حين يتقاتل طرفان فذلك يعني أنّ جيشا كبيرا ينتحر" هنري باربوس
ـ1ـ تضمّن قرارَا مجلس الأمن البارحة حول الوضع في ليبيا رسائل غير غامضة إلى عدة أطراف. القائمون على القمة العربية المنعقدة تزامنيا في مصر يمثلون طبعا جزءا من هذه الأطراف.
يمكن تلخيص هذه الرسائل في نقطتين تشكلان ضمنيا ردا سلبيا على مطالب الوفد المصري الذي حضرَ الجلسة وعلى حلفائه الإقليميين بخصوص الحرب الأهلية في ليبيا. النقطة الأولى تكمن في تركيز المجلس على مسلسل الحلّ السياسي بين الأطراف المتصارعة. والثانية رفضُه رفعَ الحظر عن استيراد الأسلحة. بصيغة أخرى تبدو الأطراف الغربية قليلة الحماس لأي تدخل عسكري في ليبيا وكأنها قد غيرتْ بهذا الخصوص قاموسها ولو مرحليا. ثمّة الآن شبه إجماع لدى المتابعين أنّ وضعية التفكّك السياسي والاجتماعي والأمني التي تعرفها ليبيا منذ أربع سنوات لا يمكن احتواؤها جزئيا أو كليا إلا في إطار حل سياسي يجمع بمستوى ما جميع الأطراف المتحاربة بما فيها تلك التي تنظر إليها الأطراف الغربية ـ وحلفاؤها ـ بكثير من التخوف.
ـ2ـ يتوقّف تقرير أعدّته مصلحة الأبحاث في الكونغرس أواخرَ السنة المنصرمة عن "ليبيا : الوضعية الانتقالية والسياسة الأمريكية Libya: Transition and U.S. Policy" عند علاقة الولايات المتحدة بالجنرال حفتر. ويشير التقرير إلى أنه من جهة فإن الخارجية الأمريكية ترى "أنها لا تتغاضى عما يقوم به حفتر، لا تؤيده ولا تساعده". ولكن التقرير يلاحظ أنه رغم ذلك فإن "المسؤولين الأمريكيين لم يرفضوا بوضوح العمليات العسكرية" التي يقودها حفتر منذ بداية الصيف الماضي. هل يتعلق الأمر بغموض أو بتأرجح ما ؟ وهل هما متعمدان؟تتعدّد التفسيرات ولكنها تلتقي في نقطة مركزية. فالأمريكيون غير مقتنعين كليا بإمكانية حسم الأمر عسكريا. ويبدو أن الأشهر الأخيرة الماضية قد زادت هذه القناعة مع التطورات الميدانية. ولا يُخفي هذا التقرير بل وكثير من التقارير الأمريكية (مثلا أوراق مؤسسة كارنيجي) المماثلة أمرين. أحدهما أن صاحب القرار الأمريكي لا يثق في الأطراف المحسوبة عليه في ليبيا وفي المنطقة. والثاني أن البقاء على مسافة شبه متساوية من مختلف الأطراف المتحاربة يمثل خياره الحالي.
ـ3ـ تبدو بعض الأطراف الإقليمية أقل حماسا للحلّ السياسي. ولم تتخلّص تماما من وهْم القدرة على فرض الأمر الواقع لصالح الأطراف الليبية المرتبطة بها. وقد لاحظ عدد من المتابعين أن انعكاسات الصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط على ليبيا يتجسد أساسا في الربط الذي تعمّدتْه بعض الأطراف الليبية والإقليمية بين ما يحدث في ليبيا وما يحدث في بعض دول المنطقة (مصر، سوريا، إلخ). ويعني ذلك أن مسلسل الحل السياسي يرتبط بمسلسلين آخرين متداخلين من حيث تعلّقهما معا بعوامل جيوسترتيجية مركبة. أحدهما يتعلق بالاستقطاب الاقليمي حول الملف الليبي. والثاني يعني صعوبة وضع خطة عملية قابلة للتنفيذ وللتسويق الميداني حول إعادة دمج المقاتلين. وهو أمر يزداد تعقيدا مع التضاعف المطرد لعدد الأخيرين. فبعض التقارير تذهب إلى أنّ عدد المسلحين زاد على ربع المليون بل والبعض الآخر يشير إلى ما يقارب نصف المليون.
ـ4ـ أغلب الدراسات التي تناولتْ تطور الأزمة الليبية منذ 2012 تُظهر أن هشاشة الإطار الدولتي الموروث من جهة وعدم تمكن ثوار 2011 من خلق شرعية ثورية بديلة (التدخل الخارجي، التفكّك الداخلي، إلخ) من جهة ثانية قد حالا دون تكون مشروعية سياسية جامعة تشكل إطارا لمسلسل سياسي مواطني. بعبارة أخرى فإن غياب هذه المشروعية الجامعة هو أحد العوامل التي تفسّر السهولة النسبية لانعكاس الصراعات الاقليمية والدولية على مواقف الأطراف الليبية. أكثر من ذلك فإن أغلب الأطراف السياسية الليبية، لم تهتمّ فيما يبدو بتقديم مشاريع سياسية تمنح المواطن رؤية بديلة عن الارتداد إلى انتمائه التقليدي، القبلي أو الجهوي إلخ. فجدلية الارتداد إلى الانتماءات التقليدية و"طلب" التدخلات الولية أثبتتْ في أكثر من بلد قدرتها على تقويض الانتماء المواطني والفضاء الدولتي.
ـ5ـ ما العمل؟ ليس هنالك بداهة حلّ سهل في ليبيا. ولكن هنالك معالمَ يمكن أن تُحدّد بسهولة نسبية. أولها أن يظل منْع وقوع أي تدخل دولي جديد الحدّ الأدنى المشترك. لاسيما أن الأطراف الدولية بدأتْ تقتنع بأن التسوية الوحيدة الممكنة يلزم أن تمر عبر مسلسل سياسي. ثانيا، من العسير تصور تسوية جدية لا تمر عبر جهد جزائري ومصري حثيث من أجل إقناع الطرفين الأساسيين في الصراع بأن خيار الحل السياسي الجدي هو آخر أمل في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل