مرت أمس 44 سنة على انتقال الرئيس الجزائري هواري بو مدين إلى الرفيق الأعلى، تعرض خلالها الرئيس الراحل، على غرار ما حدث للرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد وفاته، للكثير من التهجمات، ولدرجة أن البعض كان يخشى أحيانا من أن يقول كلمة خير في رجل أحب وطنه وناضل من أجله حتى الرمق الأخير.
ومنذ سنوات وسنوات وبفضل شباب متوقد الحيوية عميق الوعي ملتهب الوطنية ومع الكثيرين من أهل الخير رحنا نتصدّى لتوجهات مَريضة مغرضة كانت تحاول أن تسيئ لكل ما هو نبيل وشامخ في تاريخ العربي والعالم الإسلامي، وهي توجهات حاولت تشويه مسيرة الكثيرين من رجالاتنا بما جعل من أصحابها وجودا أقرب للطابور الخامس الذي يعمل لخدمة العدو بتدمير نفسية المواطن العربي، والشباب بوجه خاص.
ورحنا في هذا الصدد نحاول إحياء ذكرى أحداثنا الوطنية والتذكيرَ برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان مجال تحركنا في كثير من المناسبات بعض المواقع الجامعية والمقرات الصحفية والمنابر الإعلامية، ومن بينها وفي طليعتها “رأي اليوم”، إلى جانب الصحف الجزائرية الوطنية.
وفي خضم كل هذا، عملنا على ترسيخ تقاليد الاحتفال بسنوية رحيل الرئيس هواري بو مدين، انطلاقا من سطيف، ومرورا بعدة مدن، ووصولا إلى قالمة، مسقط رأس الرئيس الراحل.
وظل أملنا دائما أن يُقام الاحتفال الرئيسي بتكريم قياداتنا الوطنية في عاصمة البلاد، بدون أن يحول هذا وبين احتفال رمزي في مسقط الرأس، ولكن بدون الاقتصار عليه، بما يحوّل الزعيم الوطني إلى شيخ قبيلة معزولة لا يهتم به إلا مريديه والأقربين من عائلته.
وقد كنت وما زلت أرى من العيب أن يقتصر الاحتفال الجزائري بذكرى رحيل بو مدين في قالمة وأحمد بن بله في تلمسان وحسين أيت احمد في عين الحمام والشاذلي بن جديد في الطارف، ورابح بيطاط في قسنطينة، ناهيك من القيادات التي فجرت ثورة أول نوفمبر، والتي قد تمر ذكرى كثيرين منها بدون وقفة ترحم تقر بها، على الأقل، أعين الأبناء والأحفاد.
ولن أتناول التقاعس عن تكريم الوطن العربي والعالم الإسلامي لرجالاتنا فالحال من بعضه في هذا الزمن الرديء، حيث لا يدرك كثيرون أن الاهتمام لا يهدف إلى تقديس القيادات الوطنية التي رحلت عن عالمنا، كما ادعى شبه مؤرخ من فتات الزمن الرديء، وهو ليس عبادة لبشر بأي حال من الأحوال، فالتقديس، إن كان، لا يصح إلا للرسل والأنبياء، وأزعم أن أشباه المؤرخين ممن يلوكون تلك الأقاويل، في المشرق والمغرب، هم أعاجم سياسيا، مرضى بعقدة النقص، ومصابون بعلة العجز عن فهم عبقرية الحرص على الوحدة الوطنية، فيخلطون بين التقديس وبين التمجيد، ولا يعرفون الفرق بين هذا وذاك، ولا يدركون، عجزا أو تطاولا، أن التمجيد والتكريم والتذكير بالرجال وبالمواقف وبالمآثر هو أولا حق للشعوب، لأنه يدعم مشاعر العزة والكرامة في نفوس أبنائها ويزرع في قلوبهم اليقظة الوطنية ويهبهم قوة التفاني في خدمة الوطن والدفاع عنه لا ضد العدوّ الخارجي فحسب ولكن ضد النفس الأمارة بالسوء، ويجعل من “الحشود”، التي يراها البعض مجرد دهماء لا تصلح إلا للتصفيق والتهليل، يجعل منها شعبا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أي كتلة متراصة معتزة بماضيها متفاعلة مع حاضرها منطلقة في عملية بناء مستقبلها.
من هنا فإن تمجيد القيادات الوطنية بدون استثناء هو عمل أكبر من مجرد الاهتمام بشخصيات اصطفاهم المولى عز وجل لمهام جليلة، وكل منهم كان مجرد بشر، يجتهد ويصيب ويجتهد ويخطئ، ومعظم الذين يَعْمون عن إنجازات أي عظيم من رجالاتنا وينشبون أظافرهم في أخطائه أو عثراته هم مرضى بأسوأ الأمراض، مرض الحسد المرتبط بالحقد والغيرة وعقدة النقص والشعور بالضآلة وتذبذب الانتماء، ومن حسن الحظ أن هؤلاء، مهما علتْ أصواتهم، قلة في ميزان التاريخ.
وأنا أقول دائما إن أمة تستهين برجالاتها ستتعرض للإهانة من شبابها، وشعب لا يحترم كباره سوف يحتقره صغاره، ومن يُلقي بأبيه في دار العجزة والمسنين يمكن ألا يجد يوما سقفا يؤويه أو قلبا يرعى شيخوخته.
هذا العام احتفلت الجزائر في العاصمة الجزائرية للمرة الأولى في تاريخ استقلالها بذكرى رحيل هواري بو مدين، باني نهضتها الحديثة والأمين على توجهاتها العروبية الإسلامية، وهو إنجاز يُحسب لرئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، ويُحسب أيضا للسيد وزير المجاهدين، برغم أنه قال لي حرفيا: أنه الرئيس الذي أمر بذلك.
ولن أزعج القارئ بالتوسع في الحديث عن الرجل، الذي أصيب العالم الديبلوماسي بالذهول وهو يرى أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة بكل جنسياتهم وانتماءاتهم يبادرون بالوقوف تباعا بمجرد أن علموا أن الرئيس هواري بو مدين يدخل قاعة مبنى علبة الكبريت في نيويورك، في ذلك اليوم المشهود من أبريل 1974، والذي لم ينس الوطن العربي وقفته في 1967 عندما رفض الهزيمة وواجه تبعاتها وعمل على تدرك عثرات لم يدرك كثيرون خلفيتها الحقيقية.
ولن أتوسع بالتالي في الحديث عن هواري بو مدين، صاحب النظرة الإستراتيجية التي سبقت الجميع وحذرت الغرب في منتصف السبعينيات من تهاطل مهاجري الجنوب بأعداد رهيبة وفي ظروف بالغة السوء على موانئ الشمال، بعد أن سُدّت في وجوههم أبواب العيش الكريم نتيجة مؤامرات الاستعمار الجديد والشركات الغربية متعدية الجنسيات، والزعيم الذي ترددت صرخته في نيويورك وهو يندد بنظام عالمي ظالم وُضِع في غيبتنا ويجب أن يتغير، وهو ما يردده كثيرون اليوم مع التعتيم على أول من أطلق الصيحة، ربما لمجرد أنه زعيم يعتز بعروبته وبإسلامه، يعني …دكتاتور إرهابي.
وأتذكر هنا أيضا تفاصيل صرخة الهواري التي اهتزت لها لاهور الباكستانية ومواقع أخرى، عندما حذر أثرياء المسلمين من تجاهل ما يعانيه فقراء الأمة، وسخر، ضمنيا، من حماقة من يدعو جائعا إلى الصبر لأنه سيأكل في الجنة.
وفي الحديث عن لاهور الباكستانية لا يمكن أن ننسى دوره الخالد مع الملك فيصل والعقيد القذافي لدعم جهود الجمهورية الإسلامية في مجال النشاط النووي، وتمويل صناعة القنبلة النووية الإسلامية، حتى لا يحتكر بلد آسيوي مجاور أقوى أسلحة الفتك.
ولن أتوقف بالتفصيل عند ما يعرفه الكثيرون عن الشخصية القيادية للرئيس وعن قدرته الفائقة على الاختيار بين البدائل المطروحة واقتناص أفضلها، أو في تحديد الأسبقيات التي تبدأ بالأكثر أهمية لتنتقل إلى ما هو أقل أهمية، ولن أذكر بأن بو مدين لم يكن يتخذ قرارا إلا بعد أن يقتله بحثا ودراسة وتحليلا، ويراجع معطياته مع أكبر عدد ممكن من أولي الرأي والخبرة، وأحيانا مع بعض البسطاء من المواطنين، وبعد ذلك يعلنه قائلا… قررنا …بالجمع، وليس …قرّرتُ… وأراها قمة التواضع من قائد يعرف الكثيرون أن التوجهات الرئيسية كانت من عنده، والكلمة الأخيرة كانت دائما له.
رحم الله الهواري وكل القيادات التي تشكل الرصيد الذهبي الحقيقي للأمة، ولا قرت أعين الجبناء.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق