خلال الأسابيع الماضية، اشتعلت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وزوايا الرأي في الصحف الموريتانية، بفعل الردود والردود المضادة التي أثارتها تصريحات تلفزيونية لسياسي موريتاني بارز، قدم شهادات صادمة بشأن بعض مواقف الرئيس المؤسس المختار ولد داداه، وخصوصا فيما يتعلق بملابسات الاستقلال والظروف التي اكتنفت قيام الدولة الموريتانية الحديثة.
السياسي الموريتاني المخضرم قدم رؤية “خارج الصندوق” وتجاسر على الدخول في منطقة شائكة من تاريخنا الموريتاني المملوء بالألغام والمطبات والمترع بالمسكوت عنه خوفا أو خجلا أو مدارة، أو لكل تلك الأسباب مجتمعة..
لم يكد الرجل ينتهي من اللقاء التلفزيوني الذي تضمن تلك الشهادات والآراء الصادمة حتى أقيمت له “حفلة ردح” جماعي ونصبت له المشانق من الكتاب والكتبة والنخبة والدهماء، في عملية “مكارثية ثقافية” مخزية تظهر أننا لا زلنا أمام مجتمع نخبوي هش، لايقيم وزنا لحرية الرأي ويغالي في الانتصار لانتماءاته الضيقة المناطقية والجهوية والإيديولوجية، حتى ولو كان ذلك على حساب الحقائق التاريخية التي يجب أن تكون ملكا لكل الموريتانيين من حقهم أن يعرفوها حتى ولو أدت لسقوط “هالات التقديس″ عن الكثيرين، ونزعت حجب “الاستثنائية” التي منحت لبعض رموز الوطن دون غيرهم…
المخجل في كل ماجرى أن الجدل المستعر نزل إلى حضيض غير مسبوق، فعرض السياسي البارز وأخلاقه وتاريخه كله تعرض للتشويه والسب والشتم، في محاولة ساذجة لمنع التاريخ أن يحكى والآراء أن تخرج من القمقم..
والغريب أنه وفي إطار حملة الدفاع عن الرئيس المختار ورفاقه، تم التعريض بقامات وطنية أخرى لها بصماتها في التاريخ الموريتاني ولها أنصارها والمدافعون عنها مثل الزعيم أحمدو ولد حرمة ولد بابانا، الذي يبقى رغم أخطائه رمزا وطنيا وشخصية موريتانية تركت آثارها التي لا تنمحي من ذاكرة هذا الوطن..
الدفاع عن الرئيس المختار والانتصار له اتخذ مناحي غاب فيها المنطق ودخلت العصبية والحمية بمختلف أنواعها، وهو ما ولد في المقابل ردود أفعال انصبت في هذا الإطار وتحولت لشتائم وغمز ولمز في رئيس موريتاني قدم الكثير لهذا الوطن، وساهم بشكل فاعل في تأسيسه..
إن ما حصل يظهر أن إشكالية كتابة التاريخ في موريتانيا ، بل والحديث عنه ما تزال إشكالية معقدة، فكل يريده تاريخا نقيا كاللجين المذاب، وكل يريد الرموز والساسة والعلماء والمقاومين “بشرا استثنائين” لا أخطاء ولا خطايا لهم، وتلك لعمري، أمنية مستحيلة، وطمع ما لا أمل فيه، فكل الذي فوق التراب تراب، وكل البشر ، ماعدى الأنبياء المعصومين، معرضون للأخطاء، وخاصة الساسة و المتصدونللشأن العام، ولكن أخطائهم لا يجب أن تكون مبررا لغمط حقوقوهم أو نكران جميلهم تجاه وطنهم، بل يجب أن توضع في إطارها الصحيح، بوصفها أخطاء بشرية يشفع لها حسن النية والاجتهاد في تقديم الصواب..
لا يجادل موريتاني منصف، من “فصالة” إلى “بير أم اكرين” في أن الرئيس المؤسس المختار ولد داداه لعب أدوارا استثنائية في تأسيس هذا البلد المسمى موريتانيا، وأنه وضع اللبنات التأسيسية لمشروع الوطن، هو ورفاقه من جيل التأسيس، ولكن ذلك لا يعني أن فترة حكمه “منطقة محرمة”، لا يجوز الاقتراب منه، فللرجل أخطائه، ولكنها بالتأكيد تغرق في بحر زاخر من الحسنات والمزايا والوطنية الصادقة…
لنتذكر جميعا، كموريتانيين، مقولة إمام دار الهجرة مالك بن أنس “كل يؤخذ من قوله ويرد، إلا صاحب هذا القبر”، يعني الرسول الأكرم عليه أزكى الصلاة والتسليم
ولنتعامل مع تاريخنا بروح النقد، بعيدا عن الوصاية والتشكيك ومصادرة الآراء، فتلك أشياء لا تجدي، وأيضا لم تعد ممكنة في عصر “المعلومات العابرة للحدود”
*كاتب موريتاني
[email protected]