
هكذا هو حالُ العرب اليوم. سِلالٌ من الأَصفارِ يُمْنةً و يُسْرةً حسبما يرانا الطرف المواجه. معظمهم يرانا سِلالاً من ثرواتٍ لا نستحقها وينبغي مصادرتها و استغلالنا بكافةِ الوسائل، كنا أغنياء أم فقراء، فالثراء واضح والفقر يغطي ثرواتٍ محفوظة تنتظرهم. تراكمت هذه النظرة الدونية لنا منذ سقوط الأندلس و بدايات الحروب الصليبية عندما حاقَ الغربُ بنا بمرور القرون واستطاع تطويعنا لخدمته، فنحن له مصدرٌ أساسيٌّ للطاقة و نحن أيضاً المستهلكون الشرهون لمنتجاته. ثم أُضيفَ لوصفنا الوظيفي بالنارِ و الإقناع قبولَ “إسرائيل” وأن يكونَ بعضنا لها حينما تُريد ساحةَ تجاربٍ للسلاح الجديد وسوقاً لما تريد وكيف تريد. هل نُنكرُ أننا دولٌ قويةٌ ذات سيادة؟ قطعاً لا. لكن بَوْناً شاسعاً يفصل بين قوةٍ تتغنى به الحكومات و ما يعتقدهُ عديد الشعوب العربية عن قوةٍ يرونها منقوصةً أو جريحةً في التعامل مع من يحتلنا و يستغلنا.
الغربُ، خاصةً الأمريكي و خاصةً منه دونالد ترمپ، يرانا هكذا أصفاراً على يمين الخانة و شمالها ويتعامل معنا بما يليق بهذا التصور و بما يُضاعفُ مربحهُ. ترمپ لا يتورع عن كسر التقاليد التي عادةً ما تُحترمُ بين الدول والتي تُخفي مشاعر الاستصغار بينها فهو يقول لدولنا أنه لولا حماية أمريكا لما كانوا. هم لهُ أصفارٌ في الخانتين، فهم أصفارٌ ضُعفاء من غيْرهِ و أصفارٌ أغنياءٌ عليهم تأدية الاحترام له بمنحه النفوذ والمال من دونِ أدنى تردد. و بينما يلعبها ترمپ بصفاقةٍ لا تجرؤ دولنا على الرد عليها، مُتَّبعينَ طريقةَ “عمَّكْ أصمخْ”، وببذلِ العطاءِ الطائيِّ والبهرجات الاحتفائية، يقوم باقي الغرب الأوروبي بحسابٍ مشابهٍ. ما نحنُ لهم غيرَ أصفارٍ في يسار الخانة من حيث التأثير في سياسةِ الغرب و يمينٍ من حيث كوننا سوقاً كبيراً يُشترى منه و يُباعُ لهُ ما يحتاج وما لا يحتاج. لكنهم “أَكْيَسَ” في التعامل فلا تصدر منهم قباحات ترمپ. ما يودون إيصالهِ من امتعاضٍ وحبورٍ ومِنَّةٍ و تهديدٍ يتم باللغة الراقية الدبلوماسية وفي المعظم في الغرف المغلقة والصفقات المشبوهة المُحاكةَ بالعمولات الخفية التي تُرضي الطرفين والتي تظهر في إعلامهم الحُرْ ولو بعد حين ولا يذكرها إعلامنا مطلقاً.
هذه هي النظرة التي تنظر بها الشعوب في كل بيتٍ عربي تقريباً لمسألةِ علاقاتنا مع الغرب. شعوبنا المغلوبة على أمرها، العربية والإسلامية، و حتى ببلدانٍ تصحو الآن على وقع الإبادة الصهيونية في غزة فقد صاروا ينتقدون حكوماتٍ تستعبدهم لتل أبيب و واشنطن. وهم ينظرون للعرب كما ننظر لأنفسنا كأصفارٍ تزيد في ثراء النخبة ودول النخبة، ولا بد أنهم يستعجبون من انفرادِ العربِ من بين شعوب العالم في الركوع والسجود المُبالغ للغرب المُخادعِ مع أن العرب هم من أَصَّلوا مقولة أن المرء لا يُلدغُ من جُحْرٍ مرتين فإذا بهم يتمتعون باللدغ من ذات الجحور مرَّاتٍ لا تُعد. أَعجيبٌ أن يُستقبلَ دونالد ترمپ استقبال الفاتحين في ذكرى نكبة العرب والمسلمين بفقد فلسطين لليهود؟ لا ليس عجيباً فلكل دولةٍ الحريةَ أن تفعلَ ما تريد، حين تستقبل من تريد و تدفعَ بأموالها لمن تريد، ولا تستثني هذه القاعدة أحداً من الدول في العالم حيث كل دولةٍ تحتمي بقراراتها السيادية ومصالحها. لكننا لا بد استغربنا من زيارةٍ تريليونيةٍ ولقاءاتٍ جمعت الرئيس الأمريكي ببعض الزعماء العرب والرئيس التركي في فضاءٍ من الفخامة و المراسم و العواطف الجياشة والمشاعر كما الشعور المتطايرة. استغرابنا كان من كيلِ المديح الترمپي لمن قابل فهو يصفهم بالوسامة والقوة والطول والعمل الدؤوب و الشجاعة حتى ظننا أن الرجل سيُعلنُ الشهادة أو يطلب الإقامة الذهبية عندنا! و لكن استغرابنا حقيقةً ينبعُ من سذاجةِ الاعتقاد لدى الشعوب التي تابعت زيارته بانبهارٍ وذهولٍ أن قضية العرب والمسلمين هي فلسطين أو مأساة السودان! فاتضح أن القضية هي كيف يتم تقويمنا لسلوك النهجِ الوحيد المُتاح لنا وهو قبول الصهيونية بانزياح الكابوس الفلسطيني من حياتنا وكم من الثروات تطيرُ لأمريكا.
ليس كلامَ لومٍ هذا ولا عتب ولا شكوى ولا تمنيات أو تنبؤات بل كلام واقعٍ أن العرب من مالكي الترليونات و حتى غيرهم من مستلمي المعونات بل و المتلقين للضربات، و مسلمي باكستان والهند وإيران وتركيا، يؤمنون حقاً أن الإدارة الأمريكية هي القائد الأوحد وأن كلامها مُقدَّسٌ وأن “إسرائيل” باقيةٌ بحمايةٍ أمريكية و دعمٍ عربي لها من خلال التطبيع بلا حدود و “الأبراهيمية” المنتشرة باسم التسامح. أمريكا، كما يقولون، أهانت النتنياهو، فهل فعلت؟ مُضحكٌ إن فعلت لكنها لم تُهن الربيبة “إسرائيل” ولم تتوقف عن دعم جيشها و أوكلت لها قتل و تهجير ملايين الفلسطينيين من غزة لتصبح غزة “ريزورتاً” للثراء الفاحش. فقط للعلم خلال زيارة ترمپ لمنطقتنا قتلت “إسرائيل” 380 فلسطينياً. أمريكا توقفت عن قصف اليمن السعيد وسلمت المهمة “لإسرائيل”.
أمريكا ترعى وقف الحرب في لبنان ولا توقف “إسرائيل” من قتل لبنانيين كل يوم عدة مرات أو من اختراق حدوده وسماءه. أمريكا تستدعي سوريا لتقول لها “سلِّمي تسلمي” و آمني بالأبراهيمية “تتنغنغي” ولا تقول لربيبتها اخرجي من سوريا أو تقول للسوريين سنتوقف عن سرقتكم التي مارسناها منذ عقدٍ و يزيد. أمريكا هي التي جلبت الهند وباكستان للسلام بعد مُطاحنةٍ عبثية، وتحاور إيران، القادحة الصادحة بالتصريحات والتلميحات ضدها، وتهددها. و أمريكا تختار اسطنبول للحوار الروسي الأوكراني وتقول لن يحصل شيئ هناك دون لقاءٍ “يالطيٍّ” بين ترمب وبوتين بينما تقف زعامات أوروبا ناكسة الرؤوس كالدجاجات النقاقة. أمريكا تقيم مناورات الأسود من شرق العرب لمغربهم جامعةً الصهيونية مع العرب والأوروبيين في تعاونٍ عسكريٍّ لا نفهم منهُ إلا أن العربي صديقٌ للعدو الصهيوني ما داما يتدربان معاً للحرب بالتنسيق الأمريكي وسيحاربان معاً عدواً لا نعرفه بعد. أمريكا تُلقي من سِنَّارتها خيوطاً بكل الاتجاهات تصيدُ بها فتجذب وترخي كما تريد و المَصِيدَ راضٍ ولو كرهِ طعم دمهِ النازف فالقرب من أمريكا له نعمة والبعد جفىً و غليظَ عيش. أمثلةٌ من كثيرٍ مما يستعرض قوة الحكومة الأمريكية و يُرينا أن بعضنا، عرباً وعجماً، بكامل الوعي، ما لأمريكا إلا أصفاراً عن يمينٍ ويسارٍ فهي في واشنطن تقرع الجرس و جميعنا يهرعُ لخدمتها. درسنا في زمانٍ ماضٍ عن أمريكا الحاكمة للعالم و ظننا في أيامنا الحالية أنها تنزلق فإذا بها تتصاعد. لَمَّ الرئيس الأمريكي من ثلاث دول عربية 10 تريليون دولار و يطمح أن يحصل على ثلاثة تريليونات أُخرى مع الزمن الباقي أمامه في ولايته الحالية والقادمة الثالثة. جُهدٌ قياسيٌّ لا يستطيع ألَدَّ منتقديه أن يتناولوه باللوم والهجوم. ولم يكن لهُ هذا لولانا، أصفارٌ في سلالهِ ينتقي منها ما يشاء ومتى يشاء ولأي غرضٍ يشاء.
إن شرَّ البلية ما يضحك و يُبكي و يُدمي.
الأردن علي الزعتري