تتناول الوقفة الأولى استكمال جانب من الحصة الوثائقية التي بثتها الـBBC حول رئيسة وزراء الكيان الصهيوني “غولدا مائير”، والتي تناولتها منذ أيام، وكنتُ بترت الحديث لكيلا يطول أكثر مما يتحمله القارئ في هذه الأيام العصيبة التي تشكل مأساة فلسطين، وغزة على وجه التحديد، الانشغال الأكبر وربما الوحيد لأي مواطن عربي ينتسب للعروبة قلبا وقالبا وأداء، لا كما ينتسب “غير البشر” للسلالة والفصيلة بمجرد ولادتهم على أرضٍ ما، حيث يُقال أسدٌ إفريقي وحصان عربي ونمر بنغالي وكلب ألماني وقط فارسي الخ الخ.
لكنني أحسست بأن بعض عناصر الحصة هو مما يجب أن يعرفه كل عربي، وخصوصا من كان لا يتصور أن تصل النذالة بقومٍ إلى الحدّ الذي وصلت له، لا عند عناصر الكيان فقط، بل عند بعض من ينتسبون لنا من القادة والزعماء، وبوجه خاص عند بعض من يمارسون الأدب ويعبرون، بجدارة، عن قِلّته !!، ومن بينهم من راح يتقوّل على لِثام “أبو عبيدة”، ويسميه “نقابا”، وهو أجدر بالنقاب.
والعنصر الذي أردت أن أتوقف عنده اليوم هو ما جاء على لسان أحد مساعدي “حيزبون” الكيان في الحصّة من أنه سمع منها بأنها مدت اليد للرئيس المصري أنور السادات داعية إياه لحوار لإحلال السلام فلم يستجب.
وأنا أعرف عن العدوّ تاريخه في الأكاذيب وخبرته التي فاقت ما يُنسِب للدكتور النازي، والذي يبدو أننا ظلمناه وزعيمه أكثر مما يجب، حيث تأكد أنهما كانا يعرفان خُلُق “الأشكيناز” أكثر منا، لكنني لم أكن أتصور أن يكون الكذب جزءا من شخصية رئيسة وزراء عرفت بضحكاتها، وهي نادرة الضحك، مع رئيس عربي، وهي الضحكات التي تكررت بعد سنوات بين مسؤول عربيٍّ سامٍ ووزيرة خارجية الكيان السابقة تسيبي ليفني، خبيرة العلاقات الديبلوماسية وغير الديبلوماسية.
وهنا أروي ما يؤكد ما أشرت له من قضية الكذب، على ضوء حوارٍ جرى في مدينة “ليل” الفرنسية على مائدة عشاء نظمها القنصل الجزائري العام محمد عنتر داوود في مايو 1989 على شرف وفد البرلمان الجزائري الذي كان يقوم بجولة استطلاعية من أهم عناصرها دراسة وضعية المهاجرين الجزائريين في أوروبا على الطبيعة، وكنت من بين أعضاء الوفد الذي رأسه الدكتور غاتي، ومعنا الوزيرة السابقة سعيدة بن حبيلص (ولقد ذكرت عمدا أسماء بعض الحضور لأنهم كانوا شهودا على ما دار من حديث).
وكان ضيف الشرف على المائدة رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق “بيير موروا”، الذي كان من أقرب المقربين للرئيس الفرنسي “فرانسو متران”.
كان العشاء على بعدِ أيام من تاريخ قيام الدولة العبرية، وحرصنا على أن يتناول جانب من الحوار ما يعانيه الشعب الفلسطيني من مظالم، وضرورة تحقيق السلام العادل الذي يستفيد منه الجميع.
وكان مما قاله موروا أن متران كلفه في يوليو 1973 بالتوجه إلى إسرائيل ليعرض على غولدا مائير وساطته في لقاء يجمعها بالرئيس السادات، وكان وراء ذلك طلب تقدم به الرئيس المصري لمتران، الذي كان يومها أمينا عاما للحزب الاشتراكي الفرنسي.
ويقول موروا بأن رئيسة الوزراء رفضت العرض قائلة إنها لا تثق بالرئيس المصري ( وألاحظ أن هذا حدث قبل حرب أكتوبر المجيدة بعدة أشهر، وللقارئ أن يستنتج ما يريد).
وهكذا كذبت “الحيزبون” الذي كان أروع وصفٍ سمعته عنها ما قاله رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، من أنها كانت تجسيدا جميلا للقبح والدمامة (Une belle laideur) ).
وإذا كنت لم أندهش اليوم من أكاذيب خليفة غولدا مائير، فإن ترديد الرئيس الأمريكي لتلك الأكاذيب يعني أحد أمرين، إما الجهل بالحقائق أو تجاهلها.
وهذا ليس من سمات القادة الكبار، إذا كانوا فعلا كبارا.
أما الوقفة الثانية فأسترجعُ فيها كلمات وزير الخارجية الجزائرية التي رأيتها تعبر تماما عما أشعر به، وألقاها في محفل إفريقي احتضنته الجزائر في الأيام الماضية (واختيار المحفل الإفريقي له دلالته) والتي تساءل فيها قائلا: “كيف يُحرم المدنيون الفلسطينيون من حق الحماية الذي يكفله القانون الدولي للشعوب القابعة تحت الاحتلال، وكيف لا تجد نداءات واستنجادات الأمين العام للأمم المتحدة آذاناً صاغية، وكيف لا تُقابل طلبات الاستغاثة الصادرة عن مختلف الوكالات الأممية المتخصصة بأي رد أو صدى، وكيف يُحرم المدنيون الفلسطينيون من حق الحماية ويستفيد الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني من كافة التسهيلات لإبادة شعب بأكمله دون أدنى محاسبة أو مساءلة أو حتى تلميح بالمعاقبة؟.
لقد أصبحت غزة المكلومة مقبرةً للمبادئ القانونية الأساسية التي يقوم عليها النظام الدولي الحالي والتي كان يفترض أن تظل مرجعاً يحتكم إليه الجميع دون تمييز أو تفضيل أو إقصاء”.
وأتذكر على الفور أن مضمون هذه الكلمات جاءت في خطاب الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في منتصف السبعينيات.
ولعلي أذكر من يتحدث عن حماية المدنيين الإسرائيليين مساويا بينهم، بغباء أو بجهل أو بحماقة، وبين المدنيين في غزة، إن المدنيين البالغين في الكيان الصهيوني هم جنود احتياط أو عناصر ميليشيات ينطبق عليهم ما ينطبق على العسكريين.
ويبقى أنه من حقي، وأنا غير مقيد بأي اعتبارات ديبلوماسية، أن أقول بأن مسؤولية التخاذل الأولى تقع أولا على أبناء الوطن العربي والعالم الإسلامي، قيادات وحكومات وأحزابا وهيئات وشعوبا وأميين ومثقفين، ولن أقول حتى …إلا من رحم ربك، خجلا من أطفال غزة واحتراما للآلاف من شهدائها.
ولن أعتذر عن التعميم، حتى ولو كان بعض الشرّ أهون من بعض، ولن أستثني أحدا حتى أتفادى سوء الظن وإساءة التأويل، وهي من ملامح عصر الرداءة الذي قال عنه المناضل الجزائري عبد الحميد مهري يوما : “إن للرداءة أهلها”، ولم يقُلْ….رجالها.
ومعذرة “غزة هاشم” فنحن أقل منك نخوة وإباء ورجولة بعد أن أصبحت نجدة “المعتصم” من حكايات ألف ليلة وليلة وأساطير شهر زاد.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
دكتور محيي الدين عميمور