واليوم أدعو رئيس البلاد إلى التأمل معى فى أمر ذلك الغزال.
- لأنى ببساطة تذكرتُ اليوم بذلك الغزال شخصا يهمه: تذكرتُ ابن الرئيس..
خرجنا سريعا من زحمة الطريق بعدما انتهت الشرطة من التحقيق فى الحادث ثم لم نلبث طويلا حتى وجدنا انفسنا على حدود واشنطن حيث وجهةُ زبونيَّ النهائيةُ..
لم تكن الهواتف المحمولة حينها متوفرة لعامة الناس أو على الأقل لم يكن من بيننا من يملك هاتفا فاضطررنا إلى استخدام الطرق العتيقة فى الاتصال بمضيف صاحبيَّ، فعدلنا عن الطريق الى اقرب محطة للبنزين لاستخدام الهاتف العمومي..
وهناك أمرَنا مخاطبُنا بالانتظار حيث نحن حتى يأتينا.. فتبددت بذلك جميعُ مخاوف القوم لأنهم تأكدوا من وصولهم بينما تضاعفت مخاوفى لانى مضطر إلى مواصلة الطريق وحدى لاول مرة..
اخذ المضيفُ امانتَه ثم عرض علي الاقامة عنده ليلة او اكثر حتى استريح لكنى شكرته عازما على المُضِي قُدماً إلى غايتى..
لم تكن المسافة بين انيويورك واختها واشنطن بعيدة ولا الشوارع ضيقة لكن كثرة السيارات على الطريق كانت كفيلة بتعطيل السير والتحكم فى بطئه حتى تخيلتُ لفرط ذلك أنِّى لو تركتُ السيارة وواصلتُ على قدميَّ لكان اسرع لى..
كانت مدينة انيويورك عبارة عن مجموعة من الجزر لا وصول الى اي من أحيائها إلا من تحت الماء او من فوقه عبر الانفاق والجسور..
ولم اكن ساعتها على اطلاعٍ بضرورة الإستماع إلى نشرات الجو والمرور التى علمتُ بعد ذلك أنها تُساعدُ كثيرا فى دخول أيِّ مدينة كبيرة لانها تعينك غالبا على اجتناب الطرق المسدودة مؤقتا بفعل الحوادث او بفعلِ الاستصلاح والصيانة او الإكتظاظِ فى بعض ساعات معلومة من النهار....
ولقد ضاعف ما جهلتُ من ذلك متاعبى لكنى فى النهاية نجحْتُ فى دخولها..
..... يتواصلُ
(الحلقة 11)
مدينة Brooklyn
ولقد ضاعف ما جهلتُ من ذلك متاعبى لكنى فى النهاية نجحْتُ فى دخولها..
فانتهت بذلك مرحلةُ السؤال عن وجهة انيويرك لتبدأ عندها مرحلة السؤال عن شارع اسمهFULTON STREET بمدينة ابروكلين حيث يسكن بعض الإخوة الموريتانيين..
كان فى ابروكلين انذاك مجموعة من الشباب آخت بينهم مرارةُ الهجرة فأذابت فوارق العرق والقبيلة والطبقية والنسب فصاروا وحدة متماسكة يواسى بعضهم بعضاً فى الملمات ويساعد بعضهم بعضاً عند الحاجات..
ولا غرو فأغلبُ هؤلاء من خيرة ابناء الوطن ونخبته المثقفة وأُطره احيانا قد إحترقوا بنار الغربة فى وطنهم الحبيب حتى ضاقت بهم أرجاؤُه بما رحُبت، فالتمسوا رحمتها خارجه..
أذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر المهندس الخبير عثمان ولد حمَّ أحد الأوائل الذين حازوا على شهادة معتبرة في مجال الحاسوب فلم تشفع له شهادتُه عند بلاده في احتضانه والاستفادة من مواهبه ومعارفه رغم حاجتها الماسة إلى أمثاله.. فاضطر إلى الهجرة.. ولقد كُنتُ نزيلَه كما ذكرتُ ذلك آنفا..
ولقد كان رجلا كريما ذو عهد ووفاء، ناصحا ومن طرائف نصحه ان نَزَل به يوما صديقٌ لنا قادمٌ من موريتانيا يحمل شهادة دكتوراه بامتياز أظنها في فقه السنة حصل عليها من دار الحديث الحسنية بالرباط...
فسأل الدكتورُ المُهندسَ قائلا: ماذا تقترحُ عليَّ من الأشغال فى هذه البلاد؟ .. فاجابه المهندس بدعابته ولطفه المعهودين: "أمَا وإني أرى امامك فرصة ثمينة لا يليق بفقيه مثلك أن يُّضيعها..
فانطلقت أساريرُ الفقيه استبشارا ثم اردف قائلا: وماهي؟
قال: أن تُطبقَ مخْزُونَكَ من أحكام الطهارة على آنيَّة القوم في المطاعم"..
فحزم الفقيه امتعته وعاد مسرعا إلى البلاد..
ومنهم السيد المُسَلَّم ولد ابُّوه الذى كان ضابط شرطة معتبر في بلاده ولما أراد الاعتراض على بعض الممارسات غير اللائقة في حق المواطنين دفع ثمن ذلك فارادوا تهميشه فآثر هو الآخر الهجرة بمبادئه، وقد اكرم هذا الأخير ضيافتى أيضا وغمرنى بلطفه ولا تزالُ مُستحقاتُ ديونِ فضله تلاحقنى..
وقد شاء الله ان اصطحبنى مرة في احدى رحلاتي وتعلمتُ منه أشياء غريبة ومُفيدة منها ما ذكرته آنفا من فائدة الاستماع إلى نشرات الجو والمرور عند دخول المدن الكبرى.
ومنها اننا مررنا بقرية صغيرة من قرى New Jersey مع حلول الفجر فوجدنا بمدخلها سيارة للشرطة على قارعة الطريق وليس بداخلها احدٌ وقد اشعلت اضواءها لتنذر الداخلين إلى القرية..
فسألته عن سبب ذلك فنبهني إلى ان الشرطة تفعلُ ذلك لتنبيه المرور إلى ضرورة تخفيض السرعة لأن أمرا ما يستدعى ذلك.. فخففتُ من سرعة السيارة.
ولما بلغنا وسطَ القرية وجدنا بها قطعانا من الغزلان تنام على الطريق بكل ارتياح وهدوء غير مكترثة باختلاف السيارات من حولها تماماً كما تنامُ حَميرُ كَيْفَه على طريقها الرابط بين كامور وكرو..
فسألته ثانية عن سبب هذه الاُلفة الغريبة بين الناس والحيوان في هذه البلاد؟ فأجابنى قائلاً: يا فُلانُ، إنها العدالة والأمانُ. إن الأرض إذا أمِنَ أنسانَها الإنسانُ أمِنَه الحيوانُ....
وبينا يسترسلُ في حديثه عن العدالة والأمان ونحن على وشك الخروج من القرية إذ لاحت لنا غابةٌ كثيفة فأشار إليها بيده قائلا: إني اتحداك ان تدخل هذه الغابة وتعثُرَ فيها على شجرة واحدة تُنْبِتُ شوكا؟
فاستغربتُ ثقتَه من كلامه وقُلتُ ولم ذلك؟.. فحدثنى حديثا غريبا خُلاصتُهُ أن الشَّجرةَ إنما تُنبِتُ الشوك لتستغِلَّه في الدفاعِ عن نفسها أما إذا كانت آمنة من الهُجوم فلا حاجة لها في ذلك وبذلك تكون اشجارُ القومِ قد استغنتْ عن شوكها بما أحسّتْ هي الأخرى من الأمان حولها…
وما انتهى الرجل من حديثة حتى غرقتُ في تفكير عميق أعادنى إلى سدرة الجمل بِوادى "مَسْيَل لَحْراطين" وهي سدرة مباركة بذلك الوادى تثمر فيه كل سنة كميات من "النبق" اللذيذ تكاد تكفى مؤونة الحي طيلة الشتاء، ومع ذلك لم ترحمها لذة ثمرتها ولا كثرتها من الجلد السنوي بالأعمدة، ففهمتُ السبب في كثرة شوكها.. يتواصل..................