العالم بعد أوكرانيا

سبت, 2022-11-26 18:21

ننتقي ثلاثَ ساحاتِ صراعٍ عالميٍّ هي أوكرانيا والخليج العربي و الشرق الآسيوي كوريَّاً و صينياً. العامل المشترك بينهم هو الولايات المتحدة الأمريكية. أعدائها هم روسيا و إيران وكوريا الشمالية/الصين. أما أوكرانيا فاشتعلت نيرانها روسيا. وكيف تنطفئ ستحدد حالة العالم.

عالمنا اليوم دخل حربهُ الكونية بين روسيا و الغرب، حتى تاريخه يصل مجموع ما تم صرفه غربياً لدعم أوكرانيا لكي تهزم روسيا، بين يناير وأكتوبر ،٢٠٢٢ ما يقارب ٩٤ مليار دولار منها ٤١ مليار معونات عسكرية و ٣٨ مليار معونات نقدية و ١٤ مليار معونات إنسانية. و هي كما ترون ملياراتٌ كثيرة يريد من منحها، وهم ست و ثلاثون دولة تترأسهم الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، أن تؤدي دورها خاصة في الجانبين العسكري و النقدي. و دور هذه المعونات هو تمكين أوكرانيا من الانتصار أو إن لم تنتصر بالمعنى الحرفي للنصر فهو أن تمرغ الأنف الروسي بالطين الأوكراني و تهين مؤسساته العسكرية و السياسية و تستنزف مؤسساته الاقتصادية. مزيدٌ من المليارات على شكل عتاد و تدريب عسكري و استخباراتي هي قيد الإدراج إلى أن تنتهي الحرب، كما يأمل الناتو بالقيادة الأمريكية، بالهزيمة الروسية. روسيا تدرك ذلك جيداً.

لنفترض انتصاراً روسياً وانتصاراً أوكرانياً ناتوياً. و لندرس التبعات علي الخليج العربي والشرق الآسيوي.

لو انهزمت روسيا أو فشلت أن تقص أجنحة أوكرانيا كما تود فالمتوقع هو ارتداد الفشل عليها داخلياً و بتدخل غربي بكامل قوته لتغيير الوجه و الجوهر السياسي الروسي بدءً بالقيادة. الغرب يريد رأس روسيا ولن يردعه إلا عناد روسيا آنذاك و تهديدها بأخذ العالم للجحيم النووي. قد يعود الاستشراس للقفاز الحريري بعد هذا التهديد لكن الغرب لن يتراجع طالما الحرب النووية مجرد تهديد من بلدٍ جريح و سوف يبذل الجهود المتواصلة لتفتيت روسيا علي غرار ما فعل للإتحاد السوفييتي. مثيرٌ الآن أن تطلب وكالة الاستخبارات الأمريكية تعاون مواطنين روساً يعارضون حكومة بلادهم. المخفي أعظم بالطبع فحرب التجسس بين الدولتين لا تقف كما هو معروف لكن هذا الطلب ليس للتجسس بل لاستزراع الفتن الداخلية. وحصار روسيا جغرافياً باستمالة جوارها ضدها من جمهورياتٍ سوفييتية سابقة هو مشروعٌ لا يهدأ. غداً ستطل نغماتٌ مختلفة داخل روسيا تطالب بالحقوق وتدعو للانفصال. ربما ترى داعش هناك أو نازيةً متجددة. كل هذا ممكن ويجري العمل عليه. المطلوب هو تقويض الأمن الداخلي الروسي باستثارة النعرات والقلاقل و أحداث التخريب البسيطة و المعقدة لأن كل حدثٍ مما يزعزع ثقة المواطن بدولته و أجهزتها هو هدفٌ لغاية أكبر. الحلم الغربي هو رفع الراية القزحية في روسيا تمثيلاً لاستسلامٍ مجتمعي وسياسي. روسيا المفضلة للغرب هي بولندا الحاضر. هذا لو انهزمت روسيا بأوكرانيا.

أما إن انتصرت فسيكون العالم قد نحى نحو توازنٍ لا تفرضه فحسب قوة روسيا أو فشل الغرب هزيمة الروس، ولكن تفرضه المعرفة و الثقة و حرية اختيار الدول الأصغر التي ستميل لروسيا باطمئنانٍ مبتعدةً عن سطوة الغرب. عالمٌ جديدٌ سنرى فيه اضمحلال الاعتماد علي الآليات المالية الغربية و تنامي تلك المبتكرة في الشرق. عالمٌ فيه إعادة توزيعٍ للأدوار يمس المنظمات الدولية و الأحلاف و الكارتيلات الكبرى. عالمٌ لن تختفي منه النزاعات لكنها لن تُدار بعقل و أهداف الغرب فقط. وعالمٌ ستتميز فيه الدول باختيارها أين ستقف لا أن يُفرضَ عليها موقف. شرقا أم غرباً أم محايداً و بوضوح.

خليجياً سيكون من الصعب مقاومة آثار هزيمةٍ روسية و في هذه الحالة سنرى بلا شك هجمةً قاسمةً علي إيران واستشراساً لتغيير نظام حكمها و هو الذي بدأ فعلاً منذ سنين لكنه بغياب روسيا سيكون المضي فيه من الأسهل و الأسرع و الأكثر لا مبالاةً بنتائجه. فوضى غياب إيران العقائدية لا يعلمها إلا الله لكن الغرب يأمل عندها بانتقالٍ سريعٍ و لحكمٍ موالٍ يلتف حوله الإيرانيون و يستعين به الغرب لإعادة إيران لما كانت عليه قبل عام ١٩٧٩. و لو سادت روسيا بمعركتها الأوكرانية فإن صداقتها، أو لو بالغت و قلت حلفها مع إيران سيصد محاولات الغرب و “إسرائيل” و سيكرس إيران قوةً إقليميةً. وسيكون علي العرب في هذه الحالة أن يقرروا كيف يتجهون في علاقاتهم مع إيران و أظن أن نوعاً من التفاهم يجب أن يكون بين الطرفين برعايةٍ روسيةٍ تفرض واقعاً في الخليج يوازن النفوذ الغربي فيه و يحفظ العرب و إيران من المواجهة باتباع سياسات حسن جوار و تعاون. أو قد يلجأ العرب للانحياز للغرب لكنهم سيعلمون أن مستقبل الخليج العربي سيكون قد دخل جموداً من التوازن المبني علي شرقٍ وغربٍ من الأضداد المتحاربة. لم أنس تركيا وهي الرابح الأكبر سواء انتصرت روسيا أم انهزمت لأنها اتخذت موقفا سياسيا و عمليا جعلها حجر الطاحون الأساسي يأتيه كل من يريد القمح، حرفياً. و بوزنها فإن التوقع أن يتمدد نفوذها وقدرتها علي التغيير في المنطقة الأوراسية و العربية.

 قد تستبق “إسرائيل” نهاية الحرب الأوكرانية وهي كما نعلم تجهز مع الولايات المتحدة لضرب إيران قبل وصول الأخيرة لمرحلة السلاح الذري أو تعاظم قوتها الصاروخية العابرة للقارات. من شأن هذا أن يضع المنطقة برمتها في أتون حربٍ ضروس وأن يتسبب بأزمةٍ عالميةٍ تجعل من حرب أوكرانيا مجرد نزهة.

في الشرق الآسيوي تبقى كوريا الشمالية وتايوان بؤرتي الحدث. مما لا شك فيه أن انتصاراً روسياً سيعزز مواقف كوريا الشمالية والصين والعكس صحيح. لكن موقف كوريا الشمالية يعتبر بهشاشةِ موقف إيران في نظر الغرب الذي يريد نزع أسلحتها وترويضها. وربما لا ترضى الصين تماماً عن كوريا الشمالية لكنها لن تسمح لنفسها أو غيرها اجتياز حواجز الكرامة والسيادة الكورية الشمالية. الروابط الآسيوية والعقائدية تعزز العلاقة وتسمح لكوريا الشمالية أن تلعب دور الشقي المتحدي لأمريكا في شبه الجزيرة الكورية وهو دورٌ ترضى عنه الصين و تقيده عندما يتمادى. لكن تجاوز الغرب الخطوط هنا أصعب منه عن الوضع الإيراني فكوريا الشمالية تستطيع الرد النووي الشامل. ولذلك نستنتج أن توازن الرعب يسود في هذه المنطقة بفضل الصين، وسلاح كوريا الشمالية النووي، وبغض النظر عن انتصار روسيا من عدمه في أوكرانيا.

أما تايوانياً فإن انتصارا روسيا سيكون له الأثر المعنوي الإيجابي للصين لكنه ليس المحرك أو المثبط لسياسة النفس الطويل الصينية وإظهار القوة الضاغطة عسكريا والإصرار السياسي علي تبعية الجزيرة للصين وهي السياسة المتبعة فالصين ليست بوارد انتزاع تايوان عسكريا وستنتظر نضوج التايوانيين لطلب العودة للوطن الأم. كيف سيكون ذلك؟ بمزيجٍ داخل تايوان من بناءِ الولاء والإقناع بغيابِ فكرة أن الغرب قادر أن يحمي تايوان للأبد وأن المكان الأفضل لها هو مع الصين. وفي لحظةٍ ما سترى العلم الصيني في تايوان على غرار هونغ كونغ وماكاو.

بعد أوكرانيا، سيعود العالم فائق التقنية لحقبة الخمسينات ولغاية التسعينات من القرن الماضي و الاستناد للبقاء سيكون علي توازن الرعب النووي الكوني و هذه المرة الإقليمي. فإن أرادت قوة أن لا تتأثر بتبعات أوكرانيا و انتصار أو هزيمة روسيا فعليها أن تتبع سياسة تركيا و الصين و كوريا الشمالية و إيران! أن تخيف أكثر مما تخاف. وإذا أراد العرب أن يحتلوا مكانة في العالم القادم سريعا فعليهم أن يلملموا شعثهم فالبقاء فيه سيكون صعبا علي أي شاطئ رست فيه سفينة أوكرانيا إلا للأقوياء جدا.

 

علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق