بينما كان الشركاء والممولون الدوليون والمستثمرون ينتظرون إصلاح العدالة وتطويرها، ومنح استثماراتهم الأمان ، وشراكتهم ضمانات قضائية موثوقة ، كانت المنتديات العامة حول العدالة ميدانا للسباق نحو اكتساب ما أمكن من المزايا المهنية من طرف مكونات الحقل القضائي ، وكانت الورشات كأنها لصياغة عرائط مطلبية ، فكانت النتيجة أن خرج تقرير مطول متنه حزم مطالب تقليدية لهذه الهيئات المهنية ، وحاشيته نزر قليل مما يصلح به القضاء .
صحيح أن تحسين الظروف العامة للعاملين في مجال القضاء معين على ترسيخ المبادىء الأساسية كالإستقلالية والمؤسسية وحكامة المنظومة، لكن أن تكون الإمتيازات هي الهاجس الذي يحرك الجميع ويلهيه عن التفكير لما يصلح به القضاء ويتطور وتقترب خدمته من الجميع وتكون قراراته نافذة فذلك أمر مخيف للشركاء والمانحين الذين يبذلون الجهود المادية والسياسية المضنية ليس لسواد عيوننا ولكن لضمان نجاعة استثماراتهم بتقوية القضاء وتأهيله لحمايتها، كما أنه مربك لسياسة النظام الذي رعى هذه المنتديات وأرادها إنجازا يذكر له ، وكان بالإمكان فعلا حصول ذلك ، حتى أن هذا الواقع لم تستفد منه جميع المكونات ليصح منه مشروع دعم القدرات البشرية لموظفي القطاع على الأقل وإنما كان هناك تهميش ممنهج لمكونة كتاب الضبط ، وكان نصيبها من التوصيات قليلا ، وكأنها ليست ضمن المنظومة المراد إصلاحها، وهو خلل ينضاف إلى الإختلالات المذكورة التي صاحبت سير المنتديات العامة حول العدالة ، وملمح لعدم المساواة في عملية الإصلاح ، يعطي صورة عن ضرورته.
إن إهمال مهنة كتابة الضبط الحديثة النشأة ليس جديدا ، ودليله واضح قبل تقرير المنتديات ، ربما كان هو سبب تدخل الإتحاد الأربي وبرامج الأمم المتحدة أصلا ، لأنه هو المظهر الأوضح لوجود اختلالات مهنية في منظومتنا القضائية ، وهناك دليل آخر لا يقل أهمية وهو أن القطاع المعني بتسيير موظفي مهنة كتابة الضبط ، والوزراء السبعة المتعاقبون عليه خلال العقد الأخير، لم يحرك ساكنا في العريضة المطلبية لهؤلاء ، ولو بمطلب وحيد، ولكن هذه الحقيقة تكرست واتضحت حين أقيمت منتديات عامة حول العدالة ، وانبثقت عنها وثيقة وطنية بمثابة خريطة طريق "للإصلاح " وتم استثناؤهم من إعدادها وتحضيرها ونتائجها ، كأنهم لا دور لهم في المحاكم ، في حين هم مرتكز العملية القضائية ، والعنصر الأبرز في صناعة منتجها، وإن كانت هذه المهنة لم توفق حتى الآن في إقامة كيان نقابي قادر على الدفاع عن حقوقها ومطالبها، فليس ذلك مبرر لتخلي وزارة العدل عن دورها في تنمية قدرات القطاع وتطويره .
كل ما ذكر يعطي صورة واضحة أن قطاع العدل يعاني ، ويبدو أن عيادة المنتديات ، وتوصيات فخامة رئيس الجمهورية المتكررة بإعادة النظر في ما يكفل تصحيح وضعيته لم تنفع حتى الآن ، مع العلم أن السبب معروف وهو عدم إشراك جميع المعنيين في رسم سياساته الإدارية والمهنية ، وغياب الروح الوطنية في أغلب رجالاته، وإن استمر على هذا النحو فلا أمل في القضاء الذي يريد المواطن والمستثمر والشريك الدولي.