بدأ القرن الحادي والعشرون بحربٍ أميركية على الإرهاب برّرتها أعمال الإرهاب التي حدثت في الولايات المتحدة عام 2001، لكن ساحات هذه الحرب الأميركية كانت البلاد العربية والإسلامية، والقوى المشاركة فيها شملت العديد من الدول الغربية، ممّا أعاد للذاكرة العربية ما حدث في مطلع القرن الماضي من استعمارٍ واحتلالٍ وهيمنة أوروبية على المنطقة العربية، ومن تقسيمٍ للأرض وللشعوب العربية، حيث أقيمت كياناتٌ ودولٌ متصارعةٌ فيما بينها على الحدود، بينما هي أحقُّ بأن تكون أمَّةً واحدة ذات كيانٍ سياسيٍّ واحد، كما هي أمم العالم الأخرى.
لكنّ الفارق بين “الأمّة الأميركية” مثلاً، و”الأمّة العربية”، هو أن توحيد الولايات الأميركية على أسسٍ دستورية سليمة، جعل منها أمّةً واحدة رغم عدم وجود العمق التاريخي لها ولعناصر تكوين الأمم. فهل كانت أميركا قادرةً على جعل القرن العشرين “قرناً أميركياً”، وعلى التحوّل إلى القوة الأعظم في العالم لو لم تكن الأمّة الأميركية أمّةً موحّدة، أو لو انتهت الحرب الأهلية الأميركية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بانفصال الولايات الجنوبية عن الولايات الشمالية؟!
طبعاً، لم تكن هناك “أيدٍ غريبة” ولا “تدخّلاً خارجياً” في الحرب الأهلية الأميركية، كما هو حال العديد من الأزمات العربية الراهنة، ولم يكن هناك “مجلس الأمن الدولي” الذي يقرّر الآن مصير حروب ودول وشعوب، ولم يكن هناك صراع إرادات أجنبية أو “لعبة أمم” على الأرض الأميركية، كالذي نراه يحدث الآن على الأرض العربية.
فالمنطقة العربية تعيش صراعاً دولياً وإقليمياً، أدواته وساحاته هي أوطان العرب وشعوبها. والمؤسف في كلّ أماكن هذه الصراعات، أنّ هناك تهديداً حقيقياً للوحدة الوطنية ومخاطرَ الحروب الأهلية التي تطيح حتّى بما جرى رسمه أوروبياً من خرائط وحدود في بدايات القرن الماضي.
إنّ المنطقة العربية تتميّز عن غيرها من بقاع العالم بميزاتٍ ثلاث مجتمعةٍ معاً: فأولاً، تتميّز أرض العرب بأنّها أرض الرسالات السماوية؛ فيها ظهر الرسل والأنبياء، وإليها يتطلّع كلّ المؤمنين بالله على مرّ التاريخ، وإلى مدنها المقدّسة يحجّ سنوياً جميع أتباع الرسالات السماوية من يهود ومسيحيين ومسلمين.
وثانياً، تحتلّ أرض العرب موقعاً جغرافياً هامّاً، جعلها في العصور كلّها صلة الوصل ما بين الشرق والغرب، ما بين أوروبا وآسيا وإفريقيا، وبين حوض المتوسّط وأبواب المحيطات. ومن هذا الموقع الجغرافي الهام خرجت أو مرَّت كلّ حضارات العالم سواء القديم منه أو الحديث.
وثالثاً، تمتلك أرض العرب خيراتٍ طبيعية اختلفت باختلاف مراحل التاريخ، لكنّها كانت دائماً مصدراً للحياة والطاقة في العالم. فهكذا كان الحال منذ أيام الإمبراطورية الرومانية، التي كانت خزائن قمحها تعتمد على الشرق العربي، وصولاً اليوم إلى عصر “البترو – دولار” القائم على منابع النفط والغاز في أرضنا.
وهذه الميزات الإيجابية تجعل المنطقة العربية دائماً محطّ أنظار كلّ القوى الكبرى الطامعة بثروات الشعوب الأخرى والطامحة للسيطرة على العالم..
أيضاً، تتميّز المنطقة العربية، في تاريخها المعاصر، عن باقي دول العالم الثالث، أنّ الدول الكبرى، الإقليمية والدولية، تتعامل مع هذه المنطقة كوحدةٍ متكاملة مستهدَفة، وفي إطار خطّة إستراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما تعيش شعوب المنطقة في أكثر من عشرين دولة دون أي توافق على إستراتجيةٍ عربيةٍ مشتركة.
ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، وما يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادّية والبشرية)، وإلى صعوبة تأمين مشروع عربي فاعل يواجه المشاريع والتحدّيات الخارجية، أو يمكّن من القيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية.. كما تحوّلت تداعيات العنف الداخلي المسلّح، المرافق الآن لانتفاضاتٍ شعبية في بعض البلدان العربية، إلى حروبٍ أهلية عربية سيكون ختامها لصالح المشروع الإسرائيلي حصراً، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.
إنّ مواجهة الاستبداد الداخلي من خلال طلب الاستعانة بالتدخّل الخارجي، أو من خلال العنف المسلّح المدعوم معظم الأحيان خارجياً، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث فيها ذلك، حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا التدخّل الخاجي أو العنف المسلح نذير شرٍّ بصراعاتٍ وحروبٍ أهلية، وباستيلاءٍ أجنبيٍّ على الثروات الوطنية، وبنزعٍ للهويّة الثقافية والحضارية الخاصّة بهذه البلدان.
ولم يتحقّق التقدّم العلمي والتكنولوجي في الغرب ورفاهية العيش في مجتمعاته حصيلة وجود الديمقراطية فقط، وإنّما أيضاً حصيلة أحد أمرين أو الاثنين معاً: السيطرة على شعوب أخرى ونهب ثرواتها.. والنظام الاتحادي التكاملي الذي أوجد قدراتٍ اقتصادية هائلة. فالمواطن الأميركي قد يعجز عن العيش الكريم في ولايةٍ ما فيغادر إلى ولاية أميركية أخرى.. كذلك في أوروبا الموحّدة الآن حيث يتنقّل الأوروبيون بحرّية كاملة بين دول الاتحاد الأوروبي، فتبقى الكفاءات والثروات الفكرية والمادية والمهنية داخل المجتمع الغربي نفسه، وهذا ما هو مفقودٌ في المنطقة العربية حيث تهاجر الكفاءات والأموال العربية من أرض العرب إلى دول الغرب.
إنّ “الديمقراطية والاتحاد” هما الآن في الغرب وجهان لمشروعٍ نهضوي واحد لمستقبلٍ أفضل، بينما سعت الدول الغربية عموماً إلى المساهمة في تجزئة القوى الدولية الأخرى المنافسة لها، أو المستهدفة منها.
إنّ العالم يعيش الآن حالةً من الفوضى ومن صراع المفاهيم حول هويّة العصر الذي دخلته الإنسانية بعد انتهاء الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين للعالم في القرن العشرين، هذه الحرب التي انتهت بانهزام وانهيار قطب المعسكر الشيوعي (الاتحاد السوفييتي) مقابل فوز وتعزيز قدرات المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
فبسقوط المنافس الشيوعي العالمي، بقيت “الرأسمالية” وحيدة في طرحها لنموذجٍ سياسي واقتصادي وثقافي متكامل لا يمكن أخذ بعضه دون البعض الآخر. فالصيغة السياسية للأنظمة الليبرالية هي الوعاء السياسي لمضمون “الاقتصاد الحر” والمنافسة التجارية الحرة.
ولأنّ “المنافسة الحرّة” هي أساسٌ في النظرية الرأسمالية، فإنّ حواجز الحدود والثقافات يجب أن تسقط أمام روّاد الرأسمالية من أصحاب شركات كبرى ومفكرين واقتصاديين وسياسيين. كذلك، فإنّ “المنافسة الحرّة” تعني المنافسة وسط أبناء المجتمع الرأسمالي نفسه، وتكون نتيجة المنافسة محكومة بقانون “البقاء للأقوى”. لذلك، جاءت “أطروحة العولمة” كنتاج طبيعي لوجود الفكر الرأسمالي نفسه والذي لا يعترف بحدودٍ جغرافية أو حواجز ثقافية.
لكنّ “الديمقراطية” و”العدالة الاجتماعية” هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل حينما يكون هذا الداخل متحرّراً من سيطرة الخارج، بينما حينما يخضع شعبٌ ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون بما يتناسب حصراً مع مصالح المحتلِّ أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر.
عربياً، فإنّ التكامل بين غايات الحرية والديمقراطية والعدل والاتحاد، هو ضرورةٌ لازمة لأي نهضة عربية منشودة. فالحرّية، بمعناها الشامل، هي التي تحتاجها الأمّة العربية. الحرّية التي ترتبط فيها مسألة التحرّر من سيطرة الخارج مع مثيلتها في التحرّر من الاستبداد الداخلي والحكومات الفاسدة. الحرّية التي يمتزج فيها تطبيق الديمقراطية السياسية مع العدالة الاجتماعية في كلّ بلدٍ عربي حتى تستطيع الأمّة أن تتكامل لاحقاً فيما بينها، فيكون تكامل أقطار الأمّة على أساس ديمقراطي سليم، هو الضمانة لتكون أمَّةً “آمنة مطمئنّة يأتيها رزقُها رَغَداً من كلِّ مكان” بعدما ذاق معظم شعوبها “لباس الجوع والخوف” بما كان يفعله بعض الحكّام وكل المحتلّين!.
صبحي غندور:مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن