من الاردن حتى مصر: الشعوب والحكومات العربية.. بينهما برزخٌ

خميس, 2024-01-25 22:38

العرب. بينهما، الشعوب و الحكومات، برزخٌ عريضٌ لا يُمَكِّنِهُما من التلاقي حول مفاهيم المقاومة والسلام، أو التطبيع، ومتطلباتهما التي تراها الحكومات إيجابيةً ويراها الشعب عيبةً.

في الأردن حركةٌ محتدمةٌ حكوميةٌ وشعبيةٌ إستياءً من حرب الإبادة الصهيونية ودعماً لغزة.  تصريحات الوزير أيمن الصفدي باتت تُصنفها الصهيونية عداءً لها بل هي تعتبر الوزير عدواً شخصياً لها.  الصحف والمواقع الرسمية والخاصة لا تتوقف عن لعن الصهيونية وتمجيد المقاومة.  الحكومة أعلنت كذلك أنها تستعد لمحاكمة الصهيونية بتجميع الأدلة، ولا تتوقف الشخصياتُ الأردنية ساميةَ المقام من انتقاد السياسات الصهيونية والمؤيدة لها وتنبيهِ حكومات العالم من خطر هذه السياسات. بالتوازي، هناك حركةَ مقاطعة لشركاتٍ توصف أو يُشاعَ أنها تدعم الصهيونية لدرجةٍ أصابتها بالكساد واشتكى مسؤولون أن المقاطعة أَدَّت لإخراج أردنيين من سوق العمل. لكن المجتمع بات لا يحتمل الصبر ويطلب الثأر لغزة، مطلبٌ يتردد من خلال اعتصاماتٍ ومظاهرات يوم الجمعة.  لكن إن كانَ هذا بحراً فإن البرزخ الصامت يفصلهُ عن بحرٍ مُغايرٍ تماماً.  هنا بحرٌ من المواربة الرسمية عموماً. الأخبار تؤكد تصدير المنتجات الزراعية الأردنية للداخل الفلسطيني ومستهلكيها من اليهود والعرب مما دعا وزير الزراعة ليطلب من التجار أن يستحوا قليلاً لكن بعد أن قال أنه لا يمكنه وقف التصدير.  و هنا تنتقل الشاحنات كما صرَّحَ الصهاينة من أبوظبي عبر السعودية للأردن ثم للصهيونية ناقلةً ما عجزت عن نقله البواخر عبر باب المندب وتصمت جهات الاختصاص.  هنا في المجال الجوي الأردني تُحَلِّقُ الطائرات من وإلى تل أبيب من كل الجنسيات.  هنا يأتينا الغاز المسلوب والماء وتعمل مشاغل وعمالةٌ للصالح الصهيوني وتبقى اتفاقية وادي عربة والعلاقات الدبلوماسية قائمة، التي بموجبها كل ما سبق في البحر المهادن يصير.  تَجِّدُ الجماهير في مطالبتها بتنشيف هذا البحر وتتغاضى عن هذه المطالب الحكومة.  وتَجِّدُ الحكومة في نقدها للصهيونية لكنها لا تنتقل للخطوات التي يريدها الشعب. كلُّ يُغَنِّي على ليلاه أو يصيح في واد.  ويبقى البرزخ يسمح لكل بحرٍ أن يتفاعلَ مع نفسه دون اختلاط.

لا يختلف البحر في مصر وإن كانت رفح تبقى اللغز.  نقطةٌ حدوديةٌ لا تعبرها الناس والمعونة من غير موافقة الصهيونية المسبقة وتلتهم الجيوب الفاسدة الرشوة من الباحثين عن العبور للأمان. هكذا تقول الأخبار. وبحر الشعب المصري العظيم يكره “إسرائيل” للعظم بينما بحر الدولة لا يحبها لكنه لا يقطعها.  وكما في الأردن ففي مصر أثرياء السلام الذين يبنون ثرواتهم من خلال اتفاقياتهِ.  أما بحر السلطة الفلسطينية فهو ليس بحر الفلسطيني. شتَّانَ ما بين البحرين الفلسطينيين في النظرة والتصرف مع الاحتلال. البرازخ تمتد فاصلةً الرسمي والشعبي في هذه البلاد.  الحكومات هناك لا تسمع. وإن سمعت لا تلبي.  المغربُ كذلك.  تخرج المطالبات بوقف العلاقات مع الصهيونية والحكومة صمَّاء. باختيارها.  لا القدس التي هي ترأس لجنتها ولا احتراق غزة يحركها.

وبحارَ دول الخليج العربي، باستثناء الكويت وعُمان، تكاد تكون من لونٍ وكثافةٍ واحدة. لا تمييز لبرزخٍ هناك فطبيعتها الظاهرة هي اللهو.  اللهو المصمم ليأخذ الشعوب نحو الغريزة والسعادة.  عشرات الآلاف، لكي لا نبالغ، يشتركون في ارتياد حفلات اللهو والمهرجانات المدفوعة بالسياسات الحكومية.  تكاد هذه تكون نكايةً وغيظاً بالدمِ الفلسطيني والمقاوم. ما العنوان الذي تعطيه لمصالحةِ فنانين وظهور أُخرى من بين براثن الزمن؟ المطالبة الشعبية بالوقوف مع غزة تجري هناك تحت موج البحر وتلاحقها الشبهات الرسمية وربما العقوبات حين تظهر في العلن.  يبقى لذلك الدعم في القلب الخليجي لأن الجهر به ممنوع إلا من خلال التوجيه الرسمي. بل أنك تجدُ جرأةً وقحةً من شخصيات رسمية ودينية فيها تحريضٌ على المقاوم.  فهل يوجد بحرَيْنِ هناك؟ نكاد نأمل أن يكون لكن البحر الرسمي يطغى على غيره فيختفي ما نأمله بحر الشعوب النابضة بالوطنية و يمورُ بحرٌ رسمي للمسرَّات.  مسيرة التطبيع لا تتوقف بين الإمارات والبحرين والصهيونية. أبوظبي والمنامة ليستا في وارد “تخريبِ” علاقاتهما المفيدة مع الصهيونية. وبينما تراودُ السعوديةُ الصهيونيةَ بالتطبيعِ، لو انصاعت الأخيرة لحل الدولتين، تتمنع الصهيونية بانتظار جني تنازلاتٍ سعودية أكثرَ جاذبيةً من مجرد فتح سفارات، وفي الأثناء الخط البرِّي الناقل للبضائع الصهيونية يمر كما يقول الصهاينة دون نفيٍّ عربي من الإمارات وخلال السعودية والأردن وتطير الطائرات الصهيونية بالأجواء السعودية بأمان. لا توجد مقاطعةٌ هناك فلم يأمر ولي الأمر بذلك.

ليس في الإمكانِ أحسنَ مما يكون في بحارنا العربية.  تجري السفن بما لا يشتهي الشعب أو بعض الشعب أو الحكومات أو بعضها في رحلات السلام والتطبيع والرفض والمقاومة.  بحار العرب و برازخها تفور وتهدأ ولا تختلط ربما بانتظار النفس الأخير للمقاوم هزيمةً، كما يريد البعض، أو نصراً كما يأمل الباقي الكثير الذي هو نحنُ، زَبدَ البحر!  عند ذاك النفس الأخير سنعلم أي  بحرٍ سيطغى وأي أقوام تسود.

علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق

الأردن