الشرق الأوسط في معادلة الصراعات الدولية.... واشنطن وموسكو وبكين ومسار تبدل موازين القوة

أربعاء, 2023-09-06 06:15

شكل انضمام ثلاثة أقطار عربية وهي السعودية والإمارات ومصر إلى مجموعة بريكس خلال قمة المجموعة في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا ما بين 22 و 24 أغسطس 2023 مؤشرا جديدا على الانحسار المتصاعد للنفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وإعادة دول المنطقة ترتيب سياساتها وتحالفاتها لتتلاءم مع العملية الجارية لإعادة تشكيل النظام العالمي على أساس تعدد الأقطاب مع أفول نظام القطب الواحد الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي بداية العقد الأخير من القرن العشرين.

تواجه واشنطن هذه التحولات بطرق مختلفة تتضمن الضغوط السياسية والعسكرية والحصار والعقوبات الاقتصادية وإشاعة عدم الاستقرار وتشجيع أو تحريك الاضطرابات والصراعات الإقليمية والمحلية.

الإدارة الأمريكية في نطاق جهودها لمواجهة عالم ينحسر فيه نفوذها لا تتمتع بدعم غير مشروط من طرف المعسكر الغربي المفترض أنها تقوده بسبب تشابك وتقاطع المصالح داخله وإدراك عدد من الأطراف الغربية فيه أن واشنطن خلقت وتخلق الفرص والأحداث للقفز والاستحواذ على مناطق نفوذهم ومصالحهم.

التوسع في النفوذ والهيمنة الذي مارسته الولايات المتحدة خلال حوالي ثلاثة عقود رغم ما جلبه من مكاسب وغنائم لها أجهدها، وكما يجادل المفكر بول كيندي فأن قدرة قوة عظمى يمكن قياسها على النحو الملائم فقط مقارنة بقوى أخرى، ويقدم نظرية حول ذلك: هيمنة القوى العظمى "على المدى البعيد، أو في صراعات محددة" لها علاقة قوية بالموارد المتاحة والتحملية الاقتصادية، التمدد العسكري المفرط والأفول النسبي المصاحب هو التهديد المستمر الذي يواجه القوى ذات الطموح والمتطلبات الأمنية التي تتجاوز ما يمكن تقدمه مواردها المتاحة.

ويستنتج أن الدول آفلة القوة تختبر صعوبات أكثر في الموازنة بين تفضيلاتها من البنادق، والاستهلاك والطعام، والاستثمارات.

قامت إستراتيجية واشنطن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ولفرض استمرار وضعها الجديد كالقوة المهيمنة الوحيدة على إتباع وتنفيذ مخطط للتحكم في تشكل أي قوة يمكن أن تكون منافسة أو معارضة لسياساتها، وفي مناطق كالشرق الأوسط وضعت مشروع الشرق الأوسط الجديد لتقسيم دوله إلى ما بين 54 و 56 دولة على أسس عرقية وطائفية ومناطقية وصنعت الفوضى في العراق وليبيا واليمن، وفي أمريكا اللاتينية تابعت جهودها لفرض أنظمة موالية، وفي أفريقيا شجعت الصراعات وحصنت أساليب تحكم شركاتها في الاستحواذ على ثرواتها. لكن المشكلة التي واجهتها إدارة البيت الأبيض في تلك المرحلة أنها فشلت في تحجيم نمو الصين اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، بينما استطاع قادة الكرملين الجدد انتشال روسيا من فترة الانحلال والعودة تدريجيا للعب دور أكبر على الساحة الدولية، الهند بدورها استفادت من حالة الصراع على الصعيد الدولي لتبرز كقوة كبرى، كذلك كان الأمر بالنسبة لقوى أخرى وتجمعات اقتصادية كأوبك مثلا.

 

أمريكا تفقد بريق نفوذها

 

نهاية شهر أبريل 2023 كشفت وثائق أمريكية مسربة، أن نفوذ الولايات المتحدة في عدد من الدول يتراجع، ويتمثل ذلك في تجنب الدول الانحياز لأمريكا في مواجهتها مع الصين وروسيا، وذلك في وقت ذكر موقع "Axios" الأمريكي أن استطلاعاً للرأي أُجري في 137 دولة وإقليم، أظهر أن القبول العالمي لقيادة أمريكا للعالم سجل تراجعاً. 

صحيفة Washington Post ذكرت يوم السبت، 29 أبريل 2023، أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، تواجه تحديات خطيرة، في الوقت الذي تحاول فيه كبرى الدول النامية تحاشي الانحياز لواشنطن، بل وتستغل هذه الدول المنافسة بين أمريكا والصين وروسيا لتحقيق مكاسب لمصلحتها، وفقاً لتقييمات الاستخبارات الأمريكية السرية.

تقدم هذه الوثائق، وهي ضمن مجموعة الأسرار الأمريكية المسربة على منصة "ديسكورد"، لمحة نادرة عن الحسابات السرية التي تجريها كبريات الدول الناشئة، مثل الهند والبرازيل وباكستان ومصر، لتجنب الانحياز في عصر لم تعد فيه أمريكا القوة العظمى الوحيدة بالعالم.

تتحدث التقييمات الإستخباراتية المسربة، عن عقبات تواجهها إدارة بايدن في تأمين دعم عالمي لجهودها في منع انتشار ما تصفه بالاستبداد، واحتواء حروب روسيا خارج حدودها، ومواجهة انتشار الصين العالمي المتزايد.

في إحدى الوثائق المسربة، تقول هينا رباني خار، وزيرة الدولة الباكستانية للشؤون الخارجية، في مارس 2023، إن بلادها "لم يعد بإمكانها اتخاذ موقف وسط بين الصين والولايات المتحدة".

نبهت خار إلى ضرورة أن تتجنب إسلام أباد الظهور بمظهر استرضاء الغرب، وقالت إن غريزة الحفاظ على شراكة باكستان مع أمريكا، ستحرم البلاد الفوائد الكاملة لما اعتبرته شراكة "إستراتيجية حقيقية" مع الصين. 

تتحدث وثيقة أخرى، مؤرخة في 17 فبراير2023، عن مداولات رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، مع أحد مساعديه بخصوص تصويت في الأمم المتحدة على قرار يخص الحرب في أوكرانيا، وما توقعته الحكومة أن يكون ضغطا غربيا جديدا لدعم قرار يدين الهجوم الروسي.

تشير الوثيقة الإستخباراتية إلى أن المساعد قال لشريف إن دعم هذا الإجراء قد يوحي بتغير موقف باكستان بعد امتناعها السابق عن التصويت على قرار مماثل، وأشار المساعد إلى أن باكستان لديها القدرة على إبرام اتفاقيات تجارة وطاقة مع روسيا، وأن دعم القرار الغربي قد يعرض تلك العلاقات للخطر.

تشير الصحيفة الأمريكية، إلى أنه حين صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 23 فبراير 2023، كانت باكستان من بين 32 دولة امتنعت عن التصويت. 

كذلك حين زار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن جنوب إفريقيا في العام 2022، أخبره المسؤولون بأنهم لن يتخذوا قرارات لا تناسبهم، وكانت جنوب إفريقيا قد أجرت مؤخرا تدريبات عسكرية مع روسيا.

بالمثل، بدا أن الهند تتجنب هي الأخرى الانحياز إلى أحد الطرفين بين واشنطن وموسكو، خلال محادثة في 22 فبراير 2023، بين مستشار الأمن القومي الهندي أجيت كومار دوفال، ونظيره الروسي نيكولاي باتروشيف، وفقا لإحدى الوثائق المسربة.

تقول الوثيقة إن دوفال أكد لباتروشيف دعم الهند لروسيا في المنتديات متعددة الأطراف، وأن نيودلهي تعمل لضمان عدم إثارة الحديث عن الحرب خلال اجتماع لمجموعة العشرين برئاسة الهند، رغم "الضغط الكبير" الذي يسببه ذلك عليها.

وبالفعل، خلال اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين في نيودلهي بعد أسبوع، أدى خلاف حول أوكرانيا إلى الفشل في صياغة إجماع حول التحديات العالمية الأكبر.

تظهر الوثيقة المسربة أيضا، أن دوفال أشار كذلك إلى رفض الهند لضغوط تعرضت لها لدعم قرار الأمم المتحدة المدعوم من الغرب بخصوص أوكرانيا، قائلا إن بلاده "لن تحيد عن موقفها الذي اتخذته في الماضي".

 

الاستفادة من المنافسة

 

إن دول آسيا الوسطى "تتطلع إلى استغلال" هذه الخصومة والاستفادة من الاهتمام المتزايد من جانب الولايات المتحدة والصين وأوروبا، في سعيها لتقليل اعتمادها على روسيا، وفقالتقييم يعود لتاريخ 17 فبراير 2023، من مكتب مدير المخابرات الوطنية.

لم تحدد الوثيقة هذه الدول، لكنها على الأرجح تشمل دولا مثل كازاخستان التي تسعى لتقليص النفوذ الروسي وتطوير شراكات جديدة في الطاقة والتجارة، وتقول الوثيقة إن قادة المنطقة "حريصون على العمل مع من يقدم الخدمات الفورية، أي الصين في الوقت الحالي".

بحسب "واشنطن بوست"، يحاول بعض المسؤولين في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، تبني موقف الجسر الدبلوماسي بين الخصوم الثلاثة، ومن بين هؤلاء الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي يسعى إلى إكساب بلاده دورا عالميا رائداً بعد فترة من الخطوات الانعزالية في عهد سلفه جايير بولسونارو.

في هذا الصدد، تعرض الوثائق المسربة اقتراح لولا لتشكيل "تكتل سلام عالمي" للتوسط في صراع المصالح الأمريكية والصينية، ولإنهاء القتال في أوكرانيا، وأشارت إلى أن الزعيم البرازيلي ذا الميول اليسارية كان يعتزم مناقشة هذه المبادرة مع الرئيس شي جين بينغ، خلال زيارة إلى الصين، التي حدثت في أبريل 2023.

تقول وثيقة مسربة أخرى إن رئيس الأرجنتين، ألبرتو فرنانديز، كان يخطط لتشكيل تحالف جديد لدول أمريكا اللاتينية، يضم الأرجنتين والمكسيك والبرازيل، لتأمين المزيد من القوة في المفاوضات مع الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي.

 

الثقة بأمريكا تتراجع

 

يأتي الكشف عن محتوى الوثائق المسربة، فيما ذكر موقع Axiosالأمريكي، السبت 29 أبريل 2023، أن استطلاعاً أجرته مؤسسة غالوب في 137 دولة وإقليم، أظهر أن القبول العالمي لقيادة الولايات المتحدة تراجع في العام الثاني من ولاية بايدن. 

يشير الموقع إلى أنه رغم ذلك فإن أمريكا لا تزال تتقدم بفارق كبير على الصين وروسيا، وأضاف أن الاستطلاع أُجري في منتصف إلى أواخر عام 2022، بعد الانسحاب الفوضوي الأمريكي من كابل، وبعد الهجوم الروسي على أوكرانيا أيضا.

كذلك أظهر الاستطلاع تراجع القبول بالقيادة الروسية عموما، وإن ظل مرتفعا بشكل لافت في مجموعة من البلدان الإفريقية، ففي مالي، التي تنتشر بها وحدات مؤسسة فاغنر العسكرية الروسية، بلغت نسبة القبول 90 في المئة، في حين انخفض متوسط القبول بالقيادة الأمريكية من 41 في المئة إلى 39 في المئة في أوروبا، ومن 52 في المئة إلى 36 في المئة في الأمريكتين في العام الثاني لبايدن.

لكن الصين لم تتقدم على الولايات المتحدة إلا في عدد قليل من بلدان المنطقتين، ومن ضمنها روسيا بطبيعة الحال، وبلغ متوسط القبول بالقيادة الصينية 16 في المئة فقط في أوروبا و23 في المئة في الأمريكتين.

أما في إفريقيا، جنوب الصحراء الكبرى، فكان القبول بالقيادة الأمريكية بمتوسط 59 في المئة والصينية 52 في المئة مرتفعانسبيا، وفي آسيا كانت الصورة أقل حسما، إذ تقدمت الصين بفارق كبير في باكستان وإيران، على سبيل المثال، في حين كانت نسبة القبول بالقيادة الأمريكية أعلى بكثير في الهند.

وحظيت القيادة الأمريكية بشعبية خاصة في كوسوفو 90 في المئة، وبولندا 80 في المئة، ونيجيريا 78 في المئة، و"إسرائيل" 65 في المئة، والفلبين 62 في المئة، فيما حظيت بشعبية محدودة في روسيا 4 في المئة، وإيران 8 في المئة، والأراضي الموجودة تحت سلطة الإدارة الفلسطينية 13 في المئة.

 

الاقتراب من الصين وروسيا

 

جاء في تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" الأمريكية نهاية شهر أغسطس 2023:

يواصل بعض كبار حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، الاقتراب من الصين وروسيا، بعدما تقرر انضمام السعودية والإمارات ومصر إلى مجموعة بريكس، ما يزيد من تعقيد الجغرافيا السياسية التي انقلبت رأسا على عقب بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.

وتعد هذه الخطوة جزءا من حملة لقادة دول بريكس: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، لزيادة نفوذ المجموعة ومواجهة قوة الولايات المتحدة على الاقتصاد والتجارة العالميين، وخاصة دور الدولار الأمريكي.

كما تشير الخطوة أيضا إلى تصميم السعودية والإمارات ومصر على تعزيز مكانتها كقوى متوسطة الحجم مع تجنب الانحياز إلى أي طرف في عالم منقسم بشكل متزايد بين واشنطن وموسكو وبكين. 

وفي هذا الإطار، قالت آنا جاكوبس، كبيرة المحللين في مجموعة الأزمات الدولية: "إنهم يركزون على تحقيق التوازن والحفاظ على العلاقات مع القوى المتعددة، وليس الانحياز إلى أحد الجانبين والانخراط في منافسة على القوى الكبرى".

وحاولت الولايات المتحدة التقليل من أهمية توسع بريكس، حيث قال مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان،إن واشنطن لا تعتبر المجموعة منافسا جيوسياسيا ناشئا. ورفض مجلس الأمن القومي الأمريكي الإفادة والتعليق يوم الخميس 24 أغسطس، رغم أنه سلط الضوء على دور مجموعة العشرين باعتبارها "المنتدى الرئيسي للتعاون الاقتصادي" في بيان بعد اجتماع سوليفان مع نظرائه من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة.

 

هيمنة الدولار 

 

في حين تتمتع السعودية وروسيا بصوت قوي في إمدادات النفط العالمية من خلال تحالف "أوبك+"، فإن تطوير بريكس يركز بشكل أكبر على مواجهة هيمنة الدولار الأمريكي في تجارة النفط، لا سيما مع كل من المنتجين والمستوردين الكبار بين المجموعة الموسعة، بما في ذلك أكبر مشتري الصين. 

وأعربت الصين ودول بريكس الأخرى عن رغبتها في شراء الطاقة بعملات أخرى، ولكن أي تحرك لتحويل نظام البترودولار القائم منذ فترة طويلة سيكون معقدا، حسبما أكدت "بلومبرغ"، مشيرة إلى أن السعودية والإمارات تربطان عملتيهما بالدولار، وستحتاج كل منهما إلى أي عملة أخرى يتم الدفع بها لمنافسة الدولار من حيث السيولة وكمخزن للقيمة.

وبدون استخدام واسع النطاق للديون غير الدولارية، فمن المرجح أن يكون هناك "تقدم لمدة عقد من الزمن نحو عالم متعدد الأقطاب، ربما يصبح فيه الدولار واليورو واليوان العملات المهيمنة في الأمريكتين وأوروبا وآسيا على التوالي، حسبما أوردت مذكرة لمحللين في ING.

وأشارت المذكرة إلى أن الطاقة تمثل 15 في المئة فقط من التجارة العالمية وأن "تسعير صادرات النفط السعودية إلى الصين والهند بعملات غير الدولار لا يعني نهاية الدولار باعتباره العملة الدولية المفضلة".

وأورد تقرير أصدره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ومقره البحرين، في يوليو 2023، أن دول الخليج العربي تريد رفع"القدرة على التعامل داخل المناطق الدولارية وغير الدولارية".

ومع ذلك، فإن الانضمام إلى مجموعة بريكس يوفر للسعودية والإمارات الفرصة والمرونة للاعتماد بشكل أقل على الدولار إذا لزم الأمر.

وفي السياق، قال توربيورن سولتفيدت، المحلل الرئيسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في شركة "فيريسك مابلكروفت" لاستشارات المخاطر، ومقرها المملكة المتحدة: "إنهم يمهدون الطريق للتخطيط للطوارئ في حالة تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة بشكل كبير".

وتنفق السعودية تريليونات الدولارات لتنويع اقتصادها، ويرى ولي عهدها الأمير، محمد بن سلمان، أن العلاقات الأعمق مع دول مثل الصين والهند أمر بالغ الأهمية لتحقيق هذا الهدف.

وصرح وزير الخارجية السعودي الأمير، فيصل بن فرحان، لوسائل إعلام محلية: "إن سياستنا الخارجية تركز في المقام الأول على بناء شراكات اقتصادية قوية، أولا لدعم التنمية الاقتصادية في المملكة (..) لقد أثبتت بريكس أنها قناة مهمة ومفيدة لتحقيق هذا الهدف".

ويأتي ضم السعودية والإمارات إلى بريكس بعد إقامة كل منهما علاقات مع الدول الأعضاء بالمجموعة في العقد الماضي، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى تدفقات النفط الهائلة التي تتجه الآن إلى آسيا.

وتعد الصين والهند أكبر شريكين تجاريين لكل من السعودية والإمارات، وبلغ حجم تجارة السعودية مع الصين والهند إلى مستوى قياسي بلغ حوالي 175 مليار دولار عام 2022، وفقا لبيانات هيئات الأمم المتحدة التي جمعتها "بلومبرغ".

وفي الوقت ذاته، توترت العلاقات بين واشنطن وبعض دول الخليج العربي في الأشهر الثمانية عشر الماضية، ويرجع ذلك جزئيا إلى رفض هذه الدول فرض عقوبات على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا وقرارها عدم زيادة إمدادات النفط عندما ارتفعت الأسعار في أعقاب ذلك.

وظاهريا تحسنت هذه العلاقات في الأشهر الأخيرة، ولكن الولايات المتحدة فشلت في إجبار السعودية على التوصل إلى اتفاق قد يؤدي إلى اعتراف الرياض بإسرائيل مقابل ضمانات أمنية أمريكية.

وإضافة لذلك، أوضحت الرياض وأبو ظبي أنهما ترغبان في أن تظل الولايات المتحدة والقوى الغربية شركاء اقتصاديين وأمنيين أقوياء، وهو ما عبر عنه حاكم دبي الشيخ، محمد بن راشد، بقوله إن الانضمام إلى بريكس سيعزز مكانة الإمارات كدولة "تربط بين شمال العالم وجنوبه وكذلك شرقه وغربه".

 

فشل القيادة الأمريكية

 

في تقرير آخر لها نهاية شهر أغسطس 2023 أكدت وكالة "بلومبيرغ" أن توسع مجموعة "بريكس" يؤكد الطلب المتزايد على إيجاد بديل للنظام العالمي القائم بقيادة الدول الغربية، ويشهد أيضا على فشل قيادة الولايات المتحدة.

وفي الوقت نفسه، أشارت الوكالة إلى أن قرار المجموعة التوسع بانضمام الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والسعودية والإمارات قد يؤدي إلى زيادة عدد التناقضات داخلها وتعقيد التنسيق.

وأضافت أن الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل كانت لديها منذ البداية شكوك حول توسع مجموعة "بريكس"، ولم ترغب في "أن تتحد المجموعة بشكل أكثر شدة ضد الولايات المتحدة وشركائها في "السبع الكبار".

واعتبرت أن القرار الذي تم اتخاذه في قمة جنوب إفريقيا بتوسيع مجموعة "بريكس"، قد يشير إلى الرغبة في تغيير النظام الدولي الحالي.

وشددت على أنه "على الرغم من خلافات المجموعة، إلا أنه يبدو أن دول بريكس الـ11 متفقة على أن القواعد والمؤسسات العالمية الحالية لا تلبي مصالحها بالشكل المطلوب".

 

الاقتصاد العالمي يتغير

 

بداية شهر سبتمبر 2023 لفت الاقتصادي الأمريكي ريتشارد وولف، إلى تأثير "بريكس" المتزايد التي صارت تمثل ضامنا للدول الرافضة للتحالف مع واشنطن والغرب، ولاسيما مع التطور الاقتصادي في روسيا المنتجة لمواد خام أساسية والمالكة لصناعات ضخمة، والصين المتوسعة في الأسواق وصاحبة أكبر وأحدث قاعدة صناعية في العالم.

وأضاف في مقابلة مع قناة Dialogue Works على "يوتيوب" أن "اقتصاديات الغرب ستضطرب خلال الفترة المقبلة في حين أن الاقتصاد الروسي سيتعاظم والاقتصاد الصيني سينمو بسرعة حيث أن روسيا دولة منتجة في نهاية الأمر، ناهيك عن أن التحالف بين روسيا وإيران والسعودية والإمارات وغيرها وهي دول منتجة للنفط والطاقة ستنافس الغرب وواشنطن فلماذا الهيمنة الأمريكية؟".

وأكد أن "بريكس" بعثت رسالة قوية بأن الاقتصاد العالمي يتغير ولديها هدف عام هو تطوير اقتصاديات دولها ودعمها، وبالتالي كل بلد في العالم لديه خياران إما الخضوع لهيمنة واشنطن وحلفائها، أو الانضمام إلى "بريكس" وحلفائها.

وأشار وولف إلى محاولات واشنطن والغرب الحثيثة لمنع ذلك والتأثير على مجموعة "بريكس" التي بدأ يتعاظم دورها سنة تلو الأخرى، حيث أن الدول التي تحتاج إلى الدعم المالي وترفض الهيمنة الأمريكية بإمكانها الآن اللجوء إلى بنك "بريكس".

وأكد أن أغلب الدول رأت ما حدث في الأزمة الأوكرانية وموقف الغرب وعلى رأسه واشنطن تجاه روسيا من عقوبات وتجميد لأصولها.

وشدد على أن الحرب في أوكرانيا ليست بسبب أوكرانيا وإنما تندرج في محاولات الغرب إضعاف روسيا والصين، وإلى الآن يعتقد الغرب أن بإمداده كييف بالأسلحة وإطالة أمد الصراع سيركع الروس، إلا أنه في النهاية يدمر أوكرانيا، ولن يمنع روسيا من تحقيق أهدافها.

 

الوهم المستمر 

 

تحاول بعض مراكز القرار في واشنطن اعتبار التطورات السلبية على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط عامة والخليج العربي خاصة مؤقتة ويمكن تحويلها في الاتجاه المعاكس، وفي هذا الاطار اعتبر بلال صعب، مدير برنامج الدفاع والأمن في معهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة "MEI"، أن مفتاح التدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط هو الفعالية وليس حجم هذا التدخل، مضيفا أن الولايات المتحدة تحولت في علاقاتها الإقليمية من الوصاية إلى الشراكة.

صعب تابع، في مقال بموقع "المجلة" نشر بداية شهر أغسطس 2023:

في صيف 2016، دعاني كل من مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق ستيفن هادلي ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت، للمساعدة في تصميم مناورة أو محاكاة لأزمة من أجل اختبار ما إذا كانت زيادة أو تقليل التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط سيعود بفائدة أكبر على مصالح واشنطن وأمنها القومي.

وأوضح أن "الأزمة دارت حول حادث وهمي في البحر بين القوات البحرية السعودية والإيرانية. فافترضنا أن زوارق هجومية صغيرة تابعة للإيرانيين تصدت لفرقاطة سعودية في المياه المتنازع عليها مع الامارات، جنوب غربي جزيرة أبو موسى، مما أدى إلى غرق قارب إيراني واختفاء بحار سعودي، وأعتقد كل طرف أن الآخر هو المسؤول عن بدء الاشتباك، ووضع كلاهما قواته العسكرية في حالة تأهب".

وأضاف: "واختبرنا ما إذا كانت زيادة حجم التدخل الأمريكي أو تخفيفه ستنجح أم تفشل في تهدئة الموقف وردع إيران عن التصعيد، وكانت النتيجة الأهم هي أن حجم التدخل الأمريكي لم يكن العامل الحاسم في فعاليته".

و"بالطبع، كان وجود أصول عسكرية أمريكية "قوات ومعدات" متمركزة في المنطقة مهما إلى حد كبير، لأنه منح واشنطن خيارات للرد، لكن عدد هذه الأصول لم يكن العامل الأهم والحاسم في نجاح التدخل الأمريكي"، وفقا لصعب.

وأردف: "أما النتيجة الرئيسية الثانية من المناورة، فكانت إثبات أن الوجود العسكري الأكبر في المنطقة واستعراضه للقوة لم يكن العامل المساهم في ردع القوات الإيرانية على الأغلب".

"ذكرتني الأحداث التي شهدناها في الشرق الأوسط خلال الأسابيع والأشهر القليلة الماضية بالرؤى التي استخلصناها من مناورة 2016، فعلى الرغم من تقلص الموارد العسكرية للقيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) اليوم بسبب تركيز الولايات المتحدة على التحدي الذي تشكله الصين في المحيطين الهندي والهادئ وحرب روسيا مع أوكرانيا، إلا أنها كانت أكثر فاعلية مؤخرا في تدخلاتها بالمنطقة، سواء بشكل فردي أو جنبا إلى جنب مع الشركاء الإقليميين. ورغم كل ما قيل عن تخلي الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط، إلا أن الواقع يثبت عكس ذلك"، بحسب صعب.

صعب زاد بأن "القيادة المركزية الأمريكية نشرت أصولا عسكرية إضافية في المنطقة، بينها مدمرة تابعة للبحرية وطائرات مقاتلة من طراز "إف-35" و"إف-16"، لتعزيز الردع الأمريكي ضد إيران".

وأضاف: " كما زادت القيادة وتيرة تدريباتها مع الشركاء الإقليميين لتعزيز قابلية التشغيل التبادلي وتقوية الروابط العسكرية.

ورأى أن "السبب في زيادة فعالية هذه الأنشطة المكثفة هو أنها جزء من مسؤولية القيادة المركزية المعاد تجديدها باعتبارها مكونا أمنيا تكامليا، ففي الشرق الأوسط، انتقلت الولايات المتحدة ببطء ولكن بثبات من الوصاية إلى الشراكة، وكانت القيادة المركزية في طليعة تلك العملية".

 

أخطاء كثيرة

 

واستدرك صعب: "بالطبع، كانت هناك كثير من الأخطاء في الفترة الأخيرة، إذ نجحت إيران في الاستيلاء على كثير من السفن وتورطت في أنشطة غير قانونية على الأرض وفي المياه البحرية، وهو ما أثار تساؤلات حول فعالية الردع الأمريكي".

وتابع: "ومع ذلك، ينبغي التأكيد على أن نجاح الردع لا يعتمد فقط على تكثيف القوات والطائرات المقاتلة أو وجود حاملات طائرات أمريكية، كما يركز عليه الشركاء الإقليميون دائما، وإنما يعتمد أساسا على المفاهيم التي تحدد دور الولايات المتحدة والإرادة السياسية للقادة الأمريكيين للتحرك".

و"نادرا ما تكون المشكلة الحقيقية في القيادة المركزية الأمريكية، بل عادة ما تكمن في سياسة واشنطن. ولا أقصد أن حجم التدخل ليس له أهمية، فالقدرة العسكرية تسهم في ضمان الثقة لدى الشركاء، لكن الأهمية الكبرى تكمن في تحقيق الفعالية الكاملة لتلك القدرة"، كما أضاف صعب.

 

جبهة في الحرب الباردة الجديدة

 

كما كان الحال في مواجهات جنوب شرقي آسيا، الفيتنام وكمبوديا واللاوس وبعدها في أفغانستان تروج وسائل الإعلام الغربية للنظريات التي تخدم مصالحها وفي هذا الإطار جاء في تحليل لوكالة "بلومبرغ" الأمريكية يوم 22 أبريل 2023:

"تسعى الصين لجعل منطقة الشرق الأوسط جبهة رئيسية في الحرب الباردة الجديدة مع الولايات المتحدة"..يقول التحليل، إن الصين وضعت بصمتها في المنطقة بطريقة لم يكن من الممكن التكهن بها قبل 6 أشهر، لاسيما من خلال توسطها في الاتفاق بين إيران والسعودية والذي حمل في طياته الكثير من المتغيرات التي وصفت بـ"الدراماتيكية".

بصمات الصين للمنطقة بدأت تتسع، حيث أطلق وزير الخارجية الصيني تشين غانغ، جهوداً لتشجيع استئناف المحادثات الإسرائيلية الفلسطينية.

وأشار تشين، خلال محادثات هاتفية منفصلة مع نظيريه الإسرائيلي إيلي كوهين والفلسطيني رياض المالكي، إلى أن "بلاده مستعدة لتسهيل محادثات سلام"، بحسب وكالة "شينخوا" الرسمية، موضحاً أنه شجع على اتخاذ خطوات لاستئناف محادثات السلام، وأن بلاده مستعدة لتسهيل هذا الأمر.

كما شدد تشين خلال المحادثات الهاتفية على أن بلاده تسعى للدفع باتجاه محادثات سلام على أساس حل "يتضمن إقامة دولتين".

أما على الصعيد المالي، فافتتح البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ومقره بكين، أول مكتب خارجي له في العالم، في العاصمة الإماراتية أبوظبي.

ووفقا للوكالة، فإن مقر المكتب التشغيلي للبنك في سوق أبوظبي العالمي، يهدف إلى "العمل كوجهة إستراتيجية" لدعم أجندته.

والبنك الآسيوي للاستثمار، هو مصرف تنمية متعدد الأطراف جرى إنشاؤه منذ ما يقرب عقدا من الزمان باعتباره رد الصين على المؤسسات المالية التي أنشأتها الدول الغربية.

وتأتي هذه التطورات ذلك في أعقاب ما وصفته الوكالة بـ"الصدمة" التي حدثت في واشنطن، فالسعودية لم ترفض مع تحالف "أوبك+" عدم خفض الإنتاج في وقت سابق، بل إنها عمدت مع ذلك التحالف إلى إقرار خفض جديد خلال شهر أبريل.

ومع ذلك، يظل ربط أسعار الصرف في الشرق الأوسط بالدولار رابطا قويا للولايات المتحدة، كما هو الحال بالنسبة لعلاقاتها العسكرية القوية والإستراتيجية، ولذلك فإن واشنطن لم تخسر الكثير حتى الآن في الجبهة الجديدة مع الصين.

وحسب خبراء، فإن قوة الدولار هي العامل الأساسي في استخدام دول مجلس التعاون الخليجي العربي للورقة الخضراء كعملة رئيسية للتبادل عبر الحدود، وبالتالي فإن التغيير المفاجئ من شأنه أن يزعزع استقرار البلدان نفسها، ولذا فإن أي تحول يجب أن يكون تدريجيا.

لكن التحليل أشار إلى أن هناك مؤشرات على تغيرات في هذا المجال، ففي مارس 203، أجرت الإمارات أول تسوية لصادرات الغاز الطبيعي إلى الصين مقومة باليوان الصيني.

وتعد هذه سابقة مثيرة للاهتمام، خاصة بعد عقد الصين صفقة تاريخية بقيمة 60 مليار دولار لتوريد الغاز الطبيعي المسال من قطر لمدة 27 عاما.

وتعد تلك الصفقة التي تسري اعتبارا من العام 2026 أطول اتفاقية لتوريد الغاز الطبيعي المسال للصين حتى الآن، وفقالبيانات بلومبيرغ، ناهيك عن أنها واحدة من أكبر صفقات الدوحة من حيث الحجم.

وجاءت تلك الصفقة بعد اتفاقيات عقدها مشترون أوروبيون مع الدوحة في محاولة يائسة للتخلص من الاعتماد على الغاز الروسي.

يقول غاستن دارغين المتخصص في الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: "لم تكن شركات الطاقة الصينية المملوكة للدولة على مر التاريخ تتمتع بالخبرة اللازمة للتنافس على قدم المساواة مع شركات الطاقة الغربية".

ويضيف: "تسلط تلك الصفقة الضوء على كيفية تطور الأحداث بسرعة".

من جانب آخر، قالت السعودية، التي كانت أكبر مورد للنفط الخام إلى الصين حتى حلت محلها روسيا في وقت سابق من عام 2023، إنها قد أبلغت بكين في يناير 2023، أنها منفتحة على المناقشات بشأن استخدام عملات أخرى غير الدولار في المبادلات التجارية.

وتعتمد السعودية الدولار في تسوية أكثر من 80 في المئة من صادراتها النفطية السنوية البالغة 326 مليار دولار.

وبالإضافة إلى أن بكين أصبحت الزبون الرئيسي للطاقة في الشرق الأوسط، فإن العديد من دول المنطقة سعت إلى جلب المزيد من الاستثمارات الصينية.

وشهر أبريل 2023 كان وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة الإماراتي سلطان الجابر، في زيارة إلى بكين، سعيا لتعزيز تعاون بلاده مع الصين في مجال الطاقة النظيفة.

وجاءت الزيارة بعد أن وقعت الصين والسعودية عددا من الاتفاقيات بشأن التعاون في قطاع الطاقة المتجددة وفي مجال الهيدروجين الأخضر خلال زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى الرياض في ديسمبر 2022.

وأوضح محللون أن تلك" الصفقات الخضراء" سوف تمكن شركات التكنولوجيا النظيفة الصينية من "التوسع في الأسواق الخارجية المربحة وتقوية العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع دول الخليج العربي الرئيسية".

وفي حين يجب أن ينظر إلى جهود بكين الدبلوماسية على أنها أقل أهمية من اعتبارات العملة، فإن هناك ساحة أخرى قد تود فيها واشنطن أن تظل أكثر يقظة إذا كانت ترغب في منع إضعاف نفوذها في الشرق الأوسط.

ووفقاً للوكالة، فإن الصين حتى الآن لم تصبح عنوانا رئيسيا كبيرا فيما يتعلق بالتعاون العسكري وتوريد الأسلحة إلى الخليج العربي الذي تخضع ممراته البحرية لإشراف الولايات المتحدة منذ أمد طويل، وعليها بالتالي الحذر في هذا الأمر.

 

عمر نجيب

[email protected]