أتوقف قليلا أمام ما نقلته الأخبار عن “دومينيك دو فيلبان” من أنه قال ((الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية تحتفظ في ذاكرتها بكل النكبات التي تعرضت لها القضية الفلسطينية وهذا خطير إذا لم تتم معالجته (..) لقد خدعنا صمتُ !! الدول العربية والإسلامية في السنوات الأخيرة، لكن “الشعوب” لم تنس أبدًا أن القضية الفلسطينية والظلم الذي تعرض له الفلسطينيون كانا مصدرًا كبيرًا للتعبئة، وستبقى القضية الفلسطينية مصدرا للنضال))
ويقول دو فيلبان في حديث نشرته “لو فيغارو” ((إن ما نعيشه الآن هو سياسة “انتقام”، ولإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس، ولكن الدفاع عن النفس ليس حقا عشوائيا لقتل السكان المدنيين، إذ قُتل حتى الآن أكثر من 10 آلاف شخص من بينهم 4000 طفل في غزة، وأوضح أن “هذه الحرب التي تدور رحاها اليوم هي “وهم” سلام محتمل، ولن يحدث)).
ثم يقول، وهو ما يجب أن نتوقف عنده جيدا: ((إسرائيل تعرض نفسها للخطر بهذا النوع من الحروب، وهذا النوع من الضربات، لأنه لا القوة ولا الانتقام يضمنان السلام والأمن، بل العدالة”.))
والمتحدث هو وزير الخارجية الفرنسية الأسبق الذي اشتهر بخطابه في مجلس الأمن ضد الحرب الأمريكية على العراق في 2003.
وإذا كنت رأيت التوقف عند تصريحات دو فيلبان فلأنني أحسست بضرورة توضيح بعض ما يمكن أن تحجبه العواطف عن العقول.
وبداية أرى أن من الخطورة وضع التصريحات في نفس الإطار الذي توضع فيه ردود فعل مئات من المواطنين الغربيين، ممن هالهم الإجرام الصهيوني الذي فضح حقيقة إسرائيل أمام العالم أجمع.
ما قاله دوفيلبان يندرج في نفس المنطق الذي جاء في تصريح لزعيم عربي راح يجتر فكرة الدولتين المتجاورتين، ويقترح أن تكون الدولة الفلسطينية “دولة منزوعة السلاح ومزروعة بتواجد دولي”.
وهذا المنطق يعني التعامل مع الكيان الصهيوني باعتباره “واقعا أبديا” لا يمكن تجاوزه، بمعنى أن كلّ ما يُقال يُمكن أن يكون محاولة “حماية” إسرائيل من جنون قادتها، الذين يكررون بأسوأ ما تكون البشاعة ما قامت به عناصر “الأقدام السوداء” في الجزائر قبل 1962، وكانت قمة إجرامهم ما قامت به، في الجزائر وفي فرنسا نفسها، منظمة الجيش السري OAS بقيادة الجنرال “سالان”، سيئ الذكر.
ولا جدال أن “طوفان الأقصى” كان زلزالا رهيبا أصاب إسرائيل وحلفاءها بالرعب من خطورة الانتصارات التي حققتها كتائب القسام، والتي دمرت نهائيا، وبأشد مما قام به السادس من أكتوبر 1973، أسطورة الدولة التي لا تقهر، وخرافة “القبة الحديدية” وكل التصريحات التي راحت تبرر المليارات التي أنفقت على إنشاء ” سور العار”.
وحقيقي أن ثمن إطلاق أسرى الكيان من المناضلين الفلسطينيين كان ثمنا باهظا، لكنه كان في واقع الأمر ثمنا أوّليا للقضاء النهائي على الكيان العنصري، لأنه جعل إسرائيل في وضع إذلال لم تعرفه منذ أن أقيمت في مايو 1948، وأول خطوات النهاية لأي كيان مهما كانت قوته هو سقوط هيبته واختلال مقاييسه وتعثر خطواته، تماما كما يحدث للثور الجريح في المباريات الإسبانية قبل أن تقطع أذنه، وينتهي به الأمر إلى سحبه خارج حلبة الصراع، جثة هامدة.
ولقد قلت يوما لدومينيك دو فيلبان عندما زار الجزائر أنه سيحقق فوزا كبيرا إذا تقدم للانتخابات في الجزائر، وكان ذلك على ضوء خطابه الشجاع في مجلس الأمن، وأعترف اليوم أن ما قلته كان مجرد تعبير عاطفي عن السخط العربي تجاه العدوان الأمريكي وأكاذيبه ضد العراق.
لكنني أقول اليوم بأن علينا أن نضع تصريحات “المسؤولين” الغربيين المتعاطفة معنا حيث يجب أن توضع، تماما كما كان الوطنيون الجزائريون يضعون تصريحات الفرنسيين التي تندد بجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
كانت تلك التصريحات في معظمها ردود فعل إنسانية جديرة بالتقدير، وكان لها دورها في التأثير على موقف الجنرال شارل دوغول في الاعتراف بقوة الثورة الجزائرية، وفي تحذير “الأقدام السوداء” من أن جزائر “بابا” انتهت إلى الأبد، وهو ما لم يتفهمه قادة “فرنسيي الجزائر”، وانتهى الأمر بمئات الآلاف إلى مغادرة “اندلسهم” إلى الأبد.
بوضوح أكثر، لم يكن تضامن المثقفين الفرنسيين، في معظمه، نضالا يدعم كفاح الشعب لاستعادة الدولة “العربية المسلمة” التي اختطفت في 1830، ولكنه كان رفضا للوجود الاستعماري الذي يدمر “الجزائر الفرنسية” كما كان يعمل لها “الكولون” بغباء وتعنت وجهل بحقائق التاريخ، وهكذا كان ذلك التضامن عملا من أجل إقامة الجزائر كما يريدونها، أي جزائر فرنسية بدون الجيش الفرنسي وفظائعه، بلادا يتجسد فيها وجود فرنسي ثقافي اقتصادي، كان من بين شعاراته الخادعة شعار “الجزائر الجزائرية”، الذي ما زال بعض الحمقى عندنا يردده بسذاجة مضحكة، وكأن العالم يستعمل تعبيرات فرنسا الفرنسية وبريطانيا البريطانية وكندا الكندية.
دو فيلبان هو أساسا سياسي فرنسي يعرف موازين القوى في بلاده، وولادته في المغرب لا تجعله أقل تمسكا بكاثوليكيته ولاتينيته وانتمائه للشمال، وهو يعرف قوة اللوبي الإسرائيلي في بلاده بعد أن عاش اضطرابات 1968 التي أنهت عهد الرئيس دوغول، وتأكد أنها كانت “انتقاما يهوديا” من موقف الرئيس الفرنسي المندد بإسرائيل أيام الهزيمة العربية في 1967، دعمته واشنطون الساخطة على موقف الجنرال من الأطلسي.
وربما كان دو فيلبان يطمح، كغيره، إلى كُرسيّ “الإيليزيه”، وبالتالي لا يمكن أن نستبعد أن من خلفيات موقفه حماية الوجود الإسرائيلي من حماقة القيادات الإسرائيلية التي تهدد وجود الكيان الصهيوني كدولة تنعم بالأمن والاستقرار، وترشيد مواقف اللوبي الإسرائيلي في فرنسا على وجه التحديد، وهو ما يكشفه قوله: ((أفضل إستراتيجية لفترة ما بعد الصراع !!، هو إنشاء إدارة “دولية” مؤقتة تحت رعاية الأمم المتحدة، و”تجريد” قطاع غزة من السلاح، و”تسريب” أعضاء حماس إلى البلدان التي تدعم الجماعة، مثل إيران وروسيا)) !!!.
وأنا لست ضد التصفيق لـ “دو فيلبان” و”مانشون” ولغيره ممن القيادات الفرنسية التي تندد بجنون الكيان الصهيوني، بل بالعكس، أدعو للتصفيق لهم ليل نهار، ولكن بدون أن ننسى أن الجهاد الفلسطيني منذ عقود وعقود يهدف إلى إنشاء دولته المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وليس “في القدس”، بتعبير نُسبَ لديبلوماسي عربي.
وفي نفس هذا الإطار، فإن كل التوجهات التي تحاول التهرب من إدانة التطبيع يجب أن تُرفض بكل حزم وعزم، وهنا أتفق بشكل مطلق مع الأستاذ طارق ليساوي وهو يقول: ((معركة طوفان الأقصى نقطة فاصلة في الصراع العربي الصهيوني، فبفضله عادت فلسطين لواجهة الأحداث (..) كما أن العدوان الصهيوني الغاشم أماط اللثام عن نفاق وخيانة “جلّ” الأنظمة العربية والإسلامية، التي طالما رفعت شعار الدفاع عن القدس وفلسطين…شعارات جوفاء تم توظيفها لتسكين الشعوب، واستعبادها وهضم حقوقها باستخدام فزاعة العدو الصهيوني، ودغدغت مشاعر الشعوب بخطابات عاطفية تضامنا مع القدس وفلسطين (..) وهي من شجع ترامب على اتخاذ قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتفعيل ذلك عبر نقل السفارة الأمريكية للقدس، والترويج “لصفقة القرن” و التي تم إقبارها بفضل المقاومة الشعبية و المقاومة المسلحة، و بفضل عملية طوفان الأقصى و صمود المقاومة بدأ الحديث عن ما بعد إسرائيل)).
وقد لا يتفق معي البعض، لكن الاختلاف لا يُفسد للودّ قاضية.
والمهم هو أننا اليوم في حاجة إلى ما هو أكثر من الود.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق