم المتحدة قام اليهود في فلسطين بعمليات إرهابية موجهة ضدّ الانتداب البريطاني وضد العرب بهدف خلق المبررات لتقسيم فلسطين وخروج الانتداب البريطاني منها، ولم تلقَ هذه العمليات الإرهابية الردع المناسب من حكومة الانتداب.

قامت بريطانيا بعد ذلك بعرض القضية على الأمم المتحدة، وجندت الولايات المتحدة نفسها لاستقطاب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة للموافقة على مشروع تقسيم فلسطين، وصدر ذلك القرار المشؤوم رقم 181 في 29/11/1947 وكان ذلك بداية لحلول النكبة الكبرى، كانت الوكالة اليهودية قد أعدت نفسها لهذا اليوم خلال السنوات الماضية، ودربت الآلاف من الشباب اليهودي على السلاح، حيث انضووا تحت راية “منظمة الهاغاناه”، ذلك التنظيم الرسمي المسلح للوكالة اليهودية التي كانت تعتبر الحكومة الرسمية لليهود في فلسطين على مسمع بريطانيا وبصرها.

وما إن أعلن قرار التقسيم حتى قامت التنظيمات اليهودية المسحلة بمهاجمة المدن والقرى العربية، ولم يتدخل الجيش البريطاني ويمنع مثل هذه العمليات الإرهابية المسلحة ضدّ المدن الفلسطينية، بل كانت لهذه التنظيمات المسلحة اتصالات بالجيش البريطاني لتوفير السلاح والذخائر المطلوبة لها.

لم تكن للفلسطينيين قوة عسكرية منظمة سوى “جيش الجهاد المقدس″ والمكون من مجموعات من الأهالي المتطوعين تحت قيادة الشهيد عبد القادر الحسيني الذي قاد هذه القوى المسلحة في معارك بطولية بالرغم من نقض التدريب والعتاد، واستشهد في “معركة القسطل” يوم 25/04/1948، وكان قد دخل إلى فلسطين ثلاثة آلاف مجاهد عربي متطوعون مع قوات فوزي القاوقجي تحت اسم “جيش الإنقاذ”، وقد حاول جيش الجهاد المقدس″، و”جيش الإنقاذ” أخذ زمام المبادرة والدفاع عن القرى والمدن الفلسطينية لكنهما كانا يواجهان أكثر من 60 ألف جندي يهودي تدربوا إبان الحرب العالمية الثانية في المدارس القتالية للحلفاء.

عندما دخلت الجيوش العربية في 15/05/1948 كانت القوات اليهودية قد سيطرت على الساحل الفلسطيني، وكان عدد هذه الجيوش لا يزيد عن 25 ألف جندي (مصر 9000 جندي، العراق 3000 جندي، الأردن 4500 جندي، سوريا 3500 جندي، لبنان 1500 جندي، ووحدات صغيرة من الدول العربية الأخرى)، وكان يقودها الأمير عبد الله بن الحسين بقرار من الجامعة العربية.

لقد ترددت القيادة الفلسطينية في أخذ زمام المبادرة والإعلان عن قيام دولة فلسطينية كما أعلنت إسرائيل، ولم تهيئ نفسها لهذا الحدث الهام، بسبب تراكمات سياسية ونفسية منذ ثورة 1936 وبسبب مظاهر الخلافات العربية التي كانت بارزة على كل المستويات، وتسلم الأمير عبد الله قيادة الجيوش العربية.

لم يكن للعرب حلفاء في ذلك التاريخ من الدول الكبرى، بل أن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وفرنسا وقفت مع قرار التقسيم، واعتبرت دخول الجيوش العربية انتهاكاً لهذا القرار ومساً بالسلام العالمي.

بعد أسابيع من دخول الجيوش العربية في 15/05/1948 وجدت نفسها تقبل الهدنة ولم يمر بعد على بدء القتال شهر واحد.

لم تأخذ الجيوش العربية في معظم الأحيان عند قتالها للقوات اليهودية شكل الهجوم، بل شكل الحفاظ على ما تبقى من الأرض الفلسطينية، ومعظم هذه الأرض في الضفة الغربية  كانت تحت سيطرة الجيش العراقي والأردني.

بعد إعلان الهدنة الأولى 11/06/1948 لم يسمح اليهود للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم بل اغتنموا الفرصة وجلبوا كميات كبيرة من السلاح والذخائر التشيكية، واستقبلوا الألوف من المتطوعين اليهود حتى بلغت قواتهم 100.000 رجل، وبدأت الطائرات والسفن الحربية تصل إلى إسرائيل بفضل جهود اليهود في الولايات المتحدة وبريطانيا بينما فُرض حظر تصدير السلاح الغربي إلى الدول العربية.

كان هدف الملك عبد الله كما هو معروف ضمّ اجزاء من فلسطين إلى الأردن وكان هدف مصر والدول العربية تشكيل حكومة فلسطينية بقيادة الحاج أمين الحسيني وكانت هذه نقطة خلاف بين العرب، وقد أثرت هذه الخلافات على وجدة القيادة العربية أثناء الحرب، وتجدد القتال بعد الهدنة الاولى يوم 07/11/1948 ودام عشرة أيام حتى 18/07/1948، وتمكن اليهود من احتلال الرملة واللد والجليل الأوسط فأضافوا 750 ميلاً مربعاً أخرى من الأراضي الفلسطينية إلى دولتهم، وبالرغم من حجم المجازر التي ارتكبوها رفض سكان هاتين المدينتين مغادرتهما، فأصدر بن غوريون إلى اسحاق رابين وإيغال آلون بإشارة من يده بطرد سكان المدينتين بالقوة والإرهاب، وقام سكان المستوطنات القريبة بنهب المدينتين.

بعد ان استولت إسرائيل على الجليل الغربي وعلى النقب وعلى جزء من سيناء قامت الولايات المتحدة بالضغط عليها للانسحاب من سيناء، بعد ذلك عقدت الهدنة الثانية يوم 19/07/1948، وبادل الملك عبد الله المناطق المحاذية لطولكرم وقلقيلة “مثلث الرعب” حيث خاصرة إسرائيل الضيقة، بمنطقة اللطرون قرب القدس.

مع نهاية عام 1948 أصبح عدد اللاجئين يزيد عن 900.000 لاجئ فلسطيني، وفقد الفلسطينيون دورهم كعامل سياسي متماسك له رأي وتأثير، فكانوا الضحية في هذه الحرب وحلت النكبة بهم بعد أن فقدوا مدنهم وقراهم وأراضيهم وديارهم.

استطاع اليهود أن يضموا 28% من فلسطين فوق حصتهم التي أقرها مشروع التقسيم الذي قررته الأمم المتحدة فأصبحت إسرائيل تضم 79% من مساحة فلسطين بعد ان اغتصبت نصف المساحة المقررة لدولة فلسطين العربية خلال حرب 1948، كما قامت إسرائيل بتدمير المئات من القرى الفلسطينية بلغت 412 قرية، وأصدرت قوانينها لمصادرة أملاك اللاجئين الفلسطينيين باعتبارها أملاك غائب، بل أنها صادرت أكثرية أراضي الفلسطينيين الذين بقوا على أرض فلسطين، لقد كان رد فعل النكبة عام 1948 كبيراً وعميقاً في الوسط العربي، فبدأت الانقلابات العسكرية في سوريا واغتيل الملك عبد الله في القدس، واضطربت الأحوال في لبنان وقامت ثورة مصر عام 1952.

صدر قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194 في كانون اول عام 1948 بإعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وتولت وكالة الغوث العناية بشؤون اللاجئين كمؤسسة دولية.

نهوض الحركة القومية

الغريب في الأمر أن بريطانيا وأمريكا وفرنسا أصدرت بيانها الثلاثي عام 1950 لحماية أمن إسرائيل بالرغم من النكبة التي حلّت بالعرب عام 1948، ولا شكّ ان ظهور عبد الناصر وقيادته للثورة المصرية ومحاولاته لشراء السلاح من الكتلة الشرقية قد أقلق إسرائيل.

 

فاروق القدومي :وزير خارجية دولة فلسطين

رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية