مع اقتراب سنة 2022 من نهايتها يعيش العالم وسط سلسلة متنامية من الأزمات التي تهدد بكوارث تمس الكل تقريبا قد تكون أكبرها حرب عالمية ثالثة تستهدف فيها آلاف الرؤوس النووية وغيرها من الأسلحة الملقبة بأدوات الفناء الشامل كل أرجاء الأرض.
الحرب في وسط شرق أوروبا التي بدأت مرحلتها الثانية في 24 فبراير 2022 تزداد حدة وتتأرجح بالقرب من نصل السلاح النووي، وفرضيات إنهائها بالتفاوض متقلصة والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة مقتنع بأنه أمام امتحان مصيري وأن انتصار روسيا في المواجهة يعني نهاية حقبة هيمنته وبداية عهد نظام عالمي جديد قائم على تعدد الأقطاب وما سيفرزه من تحسن حظوظ دول العالم الثالث أو التي يحب بعض المحللين وصفها بالدول النامية، في تحقيق ضبط إيجابي لأوضاعها الاقتصادية والسياسية والإفلات من مقصلة التدخلات والعقوبات واستنزاف ثرواتها من طرف الأقوى منها.
بالنسبة لروسيا فإن خروجها بدون مكسب واضح من الصراع في وسط شرق أوروبا يعني بداية المرحلة الثانية من الانهيار التي كان تفتت الإتحاد السوفيتي في العقد الأخير من القرن العشرين مرحلتها الأولى. والساسة في موسكو وخارجها يدركون أن هدف تحالف الناتو وعلى رأسه الولايات المتحدة كان دائما تفتيت ما تبقى من روسيا القارية إلى دويلات متنازعة وتمكين المؤسسات والشركات الرأسمالية الكبرى من السيطرة واستغلال ثروات روسيا التي تمتد أراضيها من وسط أوروبا وبحر البلطيق إلى أقصى شرق آسيا على المحيط الهادئ ومن وسط آسيا حتى القطب المتجمد الشمالي.
رغم أن الصين ليست طرفا ظاهرا في الصراع الدائر بين روسيا والغرب في أوكرانيا فإن عدم فوز الكرملين يشكل ضربة قاسية وربما قاتلة لطموح بكين في تعديل النظام العالمي اقتصاديا وسياسيا، ويفتح الباب على مصراعيه لقيام واشنطن وحلفائها بتركيز ضغوطهم على بكين لتحويلها في أفضل الأحوال إلى قوة إقليمية مهددة بشكل دائم ومجبره على الإذعان لمطالب وإملاءاتخصومها.
رغم أن الهند ليست محسوبة على المعسكر المتعاطف أو على الأقل غير المعادي لموسكو فإن مصالحها في نهاية المطاف كدولة تسعى لأن تكون لها مكانة دولية تتلاءم مع قوتها الاقتصادية والبشرية والعلمية تستوجب نهاية نظام القطبية الأحادية. يمكن أن نضم إلى الهند في خياراتها بشأن شكل التوازنات الدولية مجموعة من القوى الإقليمية كإيران وتركيا وبقية دول مجموعة "بريكس" التي تضم كلا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، والتي تحاول مقارعة تكتلات كبرى مثل مجموعتي السبع والعشرين.
بلا شك فإن خروج نظام سياسي واقتصادي عالمي جديد سيتم، ولكن متى؟ سيتوقف ذلك على طبيعة الصراع ونجاح دول البريكس وغيرها في مراكمة مكاسبها الاقتصادية والسياسية في مواجهة أمريكا وأوروبا.
صراع الحضارات
المواجهة التي يحب البعض نعتها بصراع الحضارات أو مواجهة الشرق والغرب لها جوانب متعددة، اليوم تبرز فيها تطورات الساحة العسكرية وإفرازات الحرب الاقتصادية.
كتب المحلل أسامة الغزالي حرب:
في نظرية صراع الحضارات التي قدمها عالم السياسة الأمريكي صموئيل هنتينجتون فى التسعينيات من القرن الماضي، قسم هنتينجتون عالم ما بعد الحرب الباردة إلى الحضارات: الصينية، واليابانية، والهندية، والإسلامية والغربية والأرثوذكسية، والإفريقية، ثم الأمريكية اللاتينية. فهل تفسر نظرية صراع الحضارات الحرب وسط شرق أوروبا...؟ قد تسهم تلك النظرية مثلا في تفسير حرب بين الهند وباكستان...؟ أو بين أوروبا وروسيا.؟ أو بين ثوار أفغانستان والولايات المتحدة، مثلما كان يمكن أن تسهم في تفسير الحروب الاستعمارية فيإفريقيا، حروب الرجل الأبيض ضد السود، أو قد تسهم فيتفسير الصراعات ضد الأقليات المسلمة في عدد من دول العالم... إلخ. ولكن هذا الأمر لا ينطبق – للوهلة الأولى -على الحرب الأوكرانية الروسية، فكلاهما ينتمي لنفس الحضارة (الأرثوذكسية) وفقا لـ تصنيف هنتينجتون، ولكنه استطرد مع ذلك في كتابه إلى إمكانية أن تنقسم أوكرانيا بين السلاف الأوروبيين في غربها، والسلاف الروس في شرقها. وهذا طبعا انقسام حضاريوثقافي، غير أنني أتصور أيضا أن فرضية الصراع الحضاريالتي طرحها هنتينجتون قد تفسر لنا بشكل أوضح الحماس والاندفاع الغربي المحموم إلى مساعدة أوكرانيا بكميات هائلة من الأسلحة المتقدمة، والتي ظهرت تأثيراتها على ارض المعارك. إن أحد الأسئلة المنطقية والبسيطة التي يمكن أن تطرأ على ذهن أيمراقب للحرب في أوكرانيا.... لماذا لم تحاول دول أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة، القيام بأي وساطة جادة بين الطرفين ..؟ أليس هذا الافتراض ممكن نظريا..؟ ولكن على العكس تماما، بدا وكأن الانزلاق الروسي إلى الحرب مع أوكرانيا قدم فرصة ذهبية للغرب كي يسعى لإرهاق روسيا إلى أقصى حد، أو حتى إذلالها، فيصراع واضح للحضارة الغربية مع الحضارة الروسية الأرثوذكسية.
عصر أمريكي ينتهي
كتب المحلل السياسي الأمريكي روس دوثات في صحيفة نيويورك تايمز حول الحرب في أوكرانيا وتحالف الغرب ضد موسكو: إنه من الممكن أن يكون بوتين قد افترض أن الغرب فاسد للغاية وأن من السهل شراءه، للحد الذي ستمر معه نوبات الغضب ويستأنف علاقته المعتادة معه في السابق دون أي عواقب طويلة المدى خاصة بعد الفشل الكارثي للغرب في العراق وأفغانستان. لكن لنفترض أنه يتوقع حدوث بعض هذه العواقب بما في ذلك مستقبل أكثر عزلة لبلاده، فما الذي يدفعه لاختيار هذا الطريق؟.
قد يكون الجواب هو أن بوتين يعتقد أن عصر قيادة أمريكا للعالم في نهايته لا محالة، وأن بعض الجدران التي فرضها وباء كوفيد 19 ستبقى في كل مكان، وأن الهدف خلال الـ50 عاما المقبلة هو تعزيز ما يمكن تعزيزه من الموارد والمواهب والشعوب والأراضي داخل أسوار حضارتك الخاصة.
وانطلاقا من هذه الرؤية، فإن المستقبل ليس لإمبراطورية عالمية ليبرالية، ولا يحمل حربا باردة متجددة بين قوتين عالميتين متنافستين. بل المستقبل لعالم مقسم إلى كتل مما أطلق عليه برونو ماسيس الباحث بمعهد هدسون الأمريكي "حضارات دول"، وهي قوى عظمى متماسكة ثقافيا لا تطمح للهيمنة على العالم، بل تطمح لأن تكون عالمها الخاص بها على حدة، تحت مظلتها النووية الخاصة.
هذه الفكرة، التي تحمل رائحة حجج المنظر السياسي الأمريكي صامويل هنتنغتون في "صراع الحضارات" الذي راج في الجيل الماضي، تؤثر بوضوح على العديد من القوى الصاعدة في العالم -من أيديولوجية هندوتفا (Hindutva) التي يتبناها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى التحول ضد التبادل الثقافي والتأثير الغربي عند شي جين بينغ رئيس الصين.
ويأمل ماسيس أن يقود ضرب من الحمية للحضارة إلى إعادة إحياء أوروبا، وربما توفر مغامرة بوتين حافزا لتماسك قاري أقوى. وحتى داخل الولايات المتحدة، يمكن أن ينظر إلى عودة ظهور القومية الاقتصادية والحروب المتعلقة بالهوية الوطنية على أنها تحول نحو هذا النوع من الاهتمامات الحضارية.
في ضوء ما سبق، تبدو حرب أوكرانيا ضربا من التمسك الشديد بالحضارة، ومحاولة لتشكيل ما يطلق عليه الكاتب القومي الروسي أناتولي كارلين "العالم الروسي" باستخدام القوة، أي خلق "حضارة تكنولوجية قائمة بذاتها، مكتملة بنظامها البيئي الخاص وبتكنولوجيا المعلومات الخاصة بها.. ومشروعها الفضائي، ورؤيتها التكنولوجية.. تمتد من بريست في بيلاروسيا إلى فلاديفوستوك أقصى شرق روسيا".
والهدف هنا ليس إشعال ثورة عالمية أو غزو العالم، بل الاحتواء الذاتي الحضاري وتوحيد "تاريخنا وثقافتنا ومساحتنا الروحية" كما عبر عن ذلك بوتين في خطابه عن "الحرب مع بعض الأطفال الضالين".
وإلى أي حد ستكون الرؤية القومية للاكتفاء الذاتي الروسي خيالية، ألا يمكن أن ينتهي المطاف بروسيا الكبرى -وفق رؤية بوتين- إلى أن تكون مجرد عميل أو تابع للصين تجذبها جاذبية بكين الأقوى إلى علاقة أكثر تبعية كلما زادت علاقاتها معها وضعفت روابطها بأوروبا؟.
هل تستمر الحرب إلى ما لا نهاية؟
جاء في تقرير نشره موقع Responsible Statecraft الأمريكي "إدارة الدولة المسؤولة" نهاية شهر سبتمبر 2022:
هناك إجماع على أن الرئيس فلاديمير بوتين لن يتراجع عن ضم الأراضي الأوكرانية مهما حدث، فماذا لو استمرت إدارة جو بايدن في دعم أوكرانيا لتحقيق نصر عسكري على روسيا؟.
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، قد دخل مرحلة جديدة من التصعيد خلال الأيام القليلة الماضية، إذ أعلن بوتين رسميا، الجمعة 30 سبتمبر، ضم 4 مناطق أوكرانية إلى أراضي الاتحاد الروسي، رغم التنديد الأمريكي والغربي.
أوكرانيا والدول الغربية ترى أن الاستفتاءات على ضم لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوروجيا إلى روسيا باطلة وتهدف لتبرير الضم وتصعيد العمليات القتالية بعد قرار باستدعاء جزئي لقوات الاحتياط، إثر خسائر تكبدتها موسكو مؤخرا في أرض المعركة.
يزيد التصرف الروسي من تعقيد جهود البحث عن تسوية سلمية نهائية، لأن أوكرانيا ودول الغرب لن تقبل عملية الضم أو تعترف بها رسمياً. وعلى الناحية الأخرى، سيصبح من الصعب على أي حكومة روسية مستقبلية أن تتخلى عن هذه الأراضي بموجب الدستور، وأصبح ذلك أمرا محسوما بمجرد إعلان بوتين عنضمها إلى روسيا رسميا.
ومع ذلك سيكون من الضروري التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار لإنهاء الحرب الشاملة في مرحلة ما، إلا في حال تحقيق أحد الطرفين نصرا كاملا، وهو أمر مستبعد للغاية.
فبطبيعة الحال لا يمكن أن تستمر الحرب إلى الأبد، خاصة أن تأثيرها المدمر لا يقتصر على طرفيها المباشرين، أو روسيا وأوكرانيا، ولا حتى على الأطراف الداعمة لكييف كأمريكا وحلفائها من دول الاتحاد الأوروبي، لكن العالم أجمع يعاني بشدة من تداعيات تلك الحرب الاقتصادية.
والأهم من ذلك هو أن طبيعة الخطوة الروسية تزيد أهمية دخول واشنطن وموسكو في محادثات مباشرة، لمنع توسع الحرب وتصعيدها إلى مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا. إذ قد تؤدي هذه المواجهة لتبادل القصف النووي في أسوأ السيناريوهات، ومن ثم تدمير الحياة البشرية بصورتها الحضارية الحالية.
وهذا السيناريو الأسوأ أصبح أقرب من أي وقت مضى، باعتراف الجانبين. ألكسندر دوغين، الفيلسوف الروسي الملقب بعقل بوتين، يرى أن شبح الحرب العالمية الثالثة يقترب بالفعل.
"نحن على شفا حرب عالمية ثالثة يدفعنا إليها الغرب بهوس شديد، وهذا لم يعد تخوفا أو توقعا، هذه حقيقة. روسيا في حالة حرب مع الغرب الجماعي، مع الناتو وحلفائهم (وإن لم يكن مع الجميع- تركيا واليونان لديهما موقف خاص بهما، وعدد من الدول الأوروبية، في المقام الأول فرنسا وإيطاليا- وليس فقط فرنسا وإيطاليا- لا ترغب في المشاركة بشكل فاعل في الحرب مع روسيا). ومع ذلك، فإن خطر نشوب حرب عالمية ثالثة يقترب"، بحسب ما جاء في مقال نشره دوغين خلال الثلث الأخير من شهر سبتمبر.
مسؤولية بايدن عن الحرب
لا شك أن صعوبة إجراء محادثات سلام مباشرة بين أوكرانيا وروسيا الآن تفرض على إدارة بايدن تحمل مسؤولية أكبر عن الجهود الدبلوماسية لاحتواء وتقييد الصراع، بحسب تقرير الموقع الأمريكي، بعنوان "عمليات ضم بوتين للأراضي تجعل المحادثات الأمريكية-الروسية أكثر أهمية من أي وقت مضى". وإذا لم تفعل إدارة بايدن ذلك فسوف تكون قد تخلت فعليا عن مسؤوليتها عن حماية الولايات المتحدة والشعب الأمريكي من المخاطر التي تهدد بقائهما.
وليس هذا الخطر افتراضيا أو تخمينيا على الإطلاق. حيث ردت إدارة بايدن على خطوات روسيا العدائية بزيادة دعمها لأوكرانيا قبل وأثناء الحرب. بينما ردت الحكومة الروسية في كل مرة بالتصعيد أكثر، وإذا استمرت دورة التصعيد الحالية دون رقيب فسوف تتحول فكرة اندلاع المواجهة النووية المباشرة بين أمريكا وروسيا إلى احتمالية قائمة.
وفي هذا السياق، من الضروري تذكر دروس الحرب الباردة وسط هذه الظروف الخطيرة بصورة استثنائية، حيث تكاتفت الولايات المتحدة مع حلفائها في أوروبا الغربية أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، بهدف الحيلولة دون انتشار أوسع للقوة السوفييتية والشيوعية الستالينية داخل أوروبا. ونجحت الولايات المتحدة في مساعيها التي تمخضت عن احتواء الاتحاد السوفييتي، قبل انهيار الشيوعية السوفييتية في النهاية.
ورفضت إدارة أيزنهاور في الوقت ذاته فكرة "دحر" القوة السوفييتية في أوروبا بالوسائل العسكرية، مجادلةً بأن هذه الإستراتيجية ستؤدي إلى حرب نووية عالية المخاطر وستنتهي إلى تدمير أجزاء كبيرة من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة على حد سواء.
نجحت الولايات المتحدة في تجنب الحرب بفضل هذا القرار من جانب إدارة أيزنهاور (وقرار السوفييت عدم المخاطرة بالإبادة النووية عن طريق استعراض تفوقهم العسكري داخل أوروبا). ودشنت خطوط الاتصال بين موسكو وواشنطن بمرور الوقت لتقليل مخاطر التصعيد غير المقصود.
لكن خطوط الاتصال انقطعت بصورة كبيرة في الوقت الحالي. وأصبحت الروابط الدبلوماسية محدودة اليوم أكثر من أحلك فترات الحرب الباردة. وتوقفت الاجتماعات بين المسؤولين رفيعي المستوى بالكامل. لكن الأمر المنطقي على النقيض هو أن الاتصالات تصبح شديدة الأهمية عندما تكون العلاقات بهذه الدرجة من السوء.
ماذا لو استمر عدم التواصل؟
ويجب على واشنطن وموسكو بدء المحادثات اليوم من أجل تجنبالتصعيد لحرب نووية، ما سيسمح بتقديم ضمانات سرية وموثوقة من الجانبين. ويذكر أن الطرفين حافظا على مثل هذه السرية في اتفاقية الرئيس كينيدي لسحب الصواريخ الأمريكية من تركيا مقابل سحب الصواريخ السوفييتية من كوبا. ويجب أن ترتبط هذه الضمانات أولا وقبل كل شيء بالقضايا التي قد تؤدي لاندلاع حرب مباشرة وصريحة بين البلدين.
إذ يجب أن تقدم روسيا ضمانات لواشنطن بأنها لا تنوي مهاجمة أي من الدول الأعضاء في الناتو. بينما يجب أن تضمن واشنطن لموسكو عدم اتخاذ أية خطوات لحصار معقل كالينينغراد الروسي، وأنها ستتوقف عن دعم الهجوم الأوكراني الذي يستهدف استرداد القرم والاستيلاء على قاعدة سيفاستوبول البحرية. كما يتعين على كل جانب تقديم الضمانات بعدم تخريب البنية التحتية للآخر.
وتقتضي عملية التحرك نحو هذه المحادثات أن يفهم مسؤولو الولايات المتحدة أن ضم روسيا لتلك الأراضي يمثل تصعيدا خطيرا للغاية، لكنه يدل في الوقت ذاته على تراجع هائل للطموحات الروسية اليوم مقارنة بالأشهر الأولى من الصراع.
وأدى التراجع الروسي في خاركيف إلى إجبار روسيا على زيادة قواتها مع تقليص أهدافها أكثر. ويبدو أن هدف بوتين يتمحور الآن حول فرض السيطرة الروسية الدائمة على جزء من شرقي أوكرانيا (باستثناء مدن خاركيف وأوديسا ودنيبرو)، حتى يتمكن من صد انتقادات المتشددين الروس ويؤكد أمام الشعب الروسي أن هجومه على أوكرانيا قد حقق نوعا من النجاح لروسيا.
حيث نص آخر تصريح روسي على أن "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا يجب أن تستمر حتى "تحرير" منطقة دونباس على أقل تقدير. ويمثل هذا التصريح مؤشرا قويا على التخلي عن أي طموحات أكبر فعلياً تحت تأثير الواقع العسكري.
ويأمل بوتين أن يبرر مطالباته للشعب الروسي بتضحية أكبر في سبيل دعم الحرب، وذلك عن طريق تصوير الحرب بأنها دفاع من روسيا عن أراضيها في مواجهة الهجوم الأوكراني المدعوم من الغرب. لكن هذا هو ما يزيد خطورة الوضع الراهن، ويزيد إلحاح إجراء محادثات مباشرة بين واشنطن وموسكو.
الخلاصة هنا هي أن الرئيس الروسي بوتين لن يتراجع بأي حال من الأحوال عن موقفه الحالي، المتمثل في الاحتفاظ بالمناطق الأوكرانية التي أعلن عن ضمها، وهذه الحقيقة عليها إجماع من المحللين والمسؤولين الغربيين أنفسهم، ما يعني أنه في حالة تعرض القوات الروسية لهزائم أخرى، على غرار ما حدث في خاركيف، سيكون استخدام الأسلحة النووية خيارا واردا وبقوة، فهل حان الوقت للتواصل بين بايدن وبوتين بأي شكل من الأشكال، أم تقع الكارثة في أية لحظة؟.
اليوم، ربما تمتلك روسيا في المسرح الأوروبي ألفي رأس حربي من الأسلحة النووية الصغيرة أو التكتيكية، وفقا لهانس كريستنسن، مدير مشروع المعلومات النووية في اتحاد العلماء الأمريكيين، وهي مجموعة خاصة في واشنطن. ولدى الولايات المتحدة ما يقرب من 100 في أوروبا، وهو عدد محدود بسبب الخلافات السياسية الداخلية والتعقيدات السياسية المتمثلة في نصب هذه الأسلحة في دول حلف الناتو، التي غالبا ما يقاوم سكانها ويحتجون على وجود هذه الأسلحة.
حول الإخفاقات بالقرب من ليمان
كتب المحلل الروسي ألكسندر نازاروف يوم 2 أكتوبر 2022:
في الحقيقة، كل شيء بسيط. فحجم الجيش الصغير يفسر الانسحاب من كييف وكذلك النكسات الأخيرة بالقرب من إيزيوم وليمان.
ربما أخطأت هيئة الأركان العامة، لكن الجنرالات يقاتلون بما تمنحهم السلطة السياسية من عدد الجنود.
الجيش الروسي ليس لديه ما يكفي من الجنود لبناء خط دفاع مستمر، خاصة في المناطق الثانوية. ولتصحيح الوضع، من الضروري إجراء التعبئة. ومع ذلك، هناك عدة أسباب وراء تأخر تنفيذ ذلك بقدر الإمكان.
1) على الجانب الآخر من خط المواجهة يحاربنا جيش الناتو: جنرالات ومتخصصون غربيون، مرتزقة غربيون، طائرات غربية، أقمار صناعية، أسلحة، استخبارات، اتصالات، إدارة. من الواضح، في المجال العسكري، أن الناتو يتفوق عدة مرات على روسيا ومن المستحيل هزيمة الناتو بالأسلحة التقليدية في ساحة المعركة. على أي مستوى من التصعيد العسكري، فالغرب سوف يفوق أي مورد، من الجنود إلى الأسلحة. هذا لا يعني أنه لا يمكن كسب الحرب في أوكرانيا .. بل نستطيع الفوز، ومن أجل الانتصار هناك، علينا تحييد أوروبا من اللعبة. وبمواجهة الثلاثي "أوكرانيا + أمريكا + إنجلترا" سوف تفوز روسيا، خاصة في ظل المعركة القادمة "المحتملة" بين الأنجلو ساكسون والصين.
كان من المنطقي تقليل مشاركة الغرب في الحرب إلى درجة الضعف القصوى للعدو. بيد روسيا ورقة الطاقة ويمكن استخدامها سلاحا ضد أوروبا، لا سيما خلال موسم التدفئة. في الشتاء، من الممكن والضروري ترتيب صدمة اقتصادية تصعق الغرب، وهذه هي، إن لم تكن مضمونة، فهي على الأقل الطريقة الأكثر ترجيحا لضمان انتصارنا.
اسمحوا لي أن أذكركم أنه عندما كان هتلر يقصف بالفعل قواتنا على الحدود لجرنا إلى الرد وقيام الحرب، تلقوا أمرا من موسكو بعدم الرد على الاستفزازات الألمانية. لم يكن ذلك لأن ستالين أحمق، بل لأن البلاد لم تكن مستعدة للدخول في حرب.. فحاول بكل الطرق تأخير بدايتها، خاصة بالنظر إلى أن الاستفزازات قد حدثت بالفعل.
يبدو الوضع هو نفسه الآن، ومع تذكر خطأ ستالين، قرر بوتين التصرف أولا، لأن القتال كان حتميا. ومع ذلك، كان من الضروري أيضا إطالة أمد الحرب، وليس استفزاز الغرب للتصعيد قبل الشتاء. اكتملت هذه المهمة بشكل أو بآخر.
2) نرى أن التعبئة تولد توترا ملحوظًا في المجتمع الروسي، وهو أمر طبيعي لأي مجتمع. من الواضح أنه من المنطقي تأخير التعبئة قدر الإمكان. في حرب القوى النووية، ساحة المعركة الرئيسية هي الاستقرار الداخلي. إن خسارة أو الاستحواذ على مدينة معينة في ساحة المعركة لا تقل أهمية عن تأثيرها على الاستقرار الداخلي. لقد مرت صدمة فقدان إيزيوم، وتكيف المجتمع الروسي مع الوضع علما أن الجيش الروسي يمكن أن يتعثر، إنه أمر سيء، لكنه ليس نهاية العالم وفقدان ليمان لا يغير الوضع كثيرا، وهذا ليس خطأ جديدا، ولكنه من تبعات الخطأ الأول - نقص القوى البشرية في اتجاه ثانوي. لست متأكدا مما إذا كان يمكن تسمية هذا خطأ. بل هو اختيار أهون الشرين. ربما كان من شأن تعبئة سابقة أن تخلق مشاكل طويلة الأمد لنا.
على أي حال، تم بالفعل اتخاذ تدابير لتصحيح الوضع، سنرى التأثير في غضون أسابيع قليلة.
ومع ذلك، فأنا قلق من شيء آخر، وهذا الجانب أكثر أهمية. إن اقتصاديات أوروبا والمملكة المتحدة متزعزعة بالفعل وهي على وشك السقوط غير المنضبط. الشتاء على الأبواب، حان الوقت لإيقاف ضخ الغاز ولا أفهم لماذا لم يتم ذلك بعد. الأخطاء في استخدام سلاحنا الرئيسي في مسرح العمليات الرئيسي، على عكس الجبهة المساعدة في أوكرانيا، غير مقبولة.
مقدرات النظام الاقتصادي العالمي
في بداية التسعينيات من القرن العشرين سيطرت الولايات المتحدة على مقدرات النظام الاقتصادي العالمي من خلال منظومة العولمة وتعميم النظام الاقتصادي الرأسمالي، لكن لم يمنع هذا الصراع غير المعلن من قبل بعض الدول تجاه واشنطن والغرب.
فوجدنا أمريكا والغرب في مطلع الألفية الثالثة ينزعجان من سلوك كل من روسيا والصين بسبب سلوك صناديقهما السيادية، كما وجهت الولايات المتحدة والغرب كذلك انتقادات منذ ذلك التاريخ إلى الصين بسبب إصرارها على تخفيض قيمة عملتها المحلية تجاه العملات الأجنبية، وهو ما يعطيها ميزة في مجال الصادرات.
ومنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 هناك حركة ملموسة من قبل بعض الدول -على رأسها الصين ودول صاعدة أخرى، للعمل على تغيير قواعد اللعبة، وخلق نظام اقتصادي عالمي لا تسيطر عليه أمريكا والغرب بمفردهما، لذلك وجدنا الاتجاه نحو تفعيل التبادل عبر العملات المحلية بين بعض الدول، على رأسها الصين وروسيا وبعض الدول الآسيوية الأخرى. مع قرب نهاية سنة 2022 واستفحال الأزمة الاقتصادية العالمية يظهر أن التخلص من هيمنة الغرب الاقتصادية أصبحت أقرب.
أخطار الانهيار
تضاعف حجم الاقتصاد العالمي نحو 3.7 مرات خلال الفترة من 2000 إلى 2008، وكان هذا النمو الكبير مدفوعا بعدة عوامل، أبرزها تحرير حركة رأس المال التي نتجت عن سيطرة السياسات النيوليبرالية في جميع أنحاء العالم بموجب ما يعرف "بإجماع واشنطن"، وكان من الواضح أن مثل هذا النمو المتسارع سيتعطل في مكان ما، ونتيجة لذلك جاءت الأزمة المالية عام 2008، حيث بدأت المشاكل الخطيرة للنظام العالمي تظهر بشكل واضح.
في 2020، جاءت صدمة كوفيد-19، ثم تلتها صدمة الحرب الروسية الأوكرانية في 2022 ومحاولات الغرب المتعثرة لفرض عقوبات على موسكو، لتعيد مشاكل الاقتصاد العالمي للواجهة من جديد، خاصة مع انهيار سلاسل التوريد العالمية وارتفاع أسعار السلع الأساسية كالطاقة والغذاء.
تلاشي عصر العولمة المفرطة للتجارة، فعلى مدى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين اكتسبت القوى المناهضة للعولمة نفوذا متزايدا، وفي العقد الثالث سنشهد حدوث مثل هذا التحول. وتؤدي العوامل الجيوسياسية إلى انحياز كثير من الدول نحو النزعة الحمائية، وتساعد إستراتيجيات التحوط التي ستعتمدها كثير من الدول على تحقيق مزيد من الاكتفاء الذاتي في الغذاء والطاقة والأدوية الأساسية والموارد والتقنيات، ومن شأن تسليح الاعتماد المتبادل بين الدول -الذي يتجلى في العقوبات المسلطة على إيران وروسيا- أن يبدد تدريجيا سحر العولمة، وسيأتي رأس المال من الأنظمة المعادية للغرب.
لن يتراجع العالم في الواقع عن العولمة، لأن بعض أنواع التجارة وخاصة الخدمات ستستمر في التوسع في بعض المناطق الغربية، لكن حجم وسرعة الاندماج الذي شهده العالم منذ نحو 25 عاما لن يعود.
في تحليل في فورين بوليسي (Foreign Policy) نهاية شهر يونيو 2022 تحت عنوان لماذا هذه الأزمة الاقتصادية العالمية مختلفة؟. يرى إدوارد ألدن الأستاذ الزائر في جامعة ويسترن واشنطن أن من الأشياء الرائعة التي ظلت تميز النظام الاقتصادي العالمي منذ الحرب العالمية الثانية مرونة الحكومات في الاستجابة للأزمات الخطيرة.
وقال ألدن إن الاقتصاديات الرئيسية في العالم أثبتت براعتها في إيجاد طرق للتعاون لمواجهة التحديات الخطيرة، بدءا من التضخم المصحوب بالركود وانهيار نظام بريتون وودز في السبعينيات والأزمة المالية الآسيوية في التسعينيات إلى الأزمة المالية العالمية في هذا القرن.
غير أن سلسلة الحظ تلك ربما تنكسر أخيرا هذه المرة، ذلك أن تتابع المشاكل الحالية -كالحرب بين روسيا وأوكرانيا، والتضخم، ونقص الغذاء والطاقة، وفقاعات أسعار الأصول في الولايات المتحدة، وأزمات الديون في البلدان النامية، والآثار التي خلفتها جائحة كورونا المتمثلة في عمليات الإغلاق واختناقات سلاسل التوريد- قد تكون أخطر أزمة على الإطلاق، لأسباب ليس أقلها أن البنوك المركزية لا تستطيع طباعة القمح والبنزين على حد تعبير المقال.
ومع ذلك، هناك من المؤشرات ما يؤكد على ضرورة الحاجة لردود فعل جماعية من أجل التصدي لتلك التحديات، إذ لم يكن التعاون الدولي مطلوبا بإلحاح هذه المرة أكثر من أي وقت مضى لكن تحقيقه بدا أقل احتمالا، حسب ألدن الذي يعمل باحثا في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي الذي يعنى بالقضايا الدولية.
ومن المفارقات أن جهود التعاون "المهترئة" -وفق وصف المقال- هي ثمرة نجاحات سابقة، فقد كانت قدرة العالم في الماضي على إدارة الأزمات وتجاوز العراقيل واستعادة مسار النمو العالمي تعني أن العديد من البلدان أصبحت اليوم غنية بما يكفي لممارسة النفوذ والمطالبة بأخذ مصالحها في الاعتبار.
وتسعى دول أخرى إلى تحقيق أهداف إقليمية أو أيديولوجية ترى أنها أكثر إلحاحا من الأولويات الاقتصادية العاجلة، ونتيجة لذلك قد يكون مستحيلا إيجاد توافق في الآراء.
وضرب ألدن مثالا على ذلك باجتماع وزراء التجارة في منظمة التجارة العالمية في جنيف خلال شهر يونيو 2022، والذي كان مقررا عقده في الأصل عام 2020 ولكن تم تأجيله بسبب جائحة كورونا.
واعتبر الكاتب أن المنظمة مقيدة بشرط في لوائحها ينص على أن أي اتفاق بين أعضائها البالغ عددهم 164 دولة يتطلب إجماعا في الرأي.
ويرى الباحث الأمريكي في مقاله أنه ما من مؤسسة يمكن الاستغناء عنها بطبيعة الحال، ففي الماضي وجدت الحكومات أساليب جديدة ومبتكرة للتعاون عندما ثبت أن الأجهزة القديمة غير بارعة بما فيه الكفاية.
وتطرق المقال إلى محاولات وزراء مالية الاقتصاديات الغربية الرائدة لبناء نظام نقدي جديد بعد أن أنهى الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون قابلية تحويل الذهب إلى الدولار في عام 1971، وأدت هذه الجهود مباشرة إلى أول اجتماع قمة لمجموعة الدول الصناعية الست في فرنسا عام 1975.
وكان من نتاج ذلك أن أنشئت مجموعة الست "جي-6" (G-6) التي تطورات في ما بعد إلى مجموع السبع "جي-7" (G-7)، فمجموعة الثماني "جي-8" (G-8) لاحقا، ثم ولدت بعدها مجموعة العشرين "جي-20" (G-20) من رحم سلسلة من الأزمات المالية العالمية.
ويشير المقال إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها يعملون بهمة على إلحاق الضرر بالاقتصاد الروسي من خلال أوسع عقوبات فرضت حتى الآن على الإطلاق، وترد روسيا على تلك الخطوة بحرب البترول والغاز وتتمتع في ذلك بدعم شبه تام من طرف دول الأوبك وعلى رأسها السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وخلص ألدن إلى أنه في خضم الأزمات الراهنة ليس هناك في العالم من يقود السفينة إلى بر الأمان.
تشهد الولايات المتحدة على الصعيد الداخلي حالة من الاستقطاب وأصبحت شريكا أقل جاذبية وغير موثوق به لدى البلدان الأخرى، في حين لم يعد الوصول إلى أسواقها وتوفير التمويل السخي جزءا من ترسانة سياستها الخارجية أو قوتها الناعمة. في غضون ذلك، أصبحت الصين تشكل تهديدا للغرب كما أن تحركات الرئيس الصيني شي جين بينغ بددت كل الآمال الغربية في أن تصبح الصين دولة تتبع النهج الليبرالي أو منفتحة سياسيا.
عمر نجيب