هذه المرة لم يكن هدف الغارات الصهيونية على مناطق قريبة من مطار دمشق الدولي وفي الديماس، مجرد رفع معنويات للمجموعات المسلحة في ظل تطورات ميدانية لصالح الدولة السورية ، كما كان الأمر في غارات سابقة لا سيما خلال العام الفائت، بل يبدو ان لهذه الغارات هدفا آخر موجها الى داخل الكيان نفسه.
حيث يتداعى وبسرعة موقع نتنياهو الحكومي والسياسي.
فتل أبيب التي اختارت في السنوات الأولى للازمة السورية موقف الترقب والتوريث في ظل رهانات بسقوط الدولة السورية -العدو الأكثر عنادا للمشروع الصهيوني- وفي ضوء تحليلات ان تدخلها العلني سيضعف من موقف القوى المحلية والإقليمية والدولية المنخرطة في مشروع إسقاط الدولة السورية، لكنها مع الصمود السوري المتواصل عبر السنوات، أخذت تغير في تكتيكاتها وتبدأ ما اسمته تدخلا إنسانياً، على غرار ما جرى في “الجدار الطيب” في جنوب لبنان عام ١٩٧٦، وتطوره الى تدخل امني وسياسي وعسكري مباشر يهدف الى إقامة “منطقة عازلة ” بينها وبين سوريا على غرار الشريط الحدودي في جنوب لبنان ايضا، وبدا وكان المخطط الصهيوني نجح في تأمين تغطية عسكرية إسرائيلية لتمدد المجموعات السورية في مناطق فصل القوات التي كانت تقيم فيها قوات “الاندوف” الدولية.
وكان الإسرائيليون في كل غاراتهم يعتمدون مواقيت متزامنة مع نكسات عسكرية تصيب الجماعات المسلحة في اكثر من منطقة سورية، وكان الرأي يومها ان الهدف الصهيوني كان يسعى الى رفع معنويات هذه الجماعات لاسيّما بعد سقوط رهانها على تدخل عسكري أمريكي، كما الى ضرب منشآت عسكرية سورية نوعية، كما الى محاولة منع اي إمداد عسكري سوري للمقاومة في لبنان…
لكن الهدف الصهيوني من غارات الأحد، الذي يصادف الذكرى السابعة والعشرين لانطلاقة انتفاضة الحجارة التي تركت اثار سياسية هامة على الكيان الغاصب في الداخل والخارج، كان مختلفا هذه المرة.
فلقد جاءت هذه الغارة في ظل ارتباك داخلي متفاقم داخل الائتلاف الحاكم في تل أبيب تمثل بإقالة وزيرين رئيسيين في حكومة نتنياهو اللذين سرعان ما أعلنا رغبة حزبيهما، مع أحزاب أخرى بتشكيل ائتلاف مناهض لنتنياهو يسعى عبر الانتخابات المبكرة ، او بعدها، الى إخراج “الملك” وهو اللقب الذي يطلق على رئيس الحكومة الإسرائيلية – من مملكته التي بدأت تهتز بعد الهزيمة في غزة، وانتفاضة الطعن والدهس في القدس والخليل وعموم الضفة الغربية.
وما زاد من مخاوف نتنياهو ان الوزيرين المقالين ليفني ولابيد، قد اجتمعا في واشنطن لإعلان تحالفهما التي لا يخف رئيسها امتعاضه من سياسة نتنياهو ويرى فيها خطرا على مستقبل الكيان والمشروع الصهيوني نفسه، مما يعطي لهذه الخطوة أبعادا دولية يدرك نتنياهو اكثر من غيره مخاطرها، خصوصا أنها تتزامن مع ما يمكن تسميته “بانتفاضة أوروبية” ضد سياساته الاستيطانية والعدوانية والتي تمثلت مؤخراً في تتالي توصيات البرلمانات البريطانية والفرنسية والإسبانية، والبلجيكية قريبا، بالاعتراف بدولة فلسطين بالإضافة الى الاعتراف الفعلي من حكومة السويد، رغم كل ما يمكن ان يثار حول هذه الاعترافات من ملاحظات مبدأية.
إزاء هذا الارتباك الداخلي المتفاقم، والعزلة الدولية المتزايدة، و الصمود السوري الأسطوري، وتنامي قدرات المقاومة في شمال فلسطين وجنوبها، لم يعد أمام نتنياهو سوى اعتماد استراتيجية “الهروب الى الامام”، لعلها تعيد فتح أبواب داخلية وخارجية أمام حكومة مأزومة وكيان مهتز.
إلاّ أن السؤال الأهم، هل تقرأ الدول العربية والإسلامية في المنطقة والإقليم الرسالة الإسرائيلية بدقة، وتدرك أنّ أمنها القومي مهدّد، كما أمن سوريا، مثلما بدأت تدرك أن أمنها الداخلي بات مهدداً مع ما تشهده الساحتان السورية والعراقية من تداعيات عمل المجموعات الإرهابية.
الأنظار هنا تتجه بشكل خاص إلى مصر المؤهلة رغم ما تواجهه من صعوبات (وربما بسبب ما تواجهه من تحديات) لأن تلعب دوراً في إطلاق مناخ جديد في العلاقات العربية وتقنع من ما زال أسير أحقاده بإجراء مراجعات ضرورية لسياساته عموماً، ولمشاريعه في سوريا خصوصاً.
كما تتجه الأنظار أيضا إلى موسكو وطهران لا لاستمرارهما في دعم الصمود السوري على المستويات كافة فقط، بل أيضاً “لإقناع″ أنقرة إلى الإقلاع عن سياساتها التدميرية تجاه سوريا، وهي سياسات لم تلحق أضراراً بالغة ببلد عربي مسلم هام فحسب، بل ستلحق أفدح الأضرار بتركيا ذاتها، وقد جرتها سياسات أردوغانوداود أغولوإلى مخاطر كبرى.
بالتأكيد لن يؤثر العدوان الصهيوني الجديد وفي موقف سوريا وموقعها وصمودها، مثلما لم تؤثر الاعتداءات السابقة، ولكن من مصلحة كل الدول العربية والإسلامية أن تتجاوز كل ما يعيق انتصارها لسوريا في مواجهة العدوان والفتنة التدميرية في آن معاً.
في الستينيات تعرضت سفينة سعودية لاعتداء من نظام شاه إيران، فخرج جمال عبد الناصر من قلب صراعه الدموي مع حكام الرياض في اليمن يومها، وأعلن رفضه لأي عدوان يمسّ الأمن القومي لأي دولة عربية، حتى ولو كان بينهما حرب أو خصام، وفتح موقف جمال عبد الناصر صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، بل أعطى درساً جديداً لعدم الخلط بين الأولويات.
فهل يكرر التاريخ نفسه؟!