تذكرت بقايا أبياتٍ للشاعر أحمد فؤاد حجازي تطلّ عليّ من حنايا الذاكرة، تفجرت بها عواطف الشاعر المصري الكبير وهو يخاطب “أوراس”، منطلق الثورة الجزائرية، ويقول:
من أين أتيت بكل ضحاياك
هل أنت معين رجال لا ينضب
مات الصف الأول…
تقدّم…
مات الصف الثاني…
تقدّم…
مات الصف الثالث…
تقدّم…دُسْ على صدْرِ من تحب، واذرف دموعك عليه بعد النصر.
والمعنى العميق الذي تتضمنه هذه الكلمات البسيطة هي أنه لا وقت للبكاء خلال المعركة، وهذا هو التمزق الذي يعيشه كل من يحاول الآن أن يتفاعل بالكلمات مع الوقفة التاريخية الرائعة للشعب الفلسطيني، وضحاياه يتساقطون بالعشرات بل وبالمئات، وصور جثامين أطفاله الأبرياء تتناثر في كل مكان.
وأتصور أن الانتصار في أي معركة فاصلة ضد عدوّ غادر همجيّ يستهدف الأمة كلها يتطلب أن يكون هناك من القادة من يؤمن بالله ويستلهم عزيمة الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ويعزل عواطفه مرحليا عن كل عناصر المأساة ليفكر، بإرادة حديدية وبدم بارد وأعصاب هادئة، عن أسلم الطرق لهزيمة العدوّ.
وهنا لا أملك إلا أن أتساءل ما إذا لم تكن الساحة العربية تفتقد اليوم أمثال قياداتٍ راحلة تميزت بالرجولة والوطنية الصادقة، وكانت قادرة على مواجهة التحدي التاريخي، واتخاذ المواقف التي تتجاوز وضعية الثورة النفسية التي تستثيرها همجية العدوّ ونذالة حلفائه ومؤامرات الطابور الخامس.
ولن أذكر أسماءً لا شك أنها تعيش في وجدان كل عربي، لكنني آمل أن تبرز اليوم أسماء مثلها لرجال يثبتون أنهم لا يقلون إيمانا وعزيمة ووطنية، أدركوا ما هو مطلوب منهم بالضبط لإيقاف مجزرة فلسطين، فتحركوا على الفور قبل أن يصمهم التاريخ بما يجعلهم أقل من مستوى والي عكة يوما ما، وبيير لافال والسلطان بن عرفة والباش أغا بوعلام بعده بعقود.
وبرغم هول الفاجعة التي تضحي فيها غزة وبقية الأرض المحتلة بدمائها نيابة عن أمة ضاعت بوصلتها وتشتت جهودها فإنني أزعم أن ضرورة الانتصار تفرض حجما من الهدوء الفكري يمكن من دراسة خريطة الأحداث بما يمكن من انتزاع النصر من براثن المأساة، بعيدا عما تثيره من غضب وارتياع.
هذا هو ما أحاول القيام به، ويعلم الله مدى صعوبته.
والنقطة الأولى التي تبرز أمامي هي أن المأساة الفلسطينية أكدت أمرا كان كثيرون ينكرونه، وهو أن الشمال يظل شمالا والجنوب يظل جنوبا، وهو تجسيد لقوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ- سورة البقرة: 120 ).
ولا بدّ أن أذكر هنا بأن مسيحيي المشرق العربي كانوا إلى جانب المسلمين في دفاعهم عن الأرض المقدسة، لأنهم كانوا يدركون بأن ما يحدث، منذ القرن الثاني عشر، هو صراع حضاري لا مخرج منه إلاّ إليه، وهو ما يبرز حجم الجريمة التي جسّدها إسقاط الحاجز النفسي مع الكيان الصهيوني، القاعدة المتقدمة للشمال الصليبي وقلعته العدوانية، ويكفي أن نتذكر المواقع التي خسرناها منذ نوفمبر 1977، والتي تضاف إلى خسائرنا مذ 1948.
ويرتبط بذلك الانحياز العنصري أكثر من فضيحة
فرئيس أكبر دول العالم يكذب علنا وأكثر من مرّة، وتتضاءل بجانبه كذبة كولين باول ذات يوم.
ووزير خارجيته يعلن أنه يزور إسرائيل كيهودي، ولا يخجل من إعلانه ازدواج انتمائه.
وسلفه الأسبق هنري كيسنجر يقول بأن على إسرائيل أن تقتل أكبر عدد من المسلمين وتحتل نصف الشرق الأوسط، وهو يؤكد بذلك دوره في إجهاض نتائج حرب أكتوبر.
وفي فرنسا يُحكم بسجن من يتعاطف مع ضحايا غزة، ويُعاقب رياضيون جزائريون انتزعوا الفوز يوما لبلاد الجن والملائكة.
وأذكّر بما قاله الدكتور جمال العبيدي بالأمس: “تجتاح الغرب موجة هستيريا حربية الآن، ويصرخ “الغرب الجماعي” ومن ضمنه إسرائيل، بأنه يتعين من هنا فصاعدا استئصال حماس، لكن جميع الناس يدركون بأن المقصود والمأمول هو استئصال الشعب الفلسطيني والتخلص منه نهائيا، وهكذا فإن إسرائيل تطالب الآن بالحل النهائي، على غرار ما قام به النازيون بحق اليهود (أو هكذا يدّعون) وينسى كثيرون أن النازية هي بنت الغرب وتعود إلى الغرب، والصهيونية تستحضر لهجة النازية”.
النقطة الثانية هي النتيجة التي يجب أن نخرج بها من النقطة الأولى، وهي أن أسبقية الأسبقيات اليوم هي عزل الكيان الصهيوني التي يجب أن تبدأ بطرد سفرائه ونزع أعلامه من الأرض العربية وقطع كل الاتصالات معه، وهو أمر بالغ الأهمية، سيثبت لحلفائه، إذا تم بشكل جماعي، أن درس الأندلس حيّ في الذاكرة الجماعية للأمة، وأننا لن نبكي ثانية ملكا لم ندافع عنه كالرجال.
وحقيقيّ أنها ليست خطوة سهلة، لكن متى كان الانتصار في المعارك أمرا سهلا، خصوصا إذا تذكرنا كيف انتهى الأمر بقبائل “الهنود الحُمْر” في القارة الأمريكية، وهو ما بدأت نُذره بالحديث الخبيث عن تهجير أهل غزة.
وواضح الآن أن تكثيف الهجمات الصاروخية على مدينة هاشم هو الاستعداد للغزو الأرضي بعد تدمير كل إمكانيات مواجهته الفعالة، وهو ما يفرض المسارعة بالتحرك الفوري.
والنقطة الثالثة التي سبق أن حذر منها أصحاب البصائر هو أن الدور القادم بعد تصفية المقاومة الفلسطينية هو اجتثات كل مقاومة وطنية حيثما وجدت، وكيفما كانت، وسوف تدفع بلدان مثل كولومبيا، التي طردت السفير الإسرائيلي، ثمن تضامنها مع النضال العربي، ولن نجد في العالم من يلقي بالا لوجودنا نفسه.
ولن يستطيع عربي أو مسلم أن يرفع رأسه في أي مكان في العالم.
وكل ما يمكن أن يُقال غير هذا هو من نافلة الأقوال.
آخر الكلام: تحية للشيخ أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر الذي اختصر في تدوينته كل ما يمكن أن يُقال، وأعطى الأزهر دور الريادة الذي فقده آخرون.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق