بعد سبعة وعشرين سنة من حكم بوركينافسو، الذي وصل إليه خلسة عبر انقلاب عسكري صارخ، ظن رجل فرنسا وحليفها الوثيق بليز كومباري أن الأرض دانت لها وأنه يستطيع أن يركب ظهر الشعب البوركينابي للأبد، فقرر أن يستشير برلمانه الذي صنع على عينيه في إجراء تعديل دستوري يتيح له الترشح مجددا كأنه يريد أن يحول بوركينافاسو إلى مملكة غير معلنة..
لم يكن يدور بخلد بليز ومستشاريه وهو يمرر هذا القرار المثير للجدل سوى أن الأمر سيكون سهلا وسلسا وأن البوركينابيين أصبحوا مستكينين، إلا أن العكس هو الذي حصل، حيث خرجت جموع البوركينابيين الغاضبين معلنة رفضها الصارخ لهذا التعديل الدستوري الجديد، واضطر بليز أن يتراجع، لكن الوقت كان قد فات، والبوركينابيون أصبحوا لا يقنعون سوى برحيل بليز نهائيا عن الحكم..وهو ما حصل بالفعل حيث اضطر بليز كومباري للخروج خلسة واللجوء إلى كوت ديفوار….
غير أن العسكر، وكما دائما يفعلون، هبوا لقطع الطريق نحو تطلع البوركينابيين إلى الحرية والديقراطية، حيث أعلنوا الاستيلاء على السلطة، متعهدين- كما يفعلون غالبا وينكثون- بتسليم السلطة للمدنيين في أقرب فرصة ممكنة، وهي فرصة قد لا تحين في نظر العسكر، وإن حانت فقد يقوم جنرال متغلب بخلع بزته العسكرية والدخول في انتخابات شكلية ليعود من جديد إلى الواجهة، حاكما ديمقراطيا تم انتخابه عبر صناديق الاقتراع وأصوات الناخبيين..
إنه مشهد متكرر ومألوف، في إفريقيا، “سمراءنا الجميلة”، حيث ظل العسكر يركبون ظهر الشعوب على مدى عشرات السنين، أحيانا بشكل فج وعلى ظهر دبابة، وفي أحيان أخرى بطريقة مهذبة يلبسون فيها لبوس الديمقراطية زيفا ونفاقا وادعاء..
ولكن هل “تسلم الجرة هذه المرة” ؟؟ إنه التساؤل الأبرز في بوركينافسو والذي يتردد صداه في كافة الأرجاء، خصوصا أن البوركينابيين والأفارقة لم يعودوا كما كانوا، فثورة الوعي بالحقوق وموجة التوق للحريات والشوق للعدالة اكتسحت العالم أجمع، وصدى السنوات الماضية وحراك الشعوب العربية نحو الحرية، رغم ما اعترضه من مشاكل وتحديات، ترك أثره في مزاج الأفارقة وأشعرهم أن عصر الرضوخ تحت وطأة الأحذية الخشنة آن أن ينتهي وأن طريق الديمقراطية صعب وشاق ولكنه ضروري وملح…
إن الرسالة التي بعثها شعب بوركينافسو هي أنه “لا رئاسة مدى الحياة” وفقا للتعبير الذي اختارته صحيفة “الجارديان” البريطانية للتعليق على ماجرى، حيث اعتبرت الصحيفة أن تلاعب الرئيس بليز كومباوري بالمحكمة الدستورية والنظام الانتخابي والمجلس الوطني لإضفاء شرعية على حكمه المستمر كان له تأثير عكسي لأن ثلة كبيرة من الطبقة الوسطى والشباب المفعمين بالتوقعات والطموحات لم يعودوا يرون فيه أي نوع من الأمل للمستقبل، كما أن الانقلاب العسكري فكرة عتيقة لم تعد تجدي نفعا لأن الشعوب الأفريقية باتت أرشد مما كانت وأقل تعلقا بقدرات ومناقب العسكر…
إن الدرس البوركينابي الأبرز هو أن الأفارقة شبوا عن الطوق، وأن عصرالزعيم الأوحد الذي لا يتزحرح عن الكرسي إلا إلى القبر قد انتهى إلى غير رجعة، وهو درس لا شك أنه سيفهم سريعا وسيلقى صداه لدى الكثيرين من أشباه “كومباوري” الذين كانوا يفكرون ويتدبرون أمرهم بحثا عن صيغ دستورية تحايلية تتيح لهم الاستمرار في سدة الحكم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا..
إن الاستبداد السياسي هو أصل الداء ومكمن العلة في إفريقيا ومالم يتم وضع حد لهفإن قارتنا الإفريقية ستظل في ضحضاح من التخلف والتبعية..
ورغم الصعوبات والتحديات، إلا أن فجر الأمل قد بزغ ، و”السمراء” قد قررت الثورة ولا أحد قادر على مقاومة نزعتها الطاغية نحو العدل والديمقراطية والحرية
محمد سعدن ولد الطالب كاتب موريتاني
[email protected]