أجرت السلطات الروسية استفتاءا فى أربعة جمهوريات شعبية فى أوكرانيا وكانت النتيجة رغبة السكان فى أن ينضموا إلى الاتحاد الروسى وبالفعل اعتبر الرئيس بوتن أن حدود روسيا مع أوكرانيا هى الحدود الخارجية لهذه الجمهوريات وحذر من محاولة استرداد هذه الاراضى لأنها أصبحت جزءا من الاتحاد الروسى وأعلن أنه مستعد للدفاع عن الاراضى الروسية حتى لو أستخدم السلاح النووى وقد أدان الغرب هذا الاستفتاءعلى أرض أوكرانية كما أدانه الامين العام للأمم المتحدة وقد اعتبر الرئيس بوتن أن الاستفتاء ينسجم مع القانون الدولى بينما اعتبر أمين عام الأمم المتحدة هذا الاستفتاء انتهاكا للقانون الدولى ومادام الطرفان قد اعتبرا هذا الاستفتاء وفقا للقانون الدولى فما هو القانون الدولى الذى يسنند إليه الطرفان.
لايمكن الاجابة على هذا السؤال بدون خلفية تاريخية عن تاريخ هذه الاقاليم ووضع اوكرانيا فى اطار الامبراطوية الروسية والاتحاد السوفيتى فقد كانت اوكرانيا احدى الجمهوريات الكبيرة فى الاتحاد السوفيتى وبها ربع الطاقة النووية السوفيتية وكذلك الاسطول البحرى للاتحاد السوفيتى فى البحر الأسود ورغبة من الرئيس ستالين فى تغليب العنصر الروسى على الاجناس الأخرى فأنه عمد إلى توزيع الروس على كل الجمهوريات كرباط سكانى يحافظ على الوحدة الاقليمية للاتحاد السوفيتى وكانت اوكرانيا هى الحد الخارجى للحدود السوفيتية مع الغرب ولذك أوصى ستالين بأن يتم توطين السكان الروس فى الأراضى السوفيتيه فى أوكرانيا ومعنى ذلك أنه لم يكن هناك حق للجمهوريات في الانفصال أو الحكم الذاتى بعيدا عن موسكو فقد كان الحزب الشيوعى مسيطرا على كل الجسد السوفيتى بل أن الرئيس بريجنيف ابتدع للاتحاد السوفيتى ما يسمى بالسيادة المشتركة ومعنى ذلك أن جسد الاتحاد السوفيتى كله يتمتع بالسيادة ولا يجوز توزيع هذه السيادة على أعضاء الجسد وسميت نظريته بالسيادة المحدودة .
وعند هذا الحد بدأ الغرب مؤامرته بعد تفكيك الاتحاد السوفيتى وتغير نظام الحكم فى أوكرانيا بعد أن كان النظام فيها مواليا تماما لموسكو فى اطار الرابطة الجديدة وكانت شبه جزيرة القرم تابعة لروسيا القيصرية وقد آلت إليها من الدولة العثمانية بعد هزيمة الأخيرة فى الحرب ونص اتفاق باريس عام 1856 على ذلك صراحة ولذلك فإن رئيس الوزراء خورتشوف أهدى إلى أوكرانيا شبه جزيرة القرم عام 1953 بحسبان أنها أراضى سوفيتية ولا فرق بين الجمهوريات ولذلك فأن استرداد بوتن لهذه الجزيرة عام 2014 كان عملا مشروعا.
هذه الخلفية التاريخية اساسية فى فهم مؤامرة الغرب على الاتحاد الروسى من باب أوكرانيا بعد أن نجح الغرب من خلال الثورات البرتقالية فى تنصيب حكومة موالية للغرب ومعادية للاتحاد الروسى. والجمهوريات التى تم الاستفتاء فيها يسكنها العرق الروسى ولذلك لايمكن الفصل بين الظروف التاريخية التى تشكل فيها سكان الجمهوريات عن التطورات اللاحقة .
فمن الناحية الظاهرية هذه الجمهوريات أرض اوكرانية بعد تفكك الاتحاد السوفيتى بينما اعتبرت موسكو أن هذه الجمهوريات روسية بحكم العلاقة العضوية بين الجمهوريات وموسكو فالأرض أوكرانية ولكن السكان روس وكان يجب أن يتم الاتفاق على حل لهذه المشكلة بين أوكرانيا وروسياولكن موسكو تساهلت مع اوكرانيا ولم تتوقع انها ستكون ثغرة امنية وما دام الحل مستحيلا فإن روسيا استندت فى الاستفتاء إلى الاسانيد الآتية :
الأول: هو حالة العداء بين روسيا والغرب وتعاون أوكرانيا فى المؤامرة على روسيا وقد لوحظ أن بوتن فى كلمته أمام البرلمان الروسى (الدوما) كرر عدة مرات أنه يأسف لتفكك الاتحاد السوفيتى وأنه عازم على استعادة النفوذ السوفيتى دون الرابطة الشيوعية ومعنى ذلك أن بوتن استنهض القوميية الروسية وهى الرابط الاساسى بين سكان روسيا وسكان هذه الجمهوريات.
الثانى : أنه جرت استفتئاءات كثيرة لتقرير مصير الاقاليم التى يسكنون فيها وكان الغرب يساند هذه التجربة وعلى سبيل المثال فإن الغرب أجبر السودان على تنفيذ مخطط تقسيم السودان بدءا بجنوب السودان ولايزال مشروع التقسيم مصوبا على رقبة السودان فى شرق السودان ودارفور فقد أجبر السودان على التوقيع على اتفاقية تقضى بالاستفتاء بين سكان الجنوب فقط على مصير الاراضى فاختار السكان الانفصال عن شمال السودان رغم أن معظم مصادر الطاقة موجود فى الجنوب مع ما ترتب على ذلك من مشاكل بين الشمال والجنوب . كذلك فإن الفتوى التى أصدرتها محكمة العدل الدولية سنة 2010 بخصوص كوسوفو أكدت على أن الحق فى تقرير المصير للسكان يسبق بقاء الدولة وهكذا قضت المحكمة أن من حق كوسوفو أن تستقل مادام الاتحاد اليوغسلافى قد انفرط عقده والمعروف أن واشنطن اتخدت موقفا عدائيا من الصرب لاسباب كثيرة ليس من بينها أنهم ارتكبو المجازر ضد المسلمين فى البوسنة والهرسك ولكن أساسا أن الصرب من أصل سولافى وهو نفس العرق الروسى كما تتفق الصرب مع روسيا فى التبعية للكنيسة الارثوذكسية وقد تمادت واشنطن فى عداء الصرب لدرجة انها استصدرت قرارات من مجلس الامن بإنشاء محكمة خاصة بمجرمى الصرب وكان المرحوم فؤاد رياض قاضيا فى هذه المحكمة.
الثالث: هو أن هذه الجمهوريات هي الاطراف الخارجية للاقليم الروسى فهم منظقة عازلة بين روسيا واوكرانيا .
رابعا: أن واشنطن والغرب أيدوا الحكم الذاتى للسكان الفلسطينيين دون الأرض أى أن الأرض لإسرائيل والحكم الذاتى للسكان وذلك فى اتفاقيتى كامب دايفيد 1978 .
الخلاصة أن الوضع القانونى للاستفتاء يرتبط بتاريخ أوكرانيا وحالة الصراع السياسى الغربى بين روسيا والغرب على مدى قرنين من الزمان بالاضافة إلى السياسات الداخلية للاتحاد السوفيتى والصراع مع روسيا والرغبة الغربية فى استنزاف القوة الروسية وأخيرا قدمت واشنطن مشروع قرار فى مجلس الأمن لادانة هذا الاستفتاء ولكن روسيا استخدمت حق الفيتو ضد مشروع القرار.
السفير د. عبدالله الأشعل كاتب ودبلوماسي مصري