تُظهر آخر استطلاعات الرأي داخل “الحزب الجمهوري”، والتي جرت في منتصف الشهر الجاري، بأنّ دونالد ترامب ما زال لدى غالبية “الجمهوريين” هو المرشّح الأفضل لمنصب الرئاسة في انتخابات العام القادم رغم كل الدعاوى القانونية التي أقيمت ضدّه في عدّة ولايات، وعلى قضايا مختلفة بعضها يرتبط بالأمن القومي الأميركي. ويبدو أنّ المؤيّدين لترامب لا يعنيهم كثيرًا ما في مضمون هذه الدعاوى القانونية ويعتبرونها مجرّد اتّهامات سياسية حزبية من إدارة بايدن، ولن تؤثّر على ترشّح ترامب للرئاسة وعلى إمكانية فوزه أيضًا!.
حتمًا يملك ترامب تأثيرًا كبيرًا على القاعدة الشعبية للحزب الجمهوري، التي هي الآن مزيج من تحالف العنصريين البيض ومن أتباع للطائفة الإنجليكية المحافظة ومن الداعين لانتشار السلاح وحقوق حمله. وهذا المزيج هو الذي يهدّد ترامب به المرشّحين الآخرين في حزبه ولدى خصومه معًا، إضافةً إلى الدعم الكبير الذي يحظى به ترامب من بعض الشركات وجماعات “اللوبي”، ومنها “لوبي الأسلحة”، وما لهذه الجماعات وقوى الضغط من علاقات قوية مع أعضاء في مجلسيْ الكونغرس.
إنّ طموحات ترامب لمنصب الرئاسة تعود لحقبة الثمانينات من القرن الماضي رغم عدم تولّيه لأي موقع سياسي في العقود الماضية كلّها. وهو سعى في العام 2000 للترشّح للرئاسة باسم “حزب الإصلاح” الذي تأسّس في مطلع حقبة التسعينات مع ترشّح رجل الأعمال الثري روس بيرو، لكن لم يُؤخذ ترشّح ترامب جدّيًّا رغم قيامه بحملاتٍ انتخابية في بعض الولايات.
فالطموحات السياسية للثري ورجل العقارات دونالد ترامب، والتي كانت تتراوح بين منصب حاكمية ولاية نيويورك وبين رئاسة “البيت الأبيض”، عمرها عقود من الزمن، وهي لم تقف على أرضية انتماء فكري أو سياسي لحزب محدّد، بل انطبق على ترامب قول ميكيافيلي: “الغاية تبرّر الوسيلة”، وهذا ما فعله ترامب عقب فوز باراك أوباما بانتخابات العام 2008، حيث لمس حجم ردّة الفعل السلبية التي جرت في أوساط الجماعات المحافظة والعنصرية داخل المجتمع الأميركي، نتيجة فوز أميركي من ذوي البشرة السوداء وابن مهاجر أفريقي مسلم، بأهمّ موقع سياسي في أميركا والتي ما زالت العنصرية متجذّرة في أعماق الكثير من ولاياتها الخمسين.
أيضًا، أدرك ترامب ما حصل داخل الحزب الجمهوري في العام 2010 من ظهور وتفوّق تيّار “حزب الشاي” المحافظ، والذي استطاع الحصول على غالبية أعضاء مجلس النواب في الانتخابات النصفية، اعتمادًا على التخويف الذي مارسه هذا التيّار من معاني فوز أوباما بالرئاسة الأميركية، وعلى الحملات التي قام بها المرشّحون باسم هذا التيّار ضدّ المضامين الاجتماعية الليبرالية لأجندة أوباما وضدّ المهاجرين عمومًا، ومن هم من دول العالم الإسلامي على وجه الخصوص!.
وكان ما سبق ذكره كافيًا لدونالد ترامب لكي يحسم خياراته الفكرية والسياسية لصالح القوى المنتمية لهذه الجماعات اليمينية المحافظة، التي تحرّكت ضدّ كل ما كان يرمز له أوباما من أجندة ومن أصول إثنية وعرقية ودينية وسياسية، وبحيث تحوّلت هذه القوى إلى تيّارٍ شعبي بنى لاحقًا عليه ترامب قوّة قاعدته الانتخابية، والتي استطاعت تجاوز العديد من المرشّحين المعروفين في الحزب الجمهوري، وجعلت من ترامب رمزًا لها وتمكّنت من إيصاله إلى الرئاسة الأميركية. ودعم هذه القاعدة الشعبية له ينطلق من ضرورة عدم تكرار حقبة أوباما، وبأنّ عودة “أميركا العظيمة”.. أميركا ذات الأصول الأوروبية البيضاء البروتستانتية، مرهونة باستمرار ترامب في موقع الرئاسة وبما هو عليه من أجندة داخلية وخارجية.
في المقابل، نجد أزمة “الحزب الديمقراطي” بما عليه الرئيس الحالي بايدن من ضعف في نسبة تأييد الأميركيين له وعدم امتلاكه “كاريزما” الشخصية القيادية الجذّابة، إضافةً إلى مشكلة كبر السن عنده، والتشكّك بقدرته على إدارة شؤون أميركا في فترة رئاسية ثانية. وترى القيادات التقليدية في “الحزب الديمقراطي” بأنّ جو بايدن هو المؤهّل لمنافسة دونالد ترامب في انتخابات العام القادم، وبأنّه المرشّح المعتدل القادر على استقطاب غالبية الأميركيين التي لا تؤيّد التطرّف نحو اليسار الذي يُمثّله تيار بيرني ساندرز وسط “الديمقراطيين”، ولا تريد عودة ترامب للبيت الأبيض بسبب سياساته المدعومة من الأميركي اليميني المتطرّف.
واقع الحال، أنّ المجتمع الأميركي يسير نحو التطرّف بالاتجاهين المتعاكسين لأسباب موضوعية تزداد فعاليتها منذ بدء القرن الحالي. وما ينطبق على القوانين العلمية الفيزيائية يصحّ أيضًا على المجتمعات والشعوب حيث لكلّ فعل ردّة فعل موازية لقوّته، ولذلك مقابل التطرّف “اليميني” الذي تعيشه الولايات المتّحدة، هناك تطرّف نحو “اليسار” لدى المعارضين له، وهو أمرٌ يتجاوز بكثير مسألة الانقسامات السياسية والأيديولوجية ليشمل ما هو أخطر على وحدة المجتمع الأميركي.
“الأصوليون الأميركيون” الذين دعموا ويدعمون أجندة ترامب يعلمون تمامًا ما جرى نشره في مطلع هذا القرن من إحصاءات ودراسات تؤشّر كلّها إلى تغيير ديمغرافي مهمّ يحدث في الولايات الأميركية، وينبئ بتحوّل العرق الأبيض إلى أقلّية في المجتمع الأميركي وإلى هيمنة واسعة لثقافات ولغات غير الأصول التي نشأت عليها أميركا.
و”الأصوليون الأميركيون” تنتشر وسطهم جماعات دينية محافظة وبعضها لديه عنصرية دينية ضدّ أي دين أو مذهب مسيحي آخر، بينما الهجرة من دول أميركا اللاتينية وأفريقيا وشرق آسيا ودول العالم الإسلامي كانت تزداد بشكل واسع خلال العقود الماضية، عِلمًا أنّ غالبية المهاجرين من أميركا اللاتينية هم من أتباع المذهب الكاثوليكي بينما من هم “أصول أميركا” يتّصفون ب”الواسب” WASP والتي تعني “البيض الأنجلوسكسون البروتستانت”، وهم الذين مارسوا العبودية بأعنف أشكالها ضدّ الأفريقيين المستحضرين للقارّة الجديدة، إلى حين تحريرهم قانونيًّا من العبودية على أيدي الرئيس إبراهام لنكولن في نهاية القرن التاسع عشر، بعد حربٍ أهلية طاحنة مع الولايات الجنوبية التي رفضت إلغاء العبودية في أميركا.
وهذه العناصر مجتمعة: التغيير الديمغرافي والعنصرية العرقية المتجذّرة والهجرة لأميركا من أديان ومذاهب وثقافات مختلفة عن “الأصول الأميركية” كانت هي وراء فوز ترامب في العام 2016، وهي مستمرّةٌ الآن كقوّة دعمٍ له فارضةً نفسها على الحزب الجمهوري وعلى أعداد كبيرة من المستقلّين غير الحزبيين.
فالتطرّف هو الذي يسود الآن في المجتمع الأميركي ولن يتراجع في القريب العاجل، بل ربّما سيزداد قوّةً خلال انتخابات العام القادم وبعده، عِلمًا أنّ التطرّف يؤدّي أيضًا إلى استخدام العنف المسلّح، كالذي جرى من حوادث إرهابية محلّية في عدّة ولايات ضدّ أقلّيات دينية وعرقية وإثنية. فحقّ اقتناء السلاح في أميركا أمرٌ لا رجعة عنه، وقد ارتفعت نسبة شرائه في السنوات الماضية ممّا ينذر بممارساتٍ عُنفية أكثر في المرحلة القادمة.
د. صبحي غندور مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
Twitter: @AlhewarCenter
Email: [email protected]