ثمة ما يدعو للانتباه هذه الأيام في العلاقة التي بدت مستعصية بين سورية وقطر، يمكن ان ندرجها في اطار المؤشرات، او الملاحظات، اذ ان كل المؤشرات لا نستطيع بعد تقييمها في اطار الاثبات ان مسارا جديا انطلق للوصول الى مصالحة بعد قطيعة وتباينات حادة بين الطرفين امتدت لاكثر من عقد، والحديث هنا لا يعني نفيا قاطعا لوجود مسار نشط بين العاصمين، فقد يكون ذلك، ولا نزعم معرفة التفاصيل، انما أحاول تخصيص هذه المساحة لرصد ما يمكن ملاحظته بشكل مباشر بعيدا عن التأويلات او الشعوذة او ادعاء معرفة ما خلف الكواليس كما هو دارج الان في عالم المحللين.
اثارت الصورة التذكارية للزعماء العرب في القمة العربية الأخيرة في المنامة انتباهي، كان الأمير “تميم بن حمد ال ثاني” الى جوار الرئيس” بشار الأسد” في الصورة، وتساءلت يومها ان كان غاب عن منظمي البروتوكول في القمة هذا الامر، ام ان اختيار الأماكن كان متعمدا، واذا كان كذلك ما هي الرسالة ؟ جهدت في ذاك اليوم لمعرفة ان كان حصل لقاء بين الرجلين ولو من باب المصافحة او السلام؟ ففي القمة العربية العام الماضي في جدة نشرت وسائل اعلام ان مصافحة جرت بين الرجلين، فلم لا تتكرر. بدت قمة المنامة وكأنها مرت دون أي اختراق في جدار العلاقات السورية القطرية، ولكن هل هذا ما جرى فعلا؟
قبل أيام اطلعت على خبر يتحدث عن اغلاق السلطات القطرية مقر الائتلاف السوري المعارض في الدوحة والمدارس التابعة له، انتشر الخبر على نطاق واسع، لكن سرعان ما نفى الائتلاف المعارض هذه الانباء واعتبرها اشاعات. قد تكون إشاعة فعلا، ولكن أيضا قد تكون تمهيدا لفعل ذلك.
وبغض النظر عن صحة الخبر من عدمه، فان قطر شرعت منذ مدة باستقبال وفود رياضية سورية، وشاركت اندية سورية في بطولة ” كأس الاتحاد الاسيوي” وعرض العلم السوري مع النشيد الوطني في افتتاح كأس العرب، وحسب ما علمت ان السلطات القطرية لم تسمح الا برفع العلم السوري الرسمي في تلك المناسبات وليس أي اعلام او شارات أخرى. كما استقبلت قطر وزراء في الحكومة السورية، في اطار مناسبات وتجمعات إقليمية، زار الدوحة وزير النفط السوري ضمن مؤتمر الطاقة العربي، ووزير السياحة ضمن اجتماعات المجلس الوزاري العربي للسياحة. كما ان خطوط الطيران المباشرة بين البلدين عادت للعمل بعد سنوات من الانقطاع.
يوم امس نشرت وكالة سبوتنيك خبرا يقول : “بعد غياب دام لأكثر من 13 عامًا، قررت دولة قطر المشاركة في معرض بيلدكس للإعمار والبناء في دمشق، الذي يعتبر من أبرز المعارض في المنطقة.” ووفقاً لمعلومات “سبوتنيك”، فإن مشاركة قطر في هذه الدورة ستتم عبر الشركة الجزائرية القطرية للصلب (Algerian Qatari Steel).. تأسست هذه الشركة عام 2013 كجزء من شراكة بين الجزائر وقطر. هذه خطوة قد تبدو ظاهريا ليست كبيرة، ولكن المؤتمر نفسه ترعاه وزارة الاشغال العامة والإسكان السورية، أي ان التواصل والموافقة جرت بين الطرفين.
ثمة من يربط بشكل دائم بين قطر وتركية في موضوع العلاقات مع سورية، وأصحاب هذا الرأي يبدون جازمين ان لا علاقة بين الدوحة ودمشق قبل انجاز اختراق بين دمشق وانقرة. ويستند أصحاب هذا الرأي على هذه النظرية لتعليل تخلف الدوحة عن اللحاق بركب الدول العربية التي طبعت علاقتها مع دمشق.
لست من أصحاب هذا النهج، واعتقد ان الدوحة قادرة على اتخاذ قرارها والحفاظ على خصوصية مسارها المستقل، ليس فيما يخص الملف السوري فحسب بل في كافة الملفات وفي اطار العلاقات والتحالفات الدولية، ولا اعتقد ان صانع القرار في الدوحة يخفى عليه تعقيدات الملف السوري التركي الذي تدخل فيه الجغرافيا كعامل حاسم في اية علاقات مستقبلية بين البلدين، كما ان تركية لا تعمل الا وفق مصالحها على الرغم من العلاقات المتميزة التي تربطها بقطر.
صحيح ان قطر تركية ارتبطا بمشروع مشترك عنوانه تسيد الإسلام السياسي مشهد الربيع العربي، انما في السنوات الماضية تغيرت بشكل جذري اتجاهات السياسات في المنطقة العربية والاقليم، ولم تعد مشاريع الحقبة السابقة قائمة وقابلة للتطبيق. ولا تبني الدول سياساتها على الأوهام والاحلام والبكاء على الاطلال، انما وفق حقائق واقعية ومتغيرات وتوازنات قائمة فعليا.
ما سمعته في دمشق قبل عام تقريبا، ان الرئيس الأسد مرحب بالانفتاح على كل الدول العربية، وان نهج سياسته قائم على مبدأ مفاده ان لا ننظر الى الماضي بل نتطلع الى المستقبل. وبناء على هذه الرؤية تجنبت وسائل الاعلام الرسمية السورية أي هجمات على اية دولة عربية، والتركيز على الملفات الداخلية لتحديث الدولة وتخطي الازمات التي يمر بها المواطن السوري نتيجة الحرب المدمرة التي اهلكت اقتصاد البلاد.
الشعب السوري بطبيعته شعب محب لإخوته العرب، لا تشعر في سورية انك غريب اذا كنت عربيا، واظهر هذا الشعب فرحه وفخره كما الشعوب العربية بنجاح قطر في استضافة ” بطولة كأس العالم ” كأول بلد عربي يحظى بهذا الإنجاز. ولا يقل الشعب القطري عنه طيبة ونقاء. وعلينا دائما ان تنذكر ان الأحقاد والتحريض ولغة الانتقام والانقسام لا تبني اوطانا ولا تنتج الا الخراب والدمار. وان أعداء المنطقة معروفون، وهم من يستفيد فقط من التناحر والخلافات والتقاتل بين دول المنطقة. إسرائيل ترتكب الان ابشع إبادة جماعية بحق شعب عربي في غزة، يجب ان تتكاتف كل الجهود للجم هذا الوحش الذي لا يفرق بين فلسطيني او أي عربي، كلنا بالنسبة له عرب مستباح قتلنا ولا نستحق الحياة.
ما عرضناه مجرد مؤشرات، وان كانت هامة وتجعلنا نتلمس تحركا في المياه الراكدة، لكنها غير كافية للدلالة على مسار ثابت يمضي نحو مصالحة تاريخية في وقت قريب، الا اذا شهدنا في الفترة المقبلة المزيد منها.
كمال خلف كاتب واعلامي فلسطيني